حتى لا أبكى وحدي

الطفل الذى يُؤاخى ظلّى يجلس بندية شاهقة إلى أبيه الذى يهابه الجميع فى المنزل و بين افراد الأسرة لصرامته وحزمه فى ادارة دفة مركبه العائلي.
أستحضر بحنينية جارفة تلك الساعات الطوال بدكاننا القصديري بالقريعة حيث فائض الوقت نقضيه فى دردشات مُستمرة فى الزمن.
هو الذى بلا أصدقاء تقريبا، يعتبر الجلوس فى المقاهى عيبا، يمنح وقته كل وقته لتدبير خبز عائلته.
كنت طبعا ذلك الجلّيس رُغم أنفه، وصغر سنّه للوالد المُهاب فى ساعات الركوض الطويلة فى الحانوت، حيث تشربت بأناة تلك النتف التى حكاها لي عن رحلة الجد الهارب من جائحة الجوع بسوس العالمة، وحطه الرحال بدكالة العامرة ليتزوج وينجب ذريته التى لم يحيا منها غير الوالد وأخوه الصغير ، وكيف حقق حلم والده فى أن يُصبح فقيها حاملا لكتاب الله.
مسيرة التلقين فى مداشر الشاوية يكاد يرسم مُنعرجاتها على راحة يده، مُعدّدا لي محطاتها المأهولة بعظات الجوع وقلة الزاد والمسافات الطويلة التى عبرها راجلا, حتى المرة الوحيدة التى تدبّر فيها أمر ركوب حافلة «عريبات» ليزور عائلته، من سوء حظه أن زجاج النافذة التى كان يجلس قربها تكسر بفعل تكدسهم، جاء مساعد السائق حنقا. لم يبق غيره لاذاّ بلوحه الذى تشبت به. نقل المساعد نظراته الغاضبة بين المحاضرى الصغير وبين لوحه القرآنى الذى يشد عليه بكلتا يديه, فقال له:
أحرز عليك هاذ اللوحة
فتنفس الوالد عميقا سمق تلك الحروف وتبيّن لحظتها مدى قدسيتها ومفعولها.
بشجن أستحضر مُتوالية أحاديثه التى شحن بها تطلعى الصغير لتدبر صورة الجد، الذى حاولت ترميم أجزاء صورته التى ذابت فى عُمق التراب قبل أن يشتد عود الوالد، أكاد أحس نبض خفقان قلبه وهو يتلقى فى أحد مداشر أولاد سعيد خبر مرض والده، وضع لوحه جانبا مُمددا كشاهدة قبر على الحائط واستأذن فقيهه الذى منحه دعواته وبعض مُدود من قمح، كما تنازل له المحاضرية أقرانه عن نصف خبزة كاملة كي يشد بها أزره حتى الوصول الى مدشره بدكالة. فعلا قطع الثلاثين كيلومترا تقريبا مشيا ليدخل خيمتهم مع الغروب ، وكأن أشياءأ كثيرة ستغرب هي أيضا بعد هذا اللقاء الاخير بين الأب والابن.
أشرق وجه الجد لمرأى ولده ونبس قائلا:
قلت لكان التبارى ولدى ومن صلبى غيحضر لموتى ويدفنى
فتمتم الابن:
ستكون بخير
أوقفه وخرجا ساندا إياه ليخطو بعض خطوات ويملأ عينيه بظلال القرص الدامى المسافر الى الجهة الأخرى ، ليعود به الى فراشه حيث مدده وسند رأسه مُرتلا عليه ما تيسر من سور القرآن التى حلّقت بروحه بعيدا.
يرقد الجد هناك فى الأبدية اللانهائية باقصى مقبرة ضريح القبيلة أودعوه هناك فى الطرف القصي لأنه «برانى» مما أغضب الوالد كثيرا.
استنكر هذا الفصل والتمييز الذى مارسوه فى حق أبيه ، لم يكف أنهم لقبوه ب «ولد الشلح» بل امتد الأمر ليدفنوه فى أقصى المقبرة، أحزنه ذلك كثيرا ونغص عليه فى أحلامه البعدية.
لايقف الانسان فى وجه القدر ، لكنه لا يترك نفسه ألعوبة لأوهام قبلية، طبعا سيكمل دراسته القرآنية ويشارط فى أحد الدواويرويتزوج ويرحل نهائيا الى البيضاء.
وجهه المُقتد من صرامة مُخاتلة والحامل لبقايا تقوب ناعمة لداء الجدري الذى عبره دون أن يتمكن من اركابه عربته السرمدية، هو ما كُنا نفتح عليه أعيننا الصغيرة طيلة فصول السنة.
مُهمته المقدسة تبتدأ بصلاة الفجر فى المسجد، وعند العودة الى البيت يقرأ حصته القرآنية الصباحية ليعمل على انهاضنا من النوم لنجد الفطور الطازج البسيط الذى هيأه، فنفطر بحضرته، ليعمل بعدها على توصيلنا بدراجته «الموبيليت الحمراء» كلّ الى وجهته تراتبيا.
هل يجب عليّ أن أتحلّل وأذوب فى هذه اللحظةا الزمنية المُستقطعة من الصيرورة العامة، وأن أُسكّن أشجانى وأغوص بدموعى عميقا عميقا، وأنا أسترجع بحنينية جارفة هذا الوعي الضمنى بين الوالدين فى تقاسم المهام فيما بينهما، فى تأثيث لوحنا اليومي بشكل لم نكن نشعر بأي حيز فراغى، أو ثقل طرف على طرف ، أو تأفف ونفور وتخلّ، هم يفعلون كل ما وسعهم القيام به وأكثر، واستطعنا أنا واخوتى أن نتفاعل مع هذه التراكيب اللانهائية بين فيزياء الأبوة وكمياء الأمومة ونشتعل فى الحياة كمعجزة صغيرة.


الكاتب : أحمد شكر

  

بتاريخ : 17/06/2022