حديث محبرة … سؤال القطائع الملتبس

ثمة ما يدفع ويدعو ـ بين الفينات ـ للعودة إلى كبار الشعراء، والمفكرين الأفذاذ، والنقاد المرموقين، قصد استشارتهم في أمر الشعر والأدب، وقضايا الفكر والفلسفة والنقد، والاستسعاف بآرائهم ورؤاهم ومواقفهم وخبراتهم، وعلمهم، وتجاربهم، في ما يعترضنا من صعوبات وحواجز معرفية، وينتابنا من عَيٍّ وتخبط في شأن رأي نقدي ما، أو موضوع معرفي، أو في شأن نصوص إبداعية، ومتون شعرية تدعي ـ عن بهتان أو بيان ـ التجديد والتحديث، ونقل المعرفة من طور إلى طور، ومن مستوى إلى آخر وَفْقاً للتنقلات والتحولات والإحداثات، والمستجدات، والمُحْدَثات التي يعرفها العالم، وتعرفها مقتضيات وتطلعات ورغائب ومطامح الناس هنا وهناك، وتتطلبها قوانين الطبيعة، ونواميس الحياة.
لا مجال لدفن الرأس في الرمل، وغمس القلم في محبرة الآتي، ومداد المستقبل من دون الاتكاء على إشراقات الماضي، والاستناد إلى الآداب الاختراقية، والإبداعات العابرة للأنواع والأجناس والأزمنة، ومختلف التلقيات. إذ أن حرارة المعارف القديمة / الجديدة لاتَني تَتْرَى وتتواتر مندسة لابسة أوراقا يانعة خَضِلَة زاهية الخضرة، متحولة بحسبان تِرْمومِتْر الزمن المتحول، والدم الملون الذي يضخ ويجري حارا قانيا سائلا معاودا ودائريا في كافة أطراف ومفاصل الثقافة والإبداع اللذين تَمّا في زمنيات متفاوتة رَادَها هَجْرُ البائت الميت، وفَجَّر عنفوانها البحث المضني عن الجديد القشيب، وعما يضفي جدة واستثنائية على مسعاها الدؤوب في إتيان ما لم يُحَبِّرْهُ قلم سابق، وما لم يتفطن إليه عقل القلب السالف أي الإبداع، وينتبه إليه عقل العقل أي أنواع النقود الأدبية والفكرية والمعرفية التي ساهمت في تخطي القديم، وتجاوز المتشابه والمكرور. فالعقلان إياهما: عقل القلب، وعقل العقل، وقد حَمَّسَهما طموح بناء بيت إبداعي ومعرفي جديد، هما ما قاد العنفوان الأدبي والفني إلى الذروة، إلى معانقة الحلم الذي كان يبدو صعب المنال، بعيد مهوى المآل، وتحقيق صبوة الغربة والتغريب والغريب. إذ الغريب هو صفة وسَمْتُ المحدث المتفرد الذي يتمظهر ويتجلى كأنه أُنْشيءَ وأُبْدِع على غير مثال، وعلى غير هدى من منجز إبداعي أو نقدي سابق. الغريب العجيب هو دَمْغَةُ الجديد والمبهر والعبقري. لكن، عند التأمل العميق، والتأني المطلوب، وعند إعمال العقلين المذكورين آنفا، يتبدى ساطعا صارخا أن ما وُسِمَ بالغريب، ووُصِفَ بالمتفرد العجيب، ونُعِتَ بالمُبْهِر غير المطروق، وغير المسبوق، ما هو ـ في آخر المطاف ـ سوى هيكل القديم وقد كُسِيَ لحما، وشُحِنَ هواء جديداً ودما، وأُلْبِسَ ثيابا أَشَفَّ بعد أن وضع واطَّرَحَ الأسمال البالية، والجِباب الرثة الصوفية، جانباً.
ولنا أمثلة كثيرة في هذا الباب. لنا نماذج متعددة مضيئة في هذا المضمار، يضيق المقال عن إيرادها وإبراز جدتها وحداثتها في ما فعلته في القديم المعطى، أو بالأحرى، في ما أفادها به ذاك القديم المهجور، لكن المطلوب والمنشود في كثير من المواقف، والانعطافات الأدبية والتاريخية، مما يخلخل ويقلقل مفهوم القطيعة الإبستمولوجية بمعناها الفوكاوي. ولْنَكْتَفِ، في هذا الصدد، بالشاعر الكوني الأمريكو ـ بريطاني ت. س. إيليوتْ، لِما له من أثر ثقافي وإبداعي وتحويلي في بنيان الشعر العالمي، وفي بنيات ومعاني ودلالات الشعر العربي المعاصر والحديث. ولعل أن يكون تواتر، ومتغيرات ومرادفات الخراب واليباب، ثاويا وكامنا بل ملتمعا ومتلألئا في مدونات ومتون تلك الشعرية بدءا من بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، وسعدي يوسف، ومحمود البريكان، وحسب الشيخ جعفر، وبلند الحيدري، وأدونيس، وخليل حاوي، مرورا بمحمد عفيفي مطر، وصلاح عبد الصبور، وبدر الديب، وأمل دنقل، وصولا إلى: أمجد ناصر، وعقيل علي، وجورج دامو، ومحمد آدم، ومحمد الميموني، وأحمد المجاطي، ومحمد السرغيني، ومحمد بنيس، وعبد الله راجع، وكوكبة مضيئة من كتاب وشعراء القصيدة بالنثر. لعل ذلك أن يكون أثرا مباشراً أو تقليدا متحولا واعيا وغير واعٍ للشاعر إيليوتْ وأضراب إيليوت. إنه الشاعر الطليعي الحداثي بامتياز الذي لم تخْتَلَّ علاقته يوما بالتراث الشعري اللاتيني، والأنجلوسكسوني، والغربي الحديث. والذي ما فتيء يوصي بوجوب اعتماد متون الشعراء الكبار الشعرية، أُسّا وركيزة ومعينا لتخصيب الخيال، وتوريق اللغة، وتجنيح الأسلوب، وتمتين التركيب، وتزييت براوز الصور ذات الإطار الخشبي المتآكل. لم يُخْفِ ـ وهو الشاعر الكبير ـ مصادره ومراجعه، وينابيع إلهامه واستيحاءاته سواء من عنديات شعراء بريطانيين عظام كييتسْ وشللي، وشعراء القرن السابع عشر الميتافيزيقيين، أو شعراء إيطاليين في العصر الوسيط كدانتي، وبتراركْ، أو شعراء فرنسيين رمزيين وبرناسيين ك: لافورغ، وكوربيير، وبودلير، وتيوفيل غوتييه خاصة. زد على ذلك، أنه لم يخْفِ تقليديته وانتسابه إلى الكلاسيكية في الأدب، والملكية في السياسة، والأنجليكانية في الدين. وهي ثوابت ومكونات ضاربة في التقليد والمحافظة و « الرجعية « في ظن الكثيرين.
