حدود النص الأدبي

 

في كلِّ مناسبةٍ ثقافيةٍ تُـثارُ بشكلٍ أو بآخرَ، بعضُ الأسئلةِ الدقيقةِ، ولا تَجِد لها أجوبةً كافيةً، من قبيل :
ـ ما مدى حضور العمل الأدبي في الظرفِ الرَّاهنِ، الذي يشهد تحولاتٍ في الرؤى والأفكار والمواقف…؟!
ـ وهل نحن في حاجة إلى الأدب في ظل هذه التحولات المجتمعية والثقافية الطارئة ؟! وكيف نحدد مقوماتِ النص الأدبي ؟!
الملاحظ أن الكلَّ يُجَنِّس نصَّه، إما برواية أو قصة، أو حتى بشعر، ليُضْفي عليه الصبغةَ الأدبيةَ، كما يبدو له، أو كما تستسيغه ذائقتُهُ الفنيةُ!..لكنْ، هل يُجيز له هذا التجنيسُ المنفردُ بأن يعتبر )أدبا) بكل ما يحبُل به هذا المصطلحُ من مَعانٍ؟!
وهذا سيقودنا إلى سؤالين آخرين :
ـ كيف نبدع نصا أدبيا، يُقنعنا أولا، ويقنع القارئَ ثانيا ؟!
ـ وكيف نجنسه تجنيسا مطابقا لشكله الفني، فلا يلقى معارضةً، أو رفْضًا قاطعًا من المتلقي ؟!
هــنـاك في حــقــل الــكــتــابة، أشــكــالٌ مــن الــنــصوص، نــتــردد ونرتبك في تصنيفها، بل حتى كُتابها يحتارون، فلا يستقرون على حال. نعطي مثالا بالكاتبين المغربيين الكبيرين محمد برادة وأحمد المديني. فالأول، أصدر في المغرب «مَحْكيات» ونفسها أصدرها في مصر بـ»رواية»، والثاني أصدر قصائدَ «برد المسافات» بصفتها (شعرا) ونشر بعضَها في ملحقٍ ثقافي بصفتها «كتاباتٍ نثريةً» إذا لم تَخُنِّي ذاكرتي !
وهناك من يصدر سيرته الذاتية، ويُجنسُها بـ»رواية» وكنموذج «قاع الخابية» لعبد اللطيف اللعبي أو ذكرياته، ويَسِمُها بـ»رواية» كمحمد برادة في «مثل صيف لن يتكرر»!
هذا التذبذب في التجنيس، من أين يأتي :
ـ هل من التشكيك في أدبية النص ؟!أم من مستوى الخطاب الفني ؟!
أم من عناصر الكتابة المكونة له، التي ـ ربَّما ـ لم يقتنع بها الكاتبُ، أو لم تستجبْ لكلِّ طموحاتِهِ الفنيةِ ؟! ، أم نزولا لرغبة الناشر الذي يرى إقبالَ القارئ على جنس أدبي ما (خصوصا الروايةَ) أكثرَ من الأجناسِ الأخرى؟!.. فتصبح المسألةُ، بذلك، تخضع لعروض السُّوق وطلباتِـهِ، بدايةً ونهايةً ؟!
إذا عدنا إلى النصوص القديمة، أي التي أبدعها الكتاب من قبلُ، والتي نعدُّها علامةً مضيئةً من الماضي، تتيح لنا الفرصةَ المُواتيةَ لتسليط الضوء على التاريخ، أو الواقع الاجتماعي في حقبة ما، فإننا نصنفها في خانة (الأدب) بل من (عيون الأدب)، وهناك من يصفها بالتعبير الشهير لأبي حامدٍ الغزالي «ليس في الإمكان أبدع مِمَّا كان» والقولةُ نفسُها يرددها فوكوياما «لن تُبْدِعَ البشريةُ أكثرَ مِمَّا أبدعتْهُ» ليُغْلِقا ـ العربي والياباني ـ كلَّ الأبواب والنوافذ والشقوق والثقوب في أوجه الأدباء الصاعدين الجُدد، لمجرد أنها تتضمّن أحداثا غريبة، ومواقفَ ومشاهدَ تسلِّي القارئ وتُرَفِّهُ عنه، وإن كانت تُحْكى بأساليبَ عاديةٍ، تقترب أكثرَ أو أقلَّ من العامية، مثل «ألف ليلة وليلة» التي لم تجتذبِ القارئَ العربي فقط، إنَّما الغربي أيضا!
والمَلْحَظ العامُّ، حاليا، أن هناك تنوُّعا كبيرا في الكتابة الأدبية، إنْ لم أبالغْ وأُغالِي بأنه (انفجار في عالم النشر) في الوقت الذي نُــردِّد باستمرار أنَّ هناك عــزوفا عن القراءة، ونُـــدْرَةً في تـرويج الكتاب الأدبي (هناك إقبال نسبي على الكتاب الديني والقانوني والسياسي، والحِرَفي كالطَّرزِ والخياطةِ والطهْي…) ونُشْفِعُها بسؤال :
ـ ما قيمة الأدب والثقافة والمعرفة في عصر التكنولوجية؟!
