«حدائق الجنوب» .. ملف الصحراء المغربية؛

ذلك رجع بعيد يقربه الكاتب سعيد رحيم..

 


فتحت دفتي كتاب «حدائق الجنوب» وأطلقت معها النفس لاستنشاق ما تختزنه الحدائق من الروائح الزكية، فتلك خاصية الحدائق بما هي ما يفوح منها.. وتبدأ رحلة النبش مع الكاتب المغربي سعيد رحيم بما لم يكن منظورا لي ولا للصحفي صائب، إذ يحط الرحال في ما بين عبارتين؛ الأولى تجلت له من خلال «خط عريض مائل منحني من جهة الوسط الشرقي نحو جهة الجنوب الغربي يسارا: ’الصحراء الإسبانية « والعبارة الثانية وصلت إلى مسامعه من بعض التلاميذ وهم «ينبسون في ما بينهم: «إنها الصحراء المغربية المحتلة‘ « وجنب العبارتين ارتسمت أمامي عبارة كنت قرأتها ذات مرة من زمن تمدرس «الصحراء المغربية» …
فأي واحدة من العبارات تلك صمد رصاصها أمام ممحاة الزمن وقذائف مجرمي بروباغندا الحرب الإعلامية، كما يسميهم الكاتب سعيد رحيم الذي يعرف مثل هذه الحروب؟
لن تكون الوسيلة هنا شيئا آخر غير التذكر، فالحدث بالنسبة للصحفي والإعلامي «صائب» حدث قد وقع ولم يعد موجودا الآن، لن يسعفه إذن إلا التذكر لكن هل تسعفه الذاكرة الموشومة بالنسيان وبالتلف وبما يتصل بهذا من تجليات العلل والأمراض؟ غير أن كاتبا من عيار يصيب إذ يرمي، سيعلن أن صفة كل رجع بعيد هي النقصان؛ صفة يخبرنا بها في الصفحة السادسة قائلا : «وشم الذاكرة.. معنوي، غير مرئي.. كائن حي ينتظر الفرصة المناسبة لكي يفصح عن ذاتيته الملفوفة في غمامة غير مكتملة الملامح» .
يسترجع «صائب» الحدث الذي وشم ذاكرته، لم يكن ليستسيغ هو وأقرانه أمر إخضاع قضية الصحراء للاستفتاء، وها قد باتت قاب قوسين من كونها مجرد خريطة تعلق على جدران الفصول الدراسية؛ باتت الخريطة خرائط متعددة ليس لها نفس الشكل ولا نفس القياس، وأضحت معها الدهشة والتساؤل خطين فاصلين بين وعي حقيقي ووعي زائف، خيوط كليهما من شكل وقياس الخريطة، محنطة بتعليقات وشروحات كل معلم ، ورهن مسامير كل مدير والرياح التي تعبر فضاء كل مدرسة.
فجأة ينعطف الكاتب سعيد رحيم صوب بداية رحلة «صائب» التي كانت بطعم الرحيل قسرا وضدا على ما تشتهيه النفس الساكنة بين جوانح شاب اغتيل فيه نزق الشباب وشبقيته من فرط قسوة اليومي، فجاء «الإقلاع» كما يسميه الكاتب رحيلا بقرار مع سبق إصرار، ولم يكن الرحلة المشتهاة، إنه رحيل إلى تلك القطعة المبتورة، الأرض المسترجعة، الأرض- القضية قيد الاستفتاء، الأرض- الحلم بلم الشتات… مسميات كثيرة تجسد مسار قضية واحدة، مسميات تم تكثيرها بقوة واقع درجة حرارته متقلبة بتقلبات الطقس السجالي بين السياسي والسياسوي، بين الأصيل والزائف، بين الحقيقي والإيديولوجي. أمام كل هذه المسميات والأبعاد، يجد القارئ نفسه يتساءل هو الآخر عن كيف يكون السبيل إلى التمييز بين كل تلك المستويات في ما تنقله وتعلنه وسائل الإعلام؟
