حديثة محبرة : المديح النبوي بين الشعر والنظم 2/1

يحتل الشعر العربي في وجدان الناس، وفي قلوب الناشئة والكبار على حد سواء، منزلة رفيعة تعلو على المنازل، ومكانة سنية لا تدانيها مكانة. ويتعلق الأمر بالشعر العربي قديما ووسيطا، وفي مرحلة ما سمي بـ «البعث والإحياء»، وصولا إلى ثورة الخمسينيات الشعرية في القرن الفائت التي اجترحت بنية وأفقا مختلفين للشعر. أما الآن، فقد تراجع سلطانه، وتضاءل حضوره لأسباب ذاتية وموضوعية يقصر المقال عن إيرادها وذكرها جميعا لأنها من الوفرة والتشابك، وفي رأس تلك الأسباب بروز سلطان القص والرواية، وإعلاء النقاد والإعلام والجوائز لشأنها، وإعراض البرامج والمناهج المدرسية في كل أطوار التعليم، عن تنزيله تربويا وديداكتيكيا، والاحتفاء به، وتربية ذوق جدير وحقيق بفتوحاته ومنجزاته. فالشعر قديما كان علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه في ما روي عن الخليفة عمر بن الخطاب. فهو ديوانهم، وسجل مفاخرهم ومآثرهم. وكان للشعراء في الجاهلية، وفي العصرين الأموي والعباسي، سطوة وسيادة ورهبة تخشاها القبائل والأعيان والملوك، وترهبها العشائر والأفخاذ والبطون. نبوغ شاعر ما، وسطوع نجمه في القبائل والأسواق، عُدَّ إيذانا وبدءاً بفتوة وحصانة القبيلة التي أنجبته لأنه سيصبح لسانها الذائد عن حياضها، والمُعْلي المذيع لأيامها وأمجادها تفاخرا وتباهيا بها في السلم والحرب. ولم تكن الأغراض الشعرية أو الموضوعات بلغة عصرنا، سوى ذرائع ومطايا يأتيها الشعراء ويمتطونها لغايات محددة، ومرامٍ معينة سواء أتعلق الأمر بالمدح أو الهجو أو الفخر أو النسيب والتشبيب. ولعل المدح أن يكون أوكَدَها وأقوى شوكةً بينها، وأبعد أثرا في النفس الإنسانية: في نفس الممدوح، وفي نفس المتلقين ثانيا. فالمدح كان جامعا مانعا، حائزا، محيطا بباقي الأغراض حيث يصهرها ويذيبها في « تنور» حميته وحماسته، وحمأة لغته، وفخامة وجزالة صياغته وصوره التي تزين ما لا يزين، وترصع بالجمال ما أصله القبح والفساد والطغيان في كثير من الأحيان.
فالغزل مدح، والفخر بالذات وبالجماعة مدح، والهجو مدح مقلوب يخفي ما حقه الإظهار، ويبدي سوءة الغير بغير وجه حق. وقد بات من المقرر المعلوم أن إيصال المدح للمعني به، يتطلب التجويد والتنقيح والمغالاة، وليّ عنق المحال ليصبح طوع اليد قريب المنال. وذكر شمائل وفضائل الممدوح من دون تثبت بوجودها من عدمها فيه، ما خلا قلة شهد لها التاريخ والمرويات المسنودة بالخلال الحميدة، والخصال المجيدة، وحيازة القيم والمثل الرفيعة كمثل الكرم والجود والسخاء، والبذل، والإيثار والتضحية، ونكران الذات، والعفو عند المقدرة، وغض الطرف، إلى آخر ذلك من مزايا وأفضال. ومن ثَمَّ، وُضِعَ معيار الفحولة والجودة والتجديد، وتفتيق أجفان المعاني الجياد، وتوليد حسن الألفاظ العرائس، وجرس الكلمات، وحسن المأتى، انطلاقا من مضامين شعر المدائح، لينسحب ـ تاليا ـ على باقي موضوعات الشعر وأغراضه. وقد اتصل المدح بالهجاء اتصالا موثوقا مقرونا ممزوجا. فهو يستدعي ـ بالإضمار أو بالإظهار ـ ضديده. ولنا في شعر شعراء الرسول، دليل على ما قلناه. إذ كان مدح الرسالة المحمدية، مدخلا ومناسبة لهجاء مشركي قريش، وملإ مكة المناوئين للنبي الأكرم. فكعب بن زهير، وحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وآخرين، نهضوا بمهمة الدفاع عن الرسالة وصاحب الرسالة، ورد الأذى عنه، والتصدي للمشركين بالقدح والتشهير والتأثيم والوعد والوعيد. وكذلك فعل شعراء معدودون في العصر الأموي والعباسي. أقول معدودين لأن عدد المداحين للنبي، تقلص وتناقص حتى لدى الخوارج والشيعة والطالبيين. قصارى ماكان يمدح به النبي لا يتخطى شذرا مبعثرا في نسيج القصيد، ونزرا يسيرا متصلا عادةً بمدح آل البيت، وفي مقدمتهم الخليفة علي ، وفاطمة الزهراء، وابنهما الشهيد الحسين.
وقد بلغ من خطورة الشعر وسطوته، أن محمدا صلوات الله عليه، كان يتقيه، ويتوعد هاجيه ومهاجميه بسوء المنقلب والسعير. بل، بهدر دم كل من ينال من النبوة والرسالة سواء أكان عربيا مشركا أم كان يهوديا شاكا ومناوئا. ومن أمثلة خطورة الشعر بالمعنى الإيجابي والسلبي، أن الشاعر كان بإمكانه هدم عزة ومجد قوم، وإطفاء نار الحروب الضروس، والمعارك الشرسة المديدة كحرب البسوس، وحرب داحس والغبراء، وغيرها من حروب العصبيات القبلية.
وهل لنا أن نعرج على شعر الغزل الذي كانت العرب تخافه وتتقيه حَذَرَ أن يقترب من بناتها فيكسر ـ من ثمة ـ كبرياء البيوت، وشرف العوائل أنّى كانت مكانتها وطبقتها. حتى أن بعض الخلفاء والأمراء والولاة لم يترددوا ـ لحظة ـ في نفي وسجن وقتل الشعراء الغزِلين الكبار كقيس بن الملوح، وجميل بثينة، وعمر بن أبي ربيعة، ووضاح اليمن، والعُرْجي، وديك الجن، وابن العجلان النهدي. ولم يكن مصير الهجائين ببعيد ومختلف عما حل بالشعراء الغزلين. وكفى بمصير شاعر العربية الأكبر أبي الطيب ، مثلا وبرهانا، وشعراء شاهقين كالحطيئة وبشار بن برد، وابن الرومي، وغيرهم، دليلا آخر.
هو ذا الشعر في سمته وبجدته العربية المبينة. الشعر الذي أعلى الجاحظ من بيانه، معتبرا إياه خاصية العرب الأدبية والإبداعية الفريدة المتفردة بين الأمم، وكذا فعل من جاء بعده، وحدا حدوه.
إنه الشعر الذي اهتز الرسول لسحره وبيانه وأثره في النفس والقلب والوجدان حتى قال: ( إن من البيان لسحرا ). ولم يذمَّ سوى الشعر ذي الغواية والإغراء، والفاحش الهاتك لأعراض الناس: ( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ـ سورة الشعراء ـ الآية 224 ). كما اهتز له الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب الذي له في الشعر، آراء « نقدية « انطباعية اشتهرت بين الشعراء والنقاد فرددوها على مر العصور والأحقاب.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 22/04/2022