وهي المشكلةُ نفسُها التي كان الجيلُ الماضي يطرحُها بين الفينة والأخرى، ولم تـنـقـرضْ لحدِّ اليوم، أو تتجدد على الأقل . فأذكر، على سبيل المثال، أنَّ عميد الأدب العربي طه حسين، ألقى محاضرةً في مدينة تِطْوانَ سنةَ 1958، أرجَعَ فيها تدنِّي القراءةِ، إلى إدمانِ الأطفال والشباب على الاستماع للمذياع والحاكي (الفونوغراف) ومشاهدة السينما (في ذلك الوقت لم يكنِ التلفازُ موجودا بالمغرب، إذ ظهر عام 1962 أما قناة تيلما لم تستمر إلا خمسةَ عشر شهرا، وبإرسالٍ محدودٍ للغاية وللخاصَّة فقط، بدايةَ سنةِ 1954) !
وها نحن، في القرن الواحد والعشرين، أي بعد مرور حوالي اثنين وستين عاما، ما زلنا نكرر العـوامِلَ عـينَها، بإضافةِ (التكنولوجية الحديثة طبعًا، كالحاسوبِ والهاتفِ النقالِ، والألعابِ الآليةِ…) ولم نَحِدْ عنها قَيْدَ أُنْمُلةٍ، أو نفكِّرْ في دراسةٍ تحليليةٍ عــميقةٍ لهذه الظاهرة، كي نتفاداها، وبــقــيــنا نـردد ما قـاله السابــقــون، وعلى آثارِهِمْ سائرون !
لكنَّنا، بالمقابل، عندما نلقي نظراتٍ خاطفةً على المكتبة، نُبْهَر بأكْوام الكتب، من روائية إلى شعرية إلى قصصية، إلى قراءاتٍ وجوائزَ، في الشرق والغرب، فضلا عن مجلاتٍ ومواقعَ رقميةٍ، وملاحقَ ثقافيةٍ، تتحدى عوادي الزمن، مثل «الاتحاد الاشتراكي» و»العلم» و»بيان اليوم»… ما يجعلنا في (حَيْصَ بَيْصَ) من أمرنا:
ـ هل كل ما يُنشَر يُجَنَّس في خانة الأدب، أم مجرد محاولات، تُمْليها نزواتٌ ظرفية فقط، أم أن الجو الثقافي العام المُحْبِط لا يشجع على المواظبة والتحدي والصمود؟! وإلى أين تسير كلُّ هذه الإصدارات، أو في أيِّ بحر أو مُحيطٍ تصُبُّ هذه الروافدُ الأدبيةُ؟!..وما الدور الذي تؤدِّيهِ، أو ترنو إلى تحقيقِهِ على أرض الواقع ؟!
والدليل على ذلك، أن الكثــير من الكُتاب، يكــتــفي بإصدار كتابٍ واحدٍ أو اثنين (إلا النادر مِمَّنْ أدركتهم حرفةُ الأدب) وبالتالي، فإن الأحكامَ التي تُدْلى في حقها، أي الكتب الأدبية، تظل نسبيةً، أو فرديةً، لا تعبِّر عن حقيقة الوضع الأدبي؛ إذْ يُنظر إلى غالبية ما يصدر، يفتقر إلى النُّمُوِّ والنُّضج، لا يشدُّ المتلقي إليه، ولا يُقـيم معه علاقةً حميميةً، أو هكذا يبدو لهم، بل هناك من يُسمي مُبْدِعيها بـ(كُتابِ يوم الأحد)!..ويُنْسِبون ذلك إلى تفشي (الطبخ السريع) الذي تولَّدتْ عنه (الوجباتُ السريعةُ) غيرُ المشبعة . وهذا لا يتجلى في الأدب، إنما يمتد إلى الفنون كالموسيقى والتمثيل، بل إلى اللباس والطعام والأشياء، ولِمَ لا العلاقات الإنسانــيــة، والــصداقات والــقــرابات؟!..أي يعــود إلى الــتــغــيــيــر الشامل الذي يــعــرفــه العصر الحاضر، ولــم نستــعــدَّ له، أو نُــفــكِّــرْ في تــدارُكِهِ، كما يفعل الأوروبيون…!
إن المتأملَ في المُتونِ الأدبيةِ، يُلْفي نفسه أسيرا أو رهينةَ كُتابٍ، غزيري الكتابة، نستشهد بهم في كل المواقف، مثل بالزاك أو موليير أو شكسبير أو نجيب محفوظ أو عبد الرحمن منيف…كأنَّ الحياةَ عقيمةٌ، لا تستطيع أن تُنجب سواهم، فيما الأدبُ نهرٌ بشري، يجري، ليلَ نهارَ، فتملأه كلُّ الروافد، ليسقي الحقولَ . غير أن القليل من الأثمار هي التي تلقى رواجا وإقبالا كبيرين في الحياة، أي تلك النصوص المتينة الـــحَـــبْـــك والـــسَّـــبْـــك، الغـــنـــيـــة الخيال، الطـلــيــقة الــفــكــر، الفاضحة للخفي، الغائصة في أعماق الواقع!