لعل الكاتب سعيد رحيم لم يكن رحيما بهذا الصحفي عندما زج به في سراديب حدائق ليس لها مما تحيل عليه الحدائق من رونق وعبق الزهر والورد إلا الاسم، وأنى لنا أن نتوقع وجود حدائق بمنطقة صحراوية يحسب الظمآنُ فيها السرابَ ماءً؟ ثم ينعته بالمتنطع، صائب الصحفي والاعلامي في معركته المعلنة التي ستصير في ما بعد قرار رحيل من أجل إثبات الذات، فها هو سعيد رحيم يخبرنا بذلك قائلا: «وحده المتنطع من يستطيع ادعاء القدرة بمفرده على حفر آبار وجلب المياه إليها. حدائق ظلت، لمئات السنين، في الواجهة الخلفية». غير أن المتنطع بالنسبة لي هو كاتب استطاع جلب تفاصيل حدث ابتعد زمانيا حتى ترسبت فوقه تفاصيل أحداث أخرى، تلك التي وقعت بعده، هذا إن لم يكن بعض منه أو ربما جله قد صار في خبر كان ثمة حدث ولم يعد له وجود.
وها هو ردي الشخصي بكل تأكيد: وحده الذي يكون بحذق كاتب وذكاء صحفي يستطيع التقليب والحفر ، وجلب ما كان في الجهة الخلفية ليضعه في الواجهة. فبحذق الكاتب تم تجميع التفاصيل والوقائع رغم تباعد الأزمنة واختلاف الأمكنة في خيط ناظم هو السرد.
إن كتاب «حدائق الجنوب» يروي سيرة صائب الإعلامي الصحفي بما هي سير حثيث بين ثنايا ما وقع بحيث لا يشعر القارئ بأي قطائع بين الأحداث، هناك استرسال وتتابع منذ أول سطر بالصفحة الخامسة إلى آخر سطر بالصفحة المائة وستة وعشرون على الرغم من كل تلك العناوين التي تستوقفنا إثر تصفح الكتاب لأول وهلة. ثم بذكاء الصحفي استطاع المؤلف استحضار التفاصيل بما هي عين الحدث الذي يحكي عنه الكتاب، ولكن مقسمة إلى مقاطع لها طابع عتبات لكل واحدة منها عنوان لا يتجاوز المضمون المدرج تحته أربع صفحات في القليل منها لأن أغلبها لا يتجاوز صفحة واحدة. هذا التقطيع والذي لم يقطع انتظام واستمرار السرد هو الوسيلة التي تحايل بها الكاتب سعيد رحيم بحذق وذكاء على الذاكرة التي لن ولم تكن لتسعفه في هكذا رجع بعيد جدا. وهذا نفسه ما أربك محاولتي استجماع حاصل قراءتي الأولية للكتاب.
بؤرة القول، سواء كان سردا أو نظما أو غير ذلك، تقعير في قرارة كل كاتب؛ تسكنه منذ ذات حدث وقع له. ومن ثم ليست الكتابة خلقا من عدم، وإنما هي رغبة موقدة في الأنا المتكلمة يتداعى لها السمع والبصر والفؤاد فيتمخض عنها نص.. لابد أن يكون هنالك حدث قد وشم تاريخ الأنا وقذف بها في مفترق طريقين عليها أن تختار أحدهما، والصحفي صائب يعلن اختياره في صيغة السلب إذ يهمس محدثا نفسه : «أهبل من يختبئ في قدره الراكد إلى حين سقوط المطر، علَّه يتسلل وسط الجموع للارتواء من مياه قد لا يستمر صبيبها في اليوم الموالي» …لا بد إذن من حدوث ما يثير انتباهة الروح الآدمية ويشد أوصالها، وهو عين ما وقع لصائب. لذلك اتجه الكاتب إلى علوم النفس علها تسعفه فكان اجتراحه لمفهوم «مناجاة» آلية يستجلب بها صائب إعدادا نفسيا لركوب صهوة المهمة الشاقة التي تنتظره؛ أي الاستعداد لسبر غور حدائق ليست لديه عنها أدنى فكرة ولا بوصلة يحدد بها اتجاهات القضية، حدائق جنوب مثقلٌ تاريخُه بزوابع من حصى رجمه التي لو تسللت إلى مقلة شعب تدميها.
