صدر للناقد والروائي الدكتور حسن بحراوي، كتاب:» الأغنية المغربية العصرية التاريخ والاتجاهات «، الطبعة الأولى 2024، عدد الصفحات 152، بمطبعة الجوهرة بمدينة مكناس.
يعود الناقد حسن بحراوي في كتابه هذا إلى عشقه الفني الأول. الممتد من سماع المغاربة منذ الثلاثينييات لأنواع موسيقية متنوعة عبر أمواج الإذاعة ابتداء من إنشائها سنة 1928، وهو الأمر الذي فتح أسماع الناس وأذواقهم تدريجيا على مخزون غنائي شرقي، وخاصة منه المصري والشامي، سرعان ما تحول مع مرور الوقت إلى شيء دائم الحضور في المقاهي والأعراس والاحتفالات كيفما كان نوعها…، وتعرَّف المغاربة عبر هذه الوسائط على نجوم الغناء الشرقي التي مارست عليهم تأثيرا فنيا وعاطفيا عارما استمر لعدة عقود.
أصول الأغنية العصرية بالمغرب:
يشير الدكتور حسن بجراوي في هذا الصدد، إلى أن الأعنية المغربية العصرية نجمت عن تظافر جملة من العوامل الخارجية (الأعنية المشرقية المصرية الخاصة) والمؤثرات الداخلية (الغناء التقليدي الأندلسي والغرناطي وطرب الملحون..) إلى جانب استلهام التراث الشعبي المحلي الرائع (كالعيطة والطقطوقة والبراويل..) واتخذت من كل ذلك سبيلا لإنتاج أغنية عصرية ذات هوية وطنية غير مستلبة…
ويضيف الباحث حسن على أن عازف القانون المصري مرسي بركات قد حل بالمغرب بدعوة من المولى عبد العزيز (1906) مع مجموعة موسيقية لإحياء بعض الحفلات في القصور السلطانية، ولكن يبدو أن المقام قد طاب له ببلادنا وأوحى للملك بإنشاء جوق ملكي عصري يتولى إحداث تحول في التقاليد المخزنية العتيقة في باب الموسيقى والتطريب…، وهكذا جرى الدخول المباشر للأدوار والطقاطيق الشرقية إلى الأرض المغربية إلى جانب فنون الموشحات الشامية والأندلسية التي صار المغاربة يطبعون معها ويتلقون أبجديتها أولا بأول.. وهو ما سيفسر بعد ذلك عن بروز نخبة من شباب العازفين المغاربة الأوائل.
ويكمل بحراوي أن الدور الكبير الذي نهض به مرسي بركات في (شرقنة) الموسيقى المغربية، والشرقنة هنا لا تخرج عن الغناء الكلاسيكي المصري على وجه التحديد ممثلا في أغاني الشيخ محمد أبو العلا وسيد درويش وسلامة حجازي وعبده الحمولي ومحمد عبدالوهاب…. الخ، يضاف إلى ذلك أنه من خلال العقد الثاني وما تلاه من حقبة الحماية ستبرز إلى الوجود ظاهرة الفرق المسرحية المصرية الجوالة ابتداء من 1923 والتي كان طاقمها يتضمن على الدوام جوقا موسيقيا من المألوف أن يفتتح العروض التمثيلية ويختتمها وربما قدم وصلات موسيقية بين المشاهد على الطريقة التي كان معمولا بها في المشرق خلال تلك الحقبة…
ويبرز الكاتب بحراوي الدور الذي لعبته الإذاعة التي أنشأتها سلطات الحماية أواخر العشرينييات (1928) وصارت بعد وقت قصير وسيلة المغاربة إلى لانفتاح على نماذج الغناء المصري الكلاسيكي وموسيقى التطريب الشرقي التي أصبحت تملأ البيوت والمقاهي وتشنف أسماع الشباب الذين كانوا قد ضاقوا ذرعا بالغناء التقليدي العتيق الذي ظل يعزف مباشرة على أمواج الإذاعة قبل استحداث التسجيلات المسموعة…
الأجواق المغربية
يبرز الدكتور بحراوي في هذا الصدد، على المكانة التي تحتويها المدن الكبرى في المغرب ك (الرباط، الداربيضاء، وفاس..) بمثابة خلية نحل أو مختبر تجارب بالنسبة للأجواق والفرق الموسيقية التي سارعت إلى التكاثر ابتداء بركات الذي من أربعينات القرن الماضي مستفيدة من الظروف المواتية التي تحققت باجتماع العازفين حول مؤسسة الإذاعة وانتشار المعاهد الموسيقية وقاعات العروض وتوفر إمكانات العمل هي الأعراس والجفلات.. وكل ذلك سيكون بمثابة التربة الخصبة التي ستتيج انبثاق المواهب الموسيقية لدى الشباب المغربي، وفي مقدمتهم شبيبة المدن الكبرى كالرباط وفاس ومراكش، فتنطلق مخترقة الآفاق التي ظلت حتى ذلك الحين مغلقة أو تكاد، في مجالات العزف والغناء والتلحين…إلخ.
يضيف الناقد بحراوي أنه قبل ذلك بقليل أي خلال الثلاثينيات وبأمر من السلطان محمد الخامس سيتأسس بالرباط (الجوق الملكي للموسيقى العصرية) وستسند إدارته للقانونجي المصري مرسي بركات الذي ستكون له أيادي بيضاء على الممارسة الموسيقية بالمغربة وذلك عندما أحاط نفسه بمجموعة من شباب الموسيقيين المغاربة نذكر من بينهم أحمد البيضاوي ومحمد السميرس وعباس الخياطي ومحمد القزوي وعبد القادر بن صالح.. وغيرهم ممن تولى الفنان المصري تفقيههم بأصول الموسيقى العربية وقواعد العزف الشرقي… وقد أحيا هذا الجوق حفلات عيد العرش لسنة 1937 وكان نشاطه سبيلا لإشاعة الغناء العصري والانخراط في محاولة المزج بين الإيقاعيين المشرقي والأندلسي الموروث عن هجرات الأندلسيين بعد سقوط غرناطة..، وبعد رحيل مرسي بركات أواسط الأربعينيات سوف يتكلف أحمد البيضاوي بإدارة الجوق الملكي للموسيقى، وفي ذات السياق أمر نفس الملك بتأسيس (جوق الخمسة والخمسين للموسيقى الأندلسية)، وجعل على رأسه المغربي عبد السلام الرفاعي والد الفنانين عباس والغالي الخياطي…
الأغنية المغربية بين المستورد والمحلي
يستخلص الباحث حسن بحراوي مما تقدم، أن الأغنية المغربية الناشئة قد امتجزت فيها روافد متنوعة محلية تراثية وشرقية تطريبية، دشن النوع الأول فنانون عصاميون تلقوا أبجدية الفن الموسيقي في صفوف الأجواق الجهوية التي تنشط في الحفلات والمناسبات وانخرطوا في محاولات شخصية حتى العظم ولكن منبثقة من أوفاق الغناء الشعبي في نماذجه الأكثر تداولا وأصالة. وكان في طليعتهم حسب الترتيب الزمني محمد فويتح وإبراهيم العلمي ومحمد بنعبد السلام الذين جازاهم الجمهور المغربي بالالتفاف حول تجربتهم والتعلق بأسلوبهم الذي تجتمع فيه الأصالة والحميمية.
ويضيف الكاتب على أن النمط الثاني نجم عن فنانين تلقوا تكوينهم في بلاد المشرق وخاصة مصر وشيدوا مجدهم باستلهام الأسلوب العربي الشرقي عبر استمزاجه مع الأوفاق المحلية الغميسة (الأندلسي والملحون) ولكن الأشد تأثيرا على الأذن المغربية من مختلف الأجيال… وهؤلاء يتفقون على اختلافهم في نشدان إبداع مغربي لا نزاع حول قيمته الفنية وإشعاعه الجماهيري.. ونذكر من بينهم عبد الوهاب أكومي وعبد السلام عامر وعبد الرحيم السقاط..
وإذا كان الأول قد تحكم فيه الهاجس البيداغوجي وانصرف إلى إنشاء المعاهد واقتراح التعلمات الموسيقية لتمكين الناشئة من المعرفة الفنية ذات الصلة مما قلص من إبداعه الشخصي مقابل استغراقه في الهم التربوي.. فإن الآخيرين قد أتيح لهما أن يؤسسا لأغنية مغربية أصيلة تجتمع فيها المكونات الشرقية دون أن تنتفي المقومات المغربية.. وساعدهما على ذلك لقاؤهما بأصوات نابهة لعل أبرزها صوت المعطي بلقاسم وعبد الهادي بلخياط ومحمد الحياني…
وعن الحالة الاستثنائية في الفن المغربي، يذكر حسن بحراوي، الرائد أحمد البيضاوي حيث امتد فنه عميقا في المرجعية الشرقية على الرغم من عدم تتلمذه المباشر على الغناء الشرقي الذي تأثر به بكل قوة عبر الاستماع الإذاعي والتمرس الطويل والمباشر في الأجواق المقلدة في البيضاء والرباط.. وأما الحالة الاستثنائية الثانية فيمثلها عبد الوهاب الدكالي، الذي وإن كانت موهبته الغنائية قد انبثقت في المغرب، فإنه قواها وصقلها بإقامة فنية مطولة نوعا ما قضاها في مصر.. وفتحت له أبواب التألق كملحن ومغن ذي إنتاج متميز وغزير ولا يحيل على أية مرجعية بعينها.. وقد ساعده في ذلك ارتباطه بشاعر شعبي قل نظيره هو أحمد الطيب لعلج الذي أمده بكلمات جديدة في أسلوبها ومضمونها (ما أنا إلا بشر * وكتعجبني..)
أسباب أفول الأغنية المغربية
من أسباب أفول الأغنية المغربية، يشير الناقد بحراوي، أنها أسباب ليست ضربة قدرية أو مصيرا محتما، وإنما كان نتيجة جملة من العوامل والمثبطات التي تكالبت على الأغنية المغربية العصرية والتي يمكن إيجازها لدى المهتمين والمتتبعين في العناصر الآتية:
رحيل الرواد الأوائل بالشيخوخة والمرض، وتوقف الآخرين عن الإنتاج بسبب قلة التحفيز وتغير وسائل التلقي التي صارت إلى تعقيد غير مقدور عليه (فيديو كليب وأنترنيت ومشتقاتها..)
قلة الاهتمام الذي ظل ينوبها من الإعلام السمعي البصري الوطني الذي صار يفضل عليها شقيقتها المصرية والخليجية، وهو الشيء الذي انعكس برأيهم على عطاءاتها وانتشارها في أوساط الشباب، وقلص بالتالي من إمكانية تطويرها واستمرار إشعاعها..
وبالنسبة لآخرين، فإن المسؤول عن الوضع هو تضاؤل إمكانيات الإنتاح وفرص التسويق نتيحة سيادة القرصنة التي تؤدي إلى ضياع حقوق الملكية الفنية في الداخل والخارج
يواصل الحميع الإشارة بأصبع الاتهام إلى (الغزو المشرقي) في صورته الأكثر ضحالة، بوصفه السبب الرئيسي في تقهقر الغناء المغربي الذي لم يعد بوسعه مواجهة الموجات المتتالية وذات الإغراء الكبير في الإبداع والتقنيات
ثم هناك أخيرا الإحالة على الغياب شبه التام للمواكبة النقدية التي تحتاج إليها كل حركة فنية لتواصل الإنتاج والتطور، ناهيك عن غياب الوعي بتغير الذوق لدى الأجيال المتعاقبة وعدم الاهتمام بتجديد أساليب التلحين والأداء لكي تواكب تلك المتغيرات وتلبي حاجتها المستجدة لدى المتلقي.