بعيدا عن البكائيات والوقوف على الأطلال، تظل واحة «تيغمرت» غير بعيد عن حاضرة جهة كلميم واد نون، راسخة في الذاكرة والوجدان ، وهي تعيد رسم معالمها من جديد، متحدية الحرائق التي التهمت جل نخيلها وبعضا من دورها التي تحيل على أزمنة وأمكنة نحتها الأسلاف بالعرق، فاتنة تظل «تيغمرت»، وعنوانا للإنسان والمعمار والجمال بكل تجلياته.
بهذه الواحة، التي تعرضت لحريق مهول أواخر شهر غشت الماضي (25 غشت)، يستحضر الزائر الصراع الأبدي للإنسان في مقاومة قساوة الطبيعة، مطلقا العنان للمخيلة مستحضرا، ربما، روايات ودواوين شعر وكلمات سطرت أمجاد الإنسان بهذه المنطقة
.
من أجل عودة الحياة
واحة تيغمرت: هي ذلك الأفق حيث تظل عملية المصالحة مع الطبيعة والنفس ممكنة، وفضاء للانصهار مع معمار ونظم بيئية ارتبطت ارتباطا وثيقا بالانسان المغربي وبصحرائه خصوصا، قديما وحديثا. كتب إعلامي سبق له أن زار الواحة وامتلأ حتى النخاع بجمالها « (…) هنا التاريخ يلمس باليدين، وتتعاقب على روعك مشاعر آسرة من الرهبة والدهش والعطش . عطش الى ذاكرة واسعة نزر منها ظاهر للعيان وجزء أكبر مدفون بتمائم الأجداد بين الرمال . بين أشجار ونخيل ورمان وقنوات مياه واحة تيغمرت الشامخة (…)» .
بالفعل، هذا الانسان، هو ذاته، وان اختلفت طرق العيش التي عاشها الأجداد الذين أشار لهم الكاتب، هو ذاته الذي هب، اليوم ، ليعيد الحياة لهذه الواحة، التي أصابها من التلف ما أصابها، ليعانق النخيل من جديد السماء، مثمرا رطبا مشتهاة، ولتغرد الطيور لحنا كان، منذ الأزل، سمفونية الواحات .تناسلت عناوين عديدة بعد الحريق ك «تيغمرت تحترق» ، «تيغمرت تستغيث» …، إلا أن الطبيعة، الأم الحانية على الإنسان، وإن قست عليه مرات، جذبت سواعد خيرة للواحة بمبادرات من جمعيات وتتنسيقيات وأفراد مستجيبة لندائها..نداء الخير والعطاء.
بالرغم من الحرائق التي تعرضت لها على مدى سنوات، تظل واحة تيغمرت، وإن بدت عليها علامات الإنهاك، شامخة بطبيعتها وتراثها وناسها.. وتحت ظلال ما تبقى من نخيلها الذي قاوم النيران تحضر كلمات محمود درويش «بدون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان». قد يكون مضمون هذه الكلمات في لا وعي كل من شارك في عمليات تنقية وتنظيف الواحة من آثار الحريق ، حتى لا تتشوه الذاكرة ولترسخ ثقافة التطوع لترميم ما تبقى الذاكرة قبل الأبنية والنخيل .
«لنحول الكارثة إلى فرصة»
«لا نعتبر واحة تيغمرت مجالا خاصا، بل هي مجال للإنسانية جمعاء» يقول عبد اللطيف الصافي منسق اللجنة المحلية لتنسيق الدعم والتضامن بواحة تغمرت لوكالة المغرب العربي للأنباء ، التي واكبت حملة تضامنية واسعة شاركت فيها فعاليات المجتمع المدني من عدة مناطق، وكذا ساكنة الواحة ، مضيفا أن « هدف الحملة التضامنية، التي اختير لها شعار «لنحول الكارثة إلى فرصة» هو أن تكون «أكثر جمالا وأكثر جاذبية وتؤدي دورها الانساني (…) فهذه الواحة ليست ملكنا وحدنا ..إنها ملك للإنسانية جمعاء».
وتعكس الحملة التي شاركت فيها جمعيات وأفراد ، جلهم شباب، ،وفق الأستاذ الصافي (مخرج مسرحي وإطار بالأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين) « روح التكافل الاجتماعي بين ساكنة المنطقة، وتسعى إلى إعادة بناء الواحة من جديد ورفع شعار اعتبره تحديا، « تحويل كارثة الحريق إلى فرصة»، وذلك في إطار برنامج واسع للجنة تحت شعار «كلنا من أجل تيغمرت» .