إن ما همس به صائب لنفسه إقرار ضمني بإثم أو غلطة تم اقترافها إزاء الذات والآخر والتاريخ. بهذا الشعور يبدأ التساؤل الذي اعتبره سعيد رحيم بداية انطلاقة «سباق الفكرة والقرار»، وتلك أروع انطلاقة وأكثرها شقاء حينما تنجلي في صورة وعي مرح وشقي في الآن نفسه. ومفهوم «الإثم» هنا بعيد كل البعد عما يفيده التمثل الديني لأننا بصدد قرار مفكر فيه يكون حصيلة الوعي بضرورة امتلاك إرادة حرة في الفعل والقول، والذي بموجبه تغدو الكتابة اعترافا؛ لكن التساؤل الذي يفرض نفسه مع ما يسطره المؤلف سعيد رحيم هو هل كل الذين عاشوا الحدث أو عايشوه اختاروا الكتابة بما هي قرار راديكالي تجاه الأنا أولا وقبل كل الآخرين؟ فرب نص يزج بصاحبه في غياهب جب لا يعرف منتهاه.
إن أمثال صائب قلة أمام الكثيرين المتراصين في هامش الحدث يقتنصون الفرص ليصنعوا مراكزا ونقط ارتكاز يؤثثون بها قلاع لذة رتيبة هي بنت الجماع المباح الذي لا يتمخض عنه إلا أبواق الزيف وأصداء الإيديولوجيات؛ إعلاميون وصحفيون يتشدقون بإحكام قبضتهم على ناصية المعلومة/الحقيقة رغبة منهم في زعزعة ما تم التعاقد بموجبه لحل نهائي للقضية.
ومثل رياح الجنوب العاتية كانت التساؤلات تتناسل في جمجمة صائب مخلفة زوابع ذهنية لتثوير سيناريوهات مختلفة ومتعددة بشأن كيفيات ووسائل الرد، أو المواجهة التي تستوجبها كل مرحلة وكل جهة. كل المقولات الأرسطية باتت تتزاحم في مخيلة صائب موجهة حول نقطة واحدة يسطرها الكاتب سعيد رحيم في ما يلي: «في هذا التاريخ، سيضع المغرب مقترح مشروع الحكم الذاتي في الصحراء على مائدة المفاوضات في الأمم المتحدة. « ومن ثم تبدأ الرحلة على متن مسارين متساوقين بدقة قل نظيرها؛ مسار نتقصى من خلاله التفاصيل الحقيقية لهذا الملف-القضية، ومسار نقتفي من ورائه الأثر الذي تحدثه مهنة الصحافة/الاعلام في ذات صحفي حقيقي، وخلف مساري هذه الرحلة يجد القارئ نفسه مضطرا للوقوف على ناصية الكتاب «حدائق الجنوب» عند قاعدتين أساسيتين أرستهما الفلسفة الفينومينولوجية؛ أول قاعدة هي «القصدية» حيث رغبة الصحفي الإعلامي صائب تشي باجتماع الوعي والإرادة وراء استجلاء تخوم الحقيقة، معرفة المعلومة أصيلة بعد نزع غطاء الزيف الذي يلفها. وهذا ما شكل، في اعتقادي، بؤرة الرحلة إلى منطقة الجنوب، إنه اعتقاد من صميم ما أبصرته في الفينومينولوجيا لما تخبرنا بأن المعرفة الأكيدة هي تلك التي يمنحنا إياها تفكيرنا في المعيش ونحن نعيشه ثم نتأمله.
ولعل التأمل هنا هو قوام القاعدة الثانية: «التوقف» حيث يتعلق الأمر بضرورة التوقف عن اللغو وإصدار الأحكام المسبقة حاصل كل شوفينية متربصة بذوات لا تستطيع رمي أحجار رجمها؛ بل تغلف ضعفها وعدم قدرتها تلك برمي أحجار رجمها هي على من يجاورونها بغير ما أسباب تذكر… وما أكثرها أحجار ورصاص وقذائف الحرب الإعلامية هنا وهناك، حرب يقول عنها صائب بعد أن خبر تفاصيلها: «لهذه الحرب أيضا قنابلها وصواريخها وغازاتها السامة وغيرها من الأسلحة الفتاكة التي ليس من السهل التصدي لها، ومقاومتها في غياب سلاح الردع الذي أوله الحق في الحصول على المعلومة، وقدرة الدولة على تجهيز إعلامها بالتكنولوجيا الملائمة وأساسا العنصر البشري المهني والمبدع في تعامله مع الحقيقة وتبليغها»…
إن تزييف الحقيقة حرب بئيسة لا يلجأ إليها إلا الأكثر بؤسا. أما عن تفاصيل القضية كما أينعت بين ثنايا «حدائق الجنوب»، فتقتضي بعض التوقف بقصد تجنب مصادرة حق القارئ في بلوغها متى يشاء.


الكاتب : فاطمة حلمي

  

بتاريخ : 16/03/2021