وإذا شئتم، يُمْكِننا أنْ نُرْجِع هذه الظاهرةَ إلى عواملَ أخرى؛ فهناك من يستند في الكتابة إلى ذاته (فقط) دون أنْ يُشْرِك مجتمعَهُ فيها، كأنه مركزُ أو محورُ الكون، أو قمرُ زمانِهِ، لا يوجد في الليلة الظَّلماءِ إلا هو، لا شريك له . فتغدو كتابتُهُ جافَّةً، أو بتعبير الجاحظ (ينقصها الماءُ) أي يُعْوِزُها ذلك التواصلُ والتفاعلُ مع المتلقي، ويُسميها الشاعر آرثر رامبو بـ(«الكتابة الأدبية الغبية» و»المملة بالشكل المروع» وإذا سألناهُ عن هذا الرأي، سيرد بثقةٍ :
ـ «كيف لي أنْ أكتب عن ذاتي، وأنا أرى في باريس عمالا يموتون» ؟!
طبعا، في (ذلك الْعَهْد) لم يكنْ هناك قانونٌ يحمي العاملَ والأجيرَ، لكنَّ التاريخَ يُعيد نفسَهُ، فما زال العمالُ يتعرَّضون للخطر!..ويؤيد رأيَ رامبو آخرون، فيرون أنَّ الكتابةَ، ينبغي أنْ تكون (موضوعيةً) أي نابعة من رَحــمِ المجتمع . والجاحظ، ما دُمْنا نُشْرِكُهُ في حديـثِـنا، كان في كتابته يقرِنُ الذاتي بالموضوعي، إذ كان يعاني من تــشويهٍ في خِلْقتِهِ، وفقرًا مُدْقِعا، ما جَعَلَهُ ناقِمًا على مجتمعِهِ، تملأُ السخريةُ كتاباتِهِ . وكذلك الناقدُ عبد الحميد الكاتب، الذي خانَهُ الزَّمنُ، فأصبحَ يرعى مع الماشيةِ الكلأَ والحشائشَ، إلى أنْ أُلْقِيَ عليه القبض في منزلِ صديقِهِ الكاتبِ عبد الله بن المُقَــفَّع (وقصتهما أشهر من علم) !
ولنرجِعْ إلى رامبو، ففي رسالةٍ له، يعتبر الأديبَ مسؤولا عن الإنسانية، وعليه أنْ يكون داخلَ البشرية، لا خارجَها، بعيدًا عنها، أو يلجأ إلى برجه العاجي، لا يفكر إلا في ذاته المتورمة . كما عليه أنْ يتخطى الحدودَ الشخصيةَ، كي يرحل إلى الآخر، فيرى عالما مجهولا عن ذاته، ويصبح شريكا في (حقيقة الحياة) !
فالكتابةُ هي أن تجد نفسك، في الموضوعة التي تقول الحقيقةَ لتجربتنا المشتركةِ، الواقع الذي يشكلنا جميعا، والذي يحيط بنا بآثاره الإيجابية والسلبية . لا تكتب عن شخصيتك، إلا إذا كانت هذه التجربة التي تخصك متعلقةً بدهاليز محيطك ومساربِهِ، وتجد صدى في قرائه!
هـذا ما حــقــقــه مارســيــل بــروســت في بــحــثــه عـــن ((الــزمــن المفقود)) فمن خلال ذاتية الراوي، يسمح لنا بروست بالتوصل إلى فهم عميقٍ لأنفسنا، عبر مجتمعه ولحظته التاريخية، وبالتالي، فإن الكتابةَ، وإنْ كانتْ فعلا ذاتيا، إلا أنَّها مصنوعة من التجربة الجماعية المشتركة!
وإذا كان علينا، وعلى الأديب نفسِهِ، أنْ نتغاضى عن بعض الأمور التي تخص ذواتـنا، فإنَّ الشاعر سيف الرحبي، يُلِحُّ في حوار له، على أنْ يضع الأديب في نصِّهِ حُدودا ثابتةً، وهي أنْ «يتمسَّك بالذَّوْد عن القيم الإنسانية المشتركة» تلك التي «لا يمكنُ التفريط فيها، أو التنازل عنها…» والتي تُبَلْوِرُ ذاتَهُ، وذاتَ المتلقي معًا !
وإنِّي إذْ أركِّز على هذه النقطة بالذّاتِ، لا أعني حِرمانَ الأديبِ خاصةً، والمبدع عامةً، من ممارسةِ حريته في التفكير والتعبير، التي هي أسمى وأغلى ما يدَّخِر في حياته، بل من أجلِها يكتب ويُـبْـدِع، وبدونِها لا يستطيعُ أنْ يـتــنـفَّـسَ هواءً نقـيًّا منعـشًا، إنَّما أنْ تكون كتابتُهُ صادقةً، سواءً كانتْ ذاتيةً أو موضوعيةً . وما جدْوى الكتابةِ، إذا كانتْ تـتصنَّعُ مواقِفَ إنسانيةً، ليس لها تأثيرٌ في قارئها ؟!


الكاتب : العربي بن جلون