حديث محبرة : هل يوجد إيقاع في الشعر بالنثر..؟

كلما تُنوولَ الشعر بالنثر أو ما اشتهر ب: قصيدة النثر، بالقراءة أو بالدراسة، أو بالكلام، إلا وثار سؤال الإيقاع في أعطافها وثنياتها وجودا أو عدما.
والحق إنه سؤال مشروع وإن كان غامزا لاَمِزاً من قناة هذا الشكل الشعري، وهذا المقترح الجمالي. هو مشروع لكنه ملتبس وملغوم في تقديري الشخصي. إذ المضمر الضدي حاضر بالقوة في التمثل، ويحضرــ بالفعل ـ حين الموازنة وحين المفاضلة. وإذا كانت ثورة قصيدة التفعيلة ـ في بعض أوجهها ـ قد قامت بتدمير مفهوم: ( الشعر كلام موزون ومقفى )، فإنها حافظت في الإنجاز النصي على التفعيلة الصافية التي تهب الإيقاع انتظاما وتكريرا. ومعنى ذلك أنها أبقت على الحجارة نفسها من البناية التي هدمتها، أو على بعضها بالحَري. من هنا، حصول الالتباس في سؤال الإيقاع. إن قصيدة النثر لم تلتفت بتاتا إلى البحور، ولم تشغل بالها بالتفاعيل، أي أنها تخطت المعيار المرسوم المتمثل بالإيقاع التفعيلي باعتباره نموذجا جاهزا، وقالبا معطى يكسر عنق التجربة الشعرية في عنفوانها وانطلاقها إذا استندت إليه، واتخذته متكأ، ومنحوتة قبلية استنفذت لهاث الإزميل. فلم يعد الإيقاع سابقا على التجربة، وهذا ما تذكر به الناقدة سوزان برنار في أطروحتها الشهيرة: ( إن التجربة تخلق شكلها كما يحفر النهر مجراه. ).
والخلاصة أن الإيقاع في قصيدة النثر هو رد فعل فاعل أو منفعل بإزاء الواقع، وسيولة اللحظات والمواقيت، والمعيش اليومي.
من الحسي والمتحرك والهارب، والمنفلت، والهادر والساكن، والموارب، يتنطف الإيقاع ويتخلق حتى يستوي عظاما ويكتسي لحما. وهو يعد محصلة ـ بعد الافتحاص ـ للعلاقات الداخلية في القصيدة، وجماعا متعامدا للمستويات اللغوية والنحوية، والدلالية والبلاغية بمفهومها الأسلوبي الجديد.
صحيح أن الإيقاع إياه لا يستند إلى علاقات التراتب بين النواتين الإيقاعيتين الأساسيتين المتعارضتين في الشعر العربي، وهما: ( فا ) ـ ( علن )، كما ورد في دراسة الشاعر أحمد المجاطي، وفي أبحاث الناقد كمال أبو ديب، وغيرهما. لأن تكرار النواتين وتواترهما ــ كما هو معروف ـ يفضي إلى خلق مسافات منتظمة وإِنْ على مخالفة.
إنني أميل إلى قول القائلين بأن قصيدة النثر تستمد إيقاعها ـ أيضا ـ من النبر، والتركيب الصوتي للغة ( فاللغة ظاهرة صوتية بالأساس ). كما تستمده من الأبعاد الدلالية للنظم الذي يتشكلن من البنى الصرفية للكلمات، ومن التسجيع والفواصل التقفوية العفوية، ومن المطابقة والتوازي والتكرير بأنساقه المختلفة، وفي الصدارة منه: تكرير الحذف. فضلا عن الفراغات والبياضات التي تمنح النص ـ عمقيا ـ إيقاعا دلاليا يتمثل في حركة المعاني الثواني، أو المعاني الحافة. كما تعمل ـ في اللحظة عينها ـ على بَنْيَنَتِهِ، وشد أرْسانِه، ومفاصله، وأعصابه، بخيوط من حرير وأثير.
إن انتساج العلاقات الداخلية في القصيدة كناتج مفصلي للإيقاع، و» ما يتفرع عنها من قيم جمالية وفنية مرتبطة بالنشاط النفسي الذي ندرك من خلاله ليس صوت الكلمات، بل ما فيها من معنى وشعور، هو ما يحدد أهمية الإيقاع في ارتباطه بالدلالة».
وأسوق في الاتجاه نفسه، رأيا نابها لكمال أبو ديب يقول فيه: ( إن النص النثري يتوزع إلى أسطر لا تبعا لضوابط وزنية محددة، بل تبعا لتموجات وتكوينات دلالية. وموقع المفردات أو الجمل ليس محددا بوزنها العروضي أو وزنها الصرفي، بل بدورها الدلالي ضمن حركة المعنى. وما أعنيه بحركة المعنى، هو الطريقة التي تتعالق بها المعاني، والوحدات الدلالية في نص من النصوص، وأنهاج انفصالها واتصالها بما يسبقها ويتلوها. حركة المعنى، إذن، هي الفاعلية الأولى في تشكيل النص ).
