حجر صحي إجباري في ظروف تنعدم فيها الإنسانية : ثلاثة أيام من الجحيم في طوكيو

لم أكن أعتقد وأنا أطأ بلاد الساموراي، أن المطاف سينتهي بي محتجزا في حجرة صغيرة، لا تتعدى مساحتها 16 متر مربع، أنتظر مصيرا مجهولا، بعدما تأكد أنني خالطت الزميل يوسف بصور، صحافي جريدة «الأحداث المغربية»، حيث كنا نقيم في نفس الغرفة ونقتسم الأكل والشرب، وحتى التنقل، حيث كنا إلى جنب طيلة أيامنا الأولى بالعاصمة طوكيو، في أول مهمة رسمية لي خارج المغرب.
مرت على هذا الحال ثلاثة أيام، أبحث فيها من معلومة ولو بسيطة، تشفي غليلي، وتريح أعصابي، التي توثرت إلى حد لم أعد فيه أطيق سماع كلمة «اصبر»، لأنني أصبحت أشفق على نفسي، رغم محاولات الزملاء الصحافيين، الذين ما فتئت اتصالاتهم تخفف عزلتي، وترفع معنوياتي.

 

صدمة السبت الأسود

لم يكن يوم السبت31 يوليوز المنصرم عاديا كسائر الأيام، لأنني سأتلقى فيه خبرا هز كياني، وصدمني بشكل كبير.
أخبرني المسؤول الإعلامي باللجنة الوطنية الأولمبية، أن الزميل يوسف بصور، وبناء على التحاليل المخبرية اليومية التي فرضتها علينا السلطات اليابانية ، تأكدت إصابته بفيروس كورونا. وباعتبار أني مخالط له يجب علي الخضوع للبروتوكول المعمول به داخل التراب الياباني، وأولها الخضوع لثلاثة تحاليل متتالية، دون تفاصيل إضافية، لأن الخبر نزل مثل قطعة ثلج علينا جميعا.
طلبت أن يتم نقلي إلى غرفة أخرى بمعزل عن زميلي المصاب، لكن إدارة الفندق رفضت الأمر، وعللت قرارها بأني حالة مخالطة، وعلي انتظار الغد، حيث سأخضع لتحليل مخبري، وبناء على نتائجه سيتحدد مصيري.
توجهت إلى الغرفة، وأنا أعلم أنها مغامرة كبيرة، لأنني سأقضي ليلة بين أحضان كورونا، مع ما يرافق ذلك من قلق وخوف وعصبية، لكني مطالب بعدم إظهار أي رد فعل في حضرة زميلي، الذي بالكاد تقبل خبر إصابته، بعدما بدا خائفا جدا، بحكم أنه يعاني من مرض القلب وارتفاع الضغط الدموي.
كانت ليلة صعبة بكل المقاييس، تناسلت إلى ذهني فيها جميع أنواع الأسئلة، لكنها من دون جواب، لأقرر في النهاية تحدي نفسي وكورونا، والنوم.
وجدتني أمام خيارين، إما النوم بالكمامة، وهذه مغامرة كبيرة، لأن الغرفة تفتقد إلى التهوية، ولا يمكننا ترك باب الغرفة مفتوحا، أو النوم بلا كمامة، «واللي ليها ليها» .
اخترت الحل الثاني، لأنني لم أكن مخيرا، وفرض علي هذا الوضع بقدرة الواحد الأحد.
حاولت الابتعاد قدر المستطاع عن زميلي والالتصاق بالحائط، وكأني أبحث عن جدار صد يقيني هجوم الفيروس خلال النوم.
نمت على هذا الحال، لكني استيقظت مبكرا أنتظر موعد الفحص على أحر من الجمر، ومعرفة المصير الذي ينتظرني

