الثقافة ليست قطعة غيار
بل هي كامنة في كل الأنساق التنموية
شدد الشاعر والكاتب والرئيس السابق لاتحاد كتاب الغرب حسن نجمي على أن «الديمقراطية ليست خيارا سياسيا فحسب، بل ينبغي أن تكون ثقافية بمعنى أن كل التعبيرات وكل الرأسمال اللامادي للمغاربة ينبغي أن تكون له حصته في الخريطة الثقافية الوطنية».
وأضاف صاحب «جيرترود» يوم الأربعاء 29 أبريل، في بث مباشر على صفحة «السوسيولوجيا الحضرية» على الفايسبوك حيث كان ضيف سلسلة الندوات الموضوعاتية عن بعد، والتي أطلقتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس لفائدة طلبة ماستر «سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية»، أن الحديث عن البعد الشفهي في الثقافة الوطنية المغربية ليست جديدا لذا يقتضي الأمر مقاربته من عدة مداخل: أولها المدخل التاريخي والذي يكشف لنا عن مسار تطور الثقافة المغربية وكيف تشكلت عبر التاريخ، ثم عبر موضوع الثنائية التي طُرحت ولاتزال تطرح بابتذال أحيانا، بين الثقافة الشفوية والثقافة العالمة. ولفت مؤلف»أنطولوجيا الهجرة في الرواية العربية» إلى أن الأمر يتعلق في العمق بنوع من التراتبية بين هذين المكونين، بمعنى من له الأولوية هل المدون والمسجل والمكتوب من نتاجنا الثقافي والأدبي والفكري أم الشفهي؟ هذا الأخير الذي تم إهماله واعتباره بدون قيمة في عملية بناء الثقافة الوطنية وبناء نسق حضاري يمكن الانتساب إليه كصانع شخصية وهوية ووجدان، مقرا بأن الثقافة المغربية لا يمكن أن تشيد كيانها دون إعطاء الاعتبار لبعدها الشفوي، سواء الشفاهي الأمازيغي أو العربي (العروبي).
التراتبية بين الثقافتين المكتوبة والشفهية ليست وليدة التاريخ المعاصر، يؤكد صاحب»غناء العيطة»، بل تعود إلى عهد الدولة المرينية بعد فقدانها لآخر إماراتها بالأندلس وما صاحب