وأراني أتبنى هذا الاجتهاد لأنه يستجيب لقناعتي الجمالية، ويترجم واقعا شعريا عربيا.
إن اللغة الشعرية لغة إيقاعية بالمعنى الذي نفهم من خلاله الإيقاع حسب تعبير هوبكنس، بأنه ( حركية الكلام في الكتابة ). والفكرة شبيهة بفكرة أبي ديب إلى حد الالتصاق، أو فكرة أبي ديب شبيهة بفكرة الشاعر هوبكنس.
ويقع الإيقاع بالخيال، ويتحقق به، وينهض عليه، لأنه الذاكرة المتوقدة، وملكة الإدراك وقد تَصَوْرَنَتْ، والحس وقد تَجَوْهَرَ، والمرئيات وقد تَرَوْحَنَتْ، والما وراء وقد تَشَخْصَنَ ثم دنا وتدلى.
ثم إنني مع الدفاع الديموقراطي عن وجوب حضور الأشكال الشعرية جنبا إلى جنب في إطار ما سمي بجماليات التجاور، بما يثري الشعرية العربية، ويكسبها عمقا وتنوعا في الأسلبة والإيقاع واللغة والرؤى، شريطة أن تنتسب إلى منطق العصر وخياله، وكشوفاته، وغرائبه، وأعاجيبه. أي أن يكون للشكل الشعري المُرْتَضى، منطلقٌ وأفقٌ وانتماءٌ. ذلك أنه علينا أن نتعايش مع جميع الاقتراحات الشعرية المختلفة كما قال محمود درويش: ( فكما أن الشعر ولد من النثر، فهو في حنين إلى زيارة أمه بين الحين والآخر. والنثر كذلك يطمح إلى أن يكون شعرا. لماذا لا تكون هناك مصالحة بين خيار الوزن والخيار الآخر؟ ).
أما تعدد الأشكال في قصيدة النثر، فتحصيل نصي تطبيقي كما تقدمه مئات التجارب الكتابية في العالم العربي منذ الرواد: ( توفيق صايغ ـ جبرا إبراهيم جبرا ـ ثريا ملحس ـ سَنيّة صالح ـ أدونيس ـ أنسي الحاج ـ أبو شقرا ـ محمد الماغوط .. الخ ).، وصولا إلى ما يكتب الآن. هذا التعدد متأت من الحرية والتجربة الخصوصية لكل شاعر، وهو ما تتيحه قصيدة النثر، وتأباه ـ في زعمي ـ قصيدة التفعيلة لأن كثيرا من نماذجها سقطت في النمطية والتشابه الرملي، والمجاز المستدير ذي العجيزة المتورمة، على الرغم مما تتيحه الزحافات من ترخيص، واجتهاد، ورحابة، وحرية.
وإذا كان هذا ديدن كُتَّاب قصيدة النثر، أي البحث عن الاختلاف والخصوصية، ونداء الأنا أو عويله في مناخ من حرية البحث والتجريب، فكل من يحاول استنباط « قوانين صارمة « منها لتقعيدها، يسقط، بالحتم، في المرزوقية ( نسبة إلى المرزوقي )، وفي المعيارية التي رفع الرفش بالأمس في وجهها، ويصادر عل حق الشعراء والكتاب في اجتراح الشكل الذي يليق بالتجربة المُتَبَجِّسة من حالة شعورية مفاجئة، أو من التماعة طيفية زائرة، أو من طفرة نفسية طارئة، أو من تأمل ذهني غائر، أو من التقاط لمشاهد تفقأ العين وتَتْرَى كل يوم.
لقد فشلت الباحثة سوزانْ بَرْنارْ في وضع قوانين صارمة مستخرجة من المتن الشعري الفرنسي الذي اشتغلت عليه، والذي غطى ما ينيف على مئة عام من تجارب كتابية مختلفة متفارقة ومتناقضة أيضا، على الرغم مما أشاعته من أقانيم تتحدد بالمجانية والكثافة والتوهج. وهي أقانيم وتوصيفات قائمة وناشبة في كل الشعر الرفيع عبر الأزمنة المتباعدة، وفي تجارب كونية مختلفة.
وإذاً، أنا مع الحرية المدركة والمسؤولة التي تعني ـ في رأيي ـ البحث وليس سوى البحث المضني والعميق على ما يمنح الكتابة صدقية واختلافا، واقتراحا جماليا مفكرا فيه، وشعرية في البدء والختام.
لنقل إن الإيقاع في قصيدة النثر كائن ومُكَيْنَنٌ، غير أنه منزوع الدَّسَم؟.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 17/06/2022