فهل يكون استمساكه بعُرْوَة التقليد على مستوى الشعر والسياسة والدين، وراء نبوغه الشعري والنقدي والمسرحي؟. هل أمده التقليد والتراث بما رامه وابتغاه في أن يحقق للشعر الأنجلو أمريكي نصا شعريا باذخا، نصا مركبا يحاور الأمكنة، والأزمنة في تعاقبها وتزامنها ومراوحتها، بلغة شعرية تستمد فخامتها وقوتها، وحداثتها من تلك العملية الخيميائية المزجية التي تحول النحاس ذهبا إبريزاً، والرصاص لُجَيْنا وفضة؟
بذاك تحدثنا نصوصه الشعرية الشاهقات، وشعره البوليفوني الغنائي والدرامي المسبوك سبكا عجيبا ممهورا بعبقرية فذة لا يأتيه إلا « المطهرون «، ومن أتى الشعر بقلب سليم، واستعداد عظيم، وعقل نافذ قويم. ولنا في «أربعاء الرماد»، و «الرباعيات» و «الرجال الجوف»، و «لعبة الشطرنج»، الخ، ما يؤيد رأينا. فنصه الباذخ القوي ذو الأثر البعيد في شعريات القرن العشرين قاطبة: ( الأرض اليباب )، لم يكن فتحا متفردا غريبا قضّاً وقضيضاً، واجتراحا شعريا إبداعيا بحذافير الإبداع الشعري الموكول لعبقرية صاحبه تعييناً، والمقصور عليه خَلْقاً وابتكارا واختراعا، إنما هو ـ عند الفحص والمحص ـ محاورة شعرية بالغة الهضم والذكاء والألمعية مع شعر سابق ذي غايات متصادية، ومعان متقاربة، ودلالات متقاطعة أفقيا وشاقوليا. وبالإمكان، ربط الأرض اليباب برواية ( إيليس ) العظيمة للروائي جيمس جويسِ. وربطها بنصوص شعرية إنجليزية موصولة بعالم لندن عاليا وسافلا، مُنَعَّما وبائسا، موفور الصحة وسقيما، عامرا وخرابا، كما في نص (مدينة الليل الخطير) للشاعر جيمس تومسون، المنشور في العام 1874. وبنصوص الشاعر وليام بْلايْكْ، وآخرين. ومعنى ذلك أن القطيعة التي طَبَّل لها بعضهم ليس مكانها هنا بأي حال.
كتب إيليوتْ يقول: ( إن الحس التاريخي هو ما يجعل الكاتب تقليديا، وهو ما يمنحه ـ في الآن ذاته ـ الوعي الحاد بمكانته في الزمان، وبمعاصرته الخاصة والمخصوصة. ).
ففي ( الأرض اليباب ): مُرْضِع الشعريات العربية التحديثية التي ادعت القطيعة مع ما سبق، وبوَّقَتْ طويلا لمَقْدَم الجديد المنفصل الذي لا أب له، ولا صلة تربطه بالسلف « الميت «. وفي ( الأناشيد ) للعظيم إزرا باوندْ، وفي أشعار الشاهق وليام بلتر ييتسْ، تلتمع مندسَّةً منصهرة، وواضحة مُمَرْآة، شذرات وأصوات أوفيدْ، وسبنْسَرْ، ومارْفلْ، وكيتسِ، ونيرفال، وتيوفيل غوتيه، وكوربير، وبودلير.
مَزْجٌ عارف، فَطِنٌ، منتفع، ومتخطٍّ لأنه أدرك معنى أن تكتب شعرا جديدا، شعرا مغايرا، شعرا آخرَ من دون أن تغمط حق السلف الذين استلفت منهم بعض بضاعة هي ما أبقى على الجذوة مشتعلة، وعلى اللغة متفتحة ومتكثرة، وعلى المجاز غنيا ورحبا بما لا يقاس، والخيال متقدا ومتوثبا، صاعدا إلى ذُرىً وسماواتٍ لم تصلها أجنحة السلف، ولكنها حاولت جهد المستطاع، وجهد ما منحها به شرطها التاريخي، وظروفها الاجتماعية، ومدوناتها المعرفية والإبداعية في زمنها. قال الشاعر والمسرحي الفرنسي الرهيب جانْ كوكتو: (بقدر ما يغني الشاعر ويغرد على شجرته الجينيالوجية، بقدر ما يغرد بشكل صحيح).


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 13/05/2022