وبدأت الساكنة بعد مرور شهر من الحريق، بفضل جهود اللجنة وعدد من التنسيقيات والجمعيات والأفراد، «تتنفس الصعداء من جديد، وبدأت تعي واقع الصدمة وتتفاعل مع ما يجب أن يكون»
ولم يغب دور المهتمين بالبيئة، الذين ساهموا بشكل كبير في تنقية الواحة من مخلفات الحرق، منهم جمعية موارد للبيئة والتنمية، التي اعتبر رئيسها عبد الله أصفار في تصريح مماثل أن الجمعية تقوم بحملة كل يوم أحد «من أجل إحياء الواحة باعتبارها تراثا ثقافيا واجتماعيا وإيكولوجيا».
حراس الذاكرة …
يأتيك صوتهم ممزوجا بالألم، تغلب عليهم الذكريات ، لم يعد باستطاعتهم كتمان المرارة التي يشعرون بها أمام منظر مخلفات الحريق، كأن هذه الأرض غير الأرض التي ألفوها ..يحكون عن التمر والماء المتدفق والرمان والسفرجل والإجاص والتين والزيتون …إنهم الشيوخ.. هؤلاء مغروسة أرواحهم هنا، تحمل ذاكرتهم وجوه الحياة بهذه الواحة التي تحولت من كثير من النضارة الى شحوب غير مستحب. يحكي محمد تيسينت، أحد ساكنة الواحة، عن الحدائق الغناءة والثمار ..»الجنة المفقودة» التي تمنى أن تعود غناء بفضل هذه السواعد الخيرة ..يخلص «ننتظر الكثير من هذه الحملات ومن المبادرات الرسمية أيضا» لأن الكارثة «كانت كبيرة وصادمة» والتي، للأسف، انضافت لعوامل أخرى كنضوب العين بالواحة، لأسباب عدة منها حفر عدد كبير من الآبار بجوارها.ومما يؤرق حاملي هم الواحة تلك البنايات الاسمنية التي غزت هذا الفضاء الذي اعتمد منذ قرون على البيوت المبنية بالمواد المحلية الصديقة للبيئة.
والى جانب كل هذا، تحتضن الواحة عددا كبيرا من المتاحف، التي تحيل على ذاكرة، ليس فقط ذاكرة جهة كلميم واد نون بل المغرب ككل وإفريقيا أيضا.
ونظرا للأهمية الثقافية والاجتماعية لهذه المتاحف دعت وزارة الثقافة عبر المحافظة الجهوية للتراث الثقافي بجهة كلميم وادنون الى ضرورة توفر هذه المتاحف على الحد الأدنى من الشروط، أهمها وجود لوحات إرشادية لوصول للمتحف والتوفر على وسائل السلامة ومخارج الطوارئ ووضوح المسارات إليها، وتناسب مساحة المبنى مع المعروضات.
شباب وفسائل وشتلات…
لتكون فضاء يحتضن الجميع، ولتنهض من رصيد المعاناة وتصاغ واحة، كما يحلم بها الجميع، تمنح كارثة الحريق الفرصة للسواعد الشابة (ذكورا وإناثا) للإذهال بتلبيتها نداء الواحة، محولين الأبنية التي تضررت الى ورشات فنية في الصباغة والنجارة. يرممون الذاكرة قبل الحيطان والأبواب الخشبية والأسقف.. وتحدثت الطالبة خديجة الخليل، نيابة عن زملائها، عن الأشغال التي يقوم بها الشباب منها، على سبيل المثال لا الحصر، ترميم «بيت الأرملة» بالواحة كنموذج للتضامن والتكافل الاجتماعي. وفي انتظار تنزيل برنامج متكامل سيواكب البرامج الرسمية لإحياء الواحة، تتم زراعة فسائل للنخيل وربما أيضا شتائل للأشجار المثمرة التي عرفت بها تيغمرت كالرمان والزيتون والتين ،الأمر الذي يعطي الفرصة للمهتمين بتكوين الشباب على طرق الزراعة.
«إنه حنين ممزوج بالأمل في مستقبل أكثر إشراقا»… هذا ما لخصه مشهد مؤثر كانت الواحة مسرحا له أثناء الحملات التضامنية التي يجتمع فيها الكل، شيوخا وكهولا، شبابا وأطفالا، على موائد تضم منتوجات الواحة: من خبز بلدي (أفرنو) وزيت وعسل .. . تلك أشياء بسيطة، إلا أنها كانت إرهاصات لطي صفحة وبدء أخرى ..وحتى لا تبقى «تيغمرت « مجرد ذكريات جميلة نحكيها.