نتيجة سلبية لكنها غير كافية

في التاسعة من صباح الأحد فاتح غشت، جاءت إلى باب الفندق سيارة طبية مجهزة بمعدات جد متطورة، استقبلتنا سيدة يابانية في الخمسينات من العمر. طلبت منا معلومات حول الحالة الصحية لكل واحد منا، بما فيها اللقاح الذي خضعنا له بالمغرب ونوعه، وغيرها من التفاصيل الدقيقة، المتعلقة بالأمراض والأدوية المستعملة والتدخين..
بعد ذلك أخذت لنا عينة من مخاط الأنف، وكان تعاملها لبقا للغاية، حيث كانت تعتذر عن أدنى حركة.
بعد ذلك ربطت اتصالا عبر الفيديو مع أحد مسؤوليها، حيث أخبرنني أنني مطالب بتحليلتين إضافيتين، وأنه علي الامتثال للبرنامج المعمول به في هذا الشأن، قبل أن يطلب مني التوجه إلى الفندق وانتظار النتيجة.
بعد أقل من ساعة، جاءنا شخص كان بالسيارة الطبية، حيث أخبرني أن نتيجتي جاءت سلبية، بينما حمل خبرا غير سار للزميل يوسف بصور.
طلبت مني إدارة الفندق عدم العودة إلى الغرفة المشتركة،ونقل أغراضي إلى غرفة أخرى. بقيت ببهو الفندق لمدة فاقت ثلاث ساعات، أنتظر مفتاح غرفتي الجديدة. بعدها طلبت مني مسؤولة الاستقبال التوجه إليها وأعطتني المفتاح.
نقلت أغراضي إلى الغرفة الجديدة، والتي كانت أقرب إلى الجحر منه إلى الغرفة، لأنها ضيقة جدا، ومشمسة جدا، لا يمكن فتح الستائر، لأن أشعة الشمس حارقة جدا، ولا تتوفر على نافذة، فكنت كما لو أنني في زنزانة، لكن هذه الأخيرة توفر على الأقل المأكل والشرب للسجناء.
قلت مع نفسي لا يهم، مادمت سأستعيد حريتي بعد التحليلة الثالثة، سأصبر هذين اليومين. حاولت شغل نفسي بالعمل، حيث واصلت إنجاز التقارير وتغطية الألعاب الأولمبية من الفندق، معتمدا على إمكانياتي الذاتية المحدودة جدا، بعض المساعدة من زملائي، لتظل هذه الألعاب راسخة بذهني ما حييت.
كان انشغالي بالكتابة قد خفف عني بعض الشيء، رغم الصعوبة البالغة التي عانيتها في هذا الشأن، لأني مضطر إلى الكتابة عبر الهاتف، بعدما تعطل حاسوبي، في ثاني أيامي بطوكيو.
انتظرت طيلة يوم الاثنين حضور الفريق الطبي المكلف بأخذ العينات، ولم أكن أجد أمامي سوى الزميل أحمد نعيم، المسؤول الإعلامي باللجنة الوطنية الأولمبية، الذي سعى ما أمكن إلى رفع معنوياتي، وكان كل مرة يخبرني بأنه يضع قضيتي ضمن اهتماماته، لكنه منهمك بالدرجة الأولى على حالة الزميل يوسف بصور، التي كانت تزداد سوءا مع توالي الساعات.
كان مقررا في البداية أن يقضي فترة الحجر بكاملها في نفس الفندق الذي نقيم فيه، بيد أن تأزم وضعه الصحي والنفسي، بسبب حالة القلق الكبيرة التي كان عليها، جعلته يدخل في حالة أشبه بالغيبوبة، تطلبت استدعاء سيارة إسعاف في منتصف الليل، حيث نقل إلى قسم المستعجلات بإحدى المصحات، التي قضى بها حوالي ثماني ساعات، قبل أن يغادر صوب فندق متخصص في استقبال حالات كوفيد.
لقد غبطته على الوضع الذي انتقل إليه، لأنه على الأقل في غرفة مريحة ويأكل أكلا حلالا، ليس مثلي أنا، لا أعلم مصيري، في ظل تضارب الآراء بفعل عدم تعاون الطاقم الطبي للجنة الأولمبية الدولية، وخاصة قسم كوفيد، وكذا تشدد الإجراءات المفروضة في مثل حالتي.

أين أنا؟

أنا في أرض يابانية، بلاد تتميز باحترام القانون وتطبيقه بشكل صارم، بلاد لا مكان فيها للاستثناءات، لكنها مع الأسف بلاد تفتقد لأهم شيء في الحياة، ألا وهو الإنسانية.
لقد تركت بغرفتي محتجزا مثل الموبوء، فحتى المكلفة بخدمة الغرف، لا تقترب مني. تكتفي فقط بطرق الباب وتطلب مني تسليمها المنشاف وحاوية الأزبال وهي بالخارج، وصباح أمس الثلاثاء وجدتها قد وضعتها أمام الباب دون أن تطرقه حتي لإعلامي.
ضغط نفسي رهيب أعيشه في هذا الحجر الملعون، فقد حملني قدري على التواجد مع الشخص الخطأ. طبعا أنا مؤمن بأن القدر الإلهي هو من هيأ الأسباب، وأنه كان يمكن أن أعيش هذا الوضع، ولو بشكل مختلف، حتى في المغرب، وأن الله قدر وما شاء فعل، لكني مع ذلك، وفي لحظات من اليأس الكبير والانهيار، أبدأ في لعن اليوم الذي قررت فيه السفر إلى اليابان، ألعن كل شيء، لأنني في وضع لا يطاق ولا يمكن احتماله، رغم مساندة الزملاء الصحافيين الذين لم يبخلوا علي باتصالاتهم ودعمهم ومساندتهم اللامشروطين. وكذا اتصال الزميل أحمد نعيم شبه الدائم، حيث يطلعني على المستجدات، متى توفرت لديه، وكان يكف عن مطالبتي بالصبر، لأننا في بلد لا مكان فيه للمرونة.كان يؤكد لي في كل مرة على أنه في اتصال دائم مع المسؤول الطبي بالوفد المغربي، الذي بدوره على اتصال دائم مع اللجنة الطبية باللجنة الدولية الأولمبية، وقد أصبحت من كثرة اتصالاته ترفض الجواب على الرسائل البريدية والاتصالات الهاتفية.
وجدت صعوبة كبيرة في توفير ما أقتات به، لأن الفندق الذي نقيم به لا يوفر سوى وجبة الفطور، وبما أنه لا يمكنني مغادرة الغرفة، طلبت من الزملاء المتواجدين معي أن يجلبوا لي بعض المأكولات من الخارج، لكن رفضهم تسلم مقابلها كان أشعرني بالحرج الشديد، فقررت الكف عن طلب ذلك منهم، والاعتماد على بعض ما حملته معي من فواكه جافة وحلويات.
هذا الوضع يزيد من قلقي بشكل كبير، لأنني أجهل مصيري، في ظل عدم توفر معلومة مفصلة بشأن حالتي، وكل ما علي فعله هو الانتظار والصبر على هذا الابتلاء الإلهي.

السفارة تتدخل .. والخبر غير سار

استيقظت، أمس الثلاثاء، في وضع نفسي متدهور جدا.طلبت من جميع الزملاء الصحافيين الذين يرافقوني في هذه الرحلة «المشؤومة» أن يدعموني، أن يقوموا ولو بمبادرات صغيرة، على حسب استطاعته، المهم أن أشعر أنني لست بمفردي، خاصة بعدما علمت بأنهم تقدموا بطلب إلى اللجنة الوطنية الأولمبية لتغيير موعد عودتهم إلى المغرب. بعدما تغير مزاجهم، ولم يعد حماسهم مثلما كان في البداية.
انفجرت في وجه الزميل نعيم وطلبت منه إيجاد حل لوضعي. تميز حديثي معه ببعض الحدة، أصبت في ظلها بحالة هيستيرية، لأنني وصلت حدا لم تعد لي طاقة على تحمل المزيد من العذاب النفسي، حالة لا يمكن لأي إنسان تحمل ولو قسط بسيط منها، لأنني مجبر على قضاء يومي مستلق على ظهري، وكأنني خارج للتو من عملية جراحية. فلا يمكنني التحرك داخل الغرفة بسبب الضيق، وكذا انتشار أمتعتي في الممر بسبب عدم توفر الغرفة على دولاب.
بعدها اتصل بي طبيب البعثة المغربية، المكلف بكوفيد، وأخبرني أن وضعي في مقدمة اهتمامات البعثة المغربية، وأنني مطالب في هذا الوقت بالصبر، وانتظار نتيجة اختبار اللعاب، التي قمت بها مساء الاثنين، بمبادرة من اللجنة الطبية الوطنية، وبعدها سأقوم باختبار «بي سي آر»، وفي حال كانت النتيجة سلبية، يمكن مناقشة مسألة عودتي إلى المغرب، علما بأن القانون الياباني المعمول به في هذا الإطار يشترط الخضوع لحجر صارم مدته 14 يوما.
عاد أحمد نعيم ليخبرني بأنه بالكاد توصل إلى اتفاق مع إدارة الفندق بشأن إمكانية تغيير الغرفة، لأن التي كنت أقيم فيها مع الزميل بصور لا يمكن لي العودة إليها قبل انصرام 72 ساعة، وبعد أن يتم تعقيمها.
مباشرة بعد هذا الاتصال،تلقيت مكالمة من مستشار السفارة المغربية بالعاصمة اليابانية، حيث أخبرني أنه على اطلاع بحالتي، وأن السفارة المغربية ستتكلف بي بعد عودة الوفد المغربي، وأنه سيوفر لي الأكل الحلال بالفندق، ثم طلب مني مده برقم الغرفة وعنوان الفندق، وأن أتصل به عند كل جديد. لكنه صدمني بخبر مفاده أن مساعدته اتصلت بالمسؤولين، وكلمتهم باللغة اليابانية، التي يفضلون التواصل عبرها، فأكدوا لها أني مطالب بالبقاء 14 يوما من الحجر، وبعدها يمكن لي مغادرة التراب الوطني. شرط سيؤكد لي نعيم أنه محط تفاوض مستمر، حيث يبحثون عن حل لمغادرتي رفقة زملائي في حالة جاءت تحليلاتي المقبلة سلبية.
هي معاناة لم تكن تخطر على بالي، ولا في الأحلام، لكنها ضريبة هذه المهنة السعيدة.


الكاتب : طوكيو: إبراهيم العماري

  

بتاريخ : 04/08/2021

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

أكد على أن تعامل الحكومة مع القطاع ومهنييه يساهم في اتساع دائرة الغموض والقلق   أكد ائتلاف يضم عشر جمعيات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *