حسن رشيق في افتتاح الموسم الجامعي بكلية الآداب ابن مسيك: الهوية المغربية بين الإرهاصات التاريخية للتشكل ومنطق التراكم في البناء

تشكل المقاربة الأنتربولوجية التاريخية أرضية نقاش علمي يمكن من خلالها مقاربة الهوية المغربية كموضوع بحثي تتقاطع في رصده وبحثه عدد من القراءات العلمية المتكاملة ، وذلك في أفق تشكيل نسبي وممكن لنظرة أكثر وضوحا وموضوعية لواقع تشكل هويتنا المغربية وبنائها التاريخي وآفاق استمراريتها الوجودية. ضمن هذا السياق و في إطار افتتاح الموسم الجامعي الحالي 2024-2025 نظمت كلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك بالدار البيضاء يوم الخميس 24 أكتوبر 2024 بمدرج عبد الله العروي في الساعة العشرة صباحا، درسا افتتاحيا من تقديم وتأطير الأنتربولوجي المغربي حسن رشيق، وقد شكلت هذه المحاضرة الفكرية مناسبة لعدد من الحضور من الطلبة والباحثين والأساتذة الجامعيين للتفاعل ومعانقة الأنفاس التحليلية التي حاول درس رشيق أن يضطلع بها أثناء تفكيك ومقاربة موضوع الهوية المغربية بأدوات تحليل خاصة، ظهر أن المتحكم فيها كان هو القراءة الأنتربولوجية التاريخية. ومن أجل جعل هذه المادة الصحفية المكتوبة ذات أنفاس تفاعلية أكثر ودون الدخول في سردية الكتابة التقريرية، أمكن إجمالا الإمساك بثلاثة محاور رئيسية شكلت على ما يبدو الأرضية التي حركت المقاربة التحليلية لدرس حسن رشيق.
أولا، نجد أن الحديث عن الإرهاصات التاريخية الأولى لوعي الذات الجمعية المغربية وتمثلها لوجودها الهوياتي قد احتل مساحة مهمة في أحاديث هذا الدرس الأكاديمي، انطلاقا من طرح المحاضر لتساؤل إشكالي رئيسي حول الزمان التاريخي الذي ابتدأ فيه المغاربة فعلا يتمثلون هويتهم الجمعية كأمة مغربية؟ وذلك بالارتكاز على ما يمكن أن تمنحه الأركيولوجيا التاريخية من ممكنات قياس موضوعي نسبي، بعيدا عن سرديات الخطابات العاطفية وشحناتها الذاتية. ضمن هذا الإطار اعتبر حسن رشيق أن تاريخية المجتمع المغربي وحضارته لم تكن تسمح في أحسن الأحوال، إلا بإنتاج أنماط معينة حضر فيها منسوب معين من الإحساس الجمعي بهويات تاريخية معينة في المجال المغربي إن صح التعبير، حكمتها بشكل أكبر أنماط قديمة للتجمع كالقبيلة والمخزن والمدشر كعناصر تاريخية ظهرت وتحركت ديناميا بأشكال متعددة من التعبير الهوياتي بمفهومه المحلي في مجموع الجغرافيا المجالية المغربية أكثر منها أن تكون تعبيرا عن تمثل هوية مركزية جامعة على المستوى الجمعي العام لكل المغاربة. وهو معطى لم يتحقق بشكل واضح وعملي إن شئنا القول حسب قراءات رشيق إلا مع خضوع البلاد للحظة الاستعمارية بداية القرن العشرين، واضطلاع الحركة الوطنية المغربية بإنتاج خطاب معرفي جديد محدده الأساس هو الدفاع عن وجود أمة مغربية بما يحيل عليه المصطلح من شعور بهوية مشتركة لكل المغاربة معبرة عن وجودهم الجمعي في كليته، بعد أن استشهد المحاضر في تدعيم أطروحته هذه بمجموعة من المفاهيم التي عزز الوطنيون المغاربة من تداولها زمن الاستعمار الفرنسي للبلاد المغربية داخل خطاباتهم السياسية من قبيل الشعب والجماهير، كتعبير عن نشوء تمثل لمفهوم الهوية المغربية بالشكل الذي طرحه التصور الأنتربولوجي لحسن رشيق نفسه .
وعلى كل لا يمكن اعتبار هذا المستوى من التحليل لهذا الأخير نابعا من رغبة في إلغاء أي إمكانية لوجود جذور تاريخية محتملة لتشكل مفهوم الهوية الجامعة في الذهنية المغربية ، على مستوى التمثل والاستحضار، طالما أن أنفاس نفس المحاضرة، قد أكدت في مساحات أخرى من الحديث على أن هذا الشعور الهوياتي عند المغاربة طالما تم التعبير عنه عبر قيم جمعية ذات دلالات معينة أخرى من أشكال التجمع، حضر فيها الشعور الوطني المرتبط بسياقات تاريخية ظرفية كالدفاع عن البلاد في وجه الخطر الغزو الإيبيري
و التركي خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلادي، متقاطعا مع قيم أنتجتها تفاعلات الساكنة لهذه الأرض المغربية بخلفيات شعبية وثقافية و دينية واجتماعية وغيرها، بعيدا ما أمكن عن أي نظرة عرقية ضيقة. وهي المعطيات الهوياتية التي حاول زعماء الحركة الوطنية في المغرب، زمن فترة الحماية الفرنسية، البناء عليها للدفاع عن أطروحة وجود خصائص مشتركة تميز الذات المغربية في بعدها الجمعي بشكل اعتبر مقبولا حسب تحليل رشيق طالما أن ما سماها قرينة السياق التاريخي لتك الفترة قد فرضت هذا التصور المعين لشكل وماهية الهوية المغربية.
وحري بالذكر أن احتفالية المغاربة الأولى بعيد العرش إبان عهد الحماية قد اعتبرت، حسب أطروحة رشيق، اللحظة التاريخية الأولى التي يمكن اعتبارها الزمن التاريخي الذي انبثق فيه بشكل واضح مفهوم الهوية المغربية كنمط جديد من التجمع الجمعي الذي اختاره المغاربة، واتفقوا عليه بعد أن تحول السلطان الراحل محمد الخامس إلى رمز قومي وطني لأمة مغربية التقى أفرادها المنتمون لجماعات متنوعة في انتماءاتها المجالية فوق هذه الأرض بما يحيل عليه هذا التنوع من تواريخ محلية، وتجارب حضارية جماعية خاصة على إجماع واتفاق حول السلطان الرمز المعبر عن هوية جامعة لكل عناصر هذه الأمة المغربية. سنجد في المقابل أن تفكيك أدوات تحديد وتحليل تشكل هذه الأخيرة برز كمحور ثان، حرك طروحات رشيق الأكاديمية خلال هذا الدرس الافتتاحي. صحيح أن أحاديث المحاضرة أكدت على القيمة النوعية التي انبرت لها التحليلات المؤسسة للدرس الأنتربولوجي زمن الحماية الفرنسية ببلادنا مثل المقالة البحثية الأولى حول الذهنية المغربية التي أصدرها الباحث الفرنسي “لوي برينو” في بداية العشرينات من القرن الماضي وكتاب جورج هاردي باللغة الفرنسية حول “الروح المغربية” إلى جانب كتابات جاك بيرك في هذا الإطار وهي سرديات بحثية، لم ينكر المحاضر مجهودها التحليلي و الميداني إلا أنه انتقد خلاصاتها التي اعتبرها قامت على حصر ملامح الهوية الجمعية للمغاربة في سمات خارجية معينة محدودة مرتبطة بالسلوك، وهي التي تم رصدها بالبحث من طرف هؤلاء الباحثين الكولونياليين بشكل لا يستقيم والشرط الموضوعي الواجب في التحليل حسب نفس المحاضر، طالما أن عددا من هذه السلوكات الجمعية المدروسة هي قابلة لأن تنتج على المستوى الكوني عند كل الشعوب حسب ما يفرضه السياق المعاش على الأفراد أو الجماعات المعنية داخل بيئاتها المحلية سواء اجتماعيا أو اقتصاديا أو حتى على مستوى السيكولوجي الفردي . وبالتالي فإن منطق السمات الثابتة للهوية المغربية التي حاولت الدراسات السالفة الذكر الترويج لها بقوة هو متجاوز حسب هذا التحليل الأنتربولوجي لرشيق، نظرا لأنها تنتج نوعا من القراءة الأحادية ذات البعد السلطوي الإقصائي لأي مساحات قرائية مفتوحة ممكنة يمكن من خلالها النظر إلى عناصر هويتنا الجمعية في شموليتها وديناميتها الذاتية المتحركة بعمق تراكمي حسب ما يستشف من أحاديث هذا الدرس الجامعي الافتتاحي. وبالتالي فالأهم حسب هذا الأخير هو البحث عن رصد تراكمية العناصر التاريخية المشكلة بعمق دينامي مفتوح للهوية المغربية، دينية كانت أو لسانية أو ثقافية وغيرها كمدخل لفهم تمظهراتها في الممارسات الجمعية والفردية كذلك، بعيدا عن أي منطق سلطوي أو تحكمي إلزامي يحاول حصر وتنميط هوية المغاربة وخندقتها في تمثلات بعينها تحكم على شرطنا الوجودي بالضياع إن صح تعبير الكاتب وسط زحمة من الكليشيهات الهوياتية الجاهزة و القابلة للتوظيف الإيديولوجي لا أقل ولا أكثر.
أما المحور الثالث الذي برز كمحرك آخر للسرد التحليلي لهذه المحاضرة، فهو البحث عن الشروط الموضوعية التي يمكن أن تضمن عمليا استمرارية هذه الهوية المغربية في زمانها التاريخي المستقبلي المفتوح إن صح التعبير، حيث تظهر الحاجة ملحة هنا حسب رشيق لاعتماد منطق التراكمية في النظر إلى هويتنا المغربية الجمعية كأرضية تسمح بالاعتراف بالعناصر القاعدية المشكلة لهذه الهوية تاريخيا من ثقافات أمازيغية وعربية وإسلامية وعبرية وأندلسية و غيرها. وتمكن أيضا من تعزيز استمرارية هذه الهوية وتشكلها المستمر و ضمان قابليتها لاحتضان هويات جمعية بعد تداولها والاتفاق عليها من طرف جماعات المجتمع المغربي حسب ما سيطرحه دائما المنطق الوجودي للحياة لهذه الجماعات الساكنة على هذه الأرض، الناطقة بروحها المغربية الأصيلة بشكل يعطينا أيضا فرصة الاشتباك بمفهومه الفضائي مع حد أدنى من المشترك الهوياتي الجمعي داخل وعاء قيمي أساسه محددات رئيسية هي: الحرية في التمثل والممارسة والبعد عن المنطق الإلزامي، والإيمان بشرطية قرينة السياق الذي سيظل يحكم الإنتاج الظرفي والمستمر لأي هوية ما إن على المستوى الفردي أو الجماعي.
لا ننسى أن نهاية المحاضرة الرئيسية لحسن رشيق قد فتحت الباب لعدد من الحضور التفاعل مع ما طرحته من مفاهيم وقضايا حول موضوع الهوية المغربية، وذلك بعد أن عبر إبراهيم فدادي مسير هذا اللقاء الفكري وعميد الكلية المحتضنة له في كلمة تعقيبية عن أهمية ما تم طرحه من مقاربات نوعية داخل هذا الدرس الافتتاحي. علما أنه وحسب نفس المتحدث يبقى من الضروري الانتباه إلى قيمة التعايش كعنصر حضاري بإمكانه أن يحقق هذه الهوية الجمعية المنشودة بعيدا عن منطق الصراع بين الذات والآخر. وعموما فقد تركزت أسئلة بعض الحضور حول استفهام البعض حول ماهية الهوية التراكمية المغربية التي طرحها رشيق، سواء التساؤل حول إمكانية إما فقدان قيمتها التاريخية المشكلة لها أو ممكنات حفاظها هي نفسها بمنطقها التراكمي على المشترك الهوياتي لكل المغاربة مع استفسار البعض الآخر، إما عن الفرق بين الشخصية المغربية والهوية المغربية على المستوى الاصطلاحي أو ممكنات الحديث عن وجود ثابت ومتحول في هذه الأخيرة. وهي استفهامات حاول حسن رشيق التجاوب معها من خلال التأكيد على عنصر جوهري حسب قراءته الأنتربولوجية الخاصة، وهو ضرورة الانتباه للخطر الذي يمكن أن يلحق بهويتنا الجمعية من جراء إصدار أحكام القيمة السلطوية الراغبة في الانتصار لعنصر هوياتي دون آخر بشكل يصل حد الإلزام في بعض الممارسات، مشددا في نفس الآن على أن المنطق التراكمي يظل المقاربة المثلى حسب نظره لتعزيز، من جهة تماسك العناصر المشكلة للهوية المغربية في عمقها التاريخي إن شئنا القول. ومن جهة ثانية،ضمان دينامية هذه العناصر وقابلية تراكمها مع عناصر هوياتية جديدة مغربية يمكن الاتفاق عليها و تداولها بشكل جمعي حسب سياقات القرينة المستجدة في كل ظرفية و تجربة وجودية لاحقة للمغاربة على هذه الأرض.


الكاتب : بقلم: سمير السباعي

  

بتاريخ : 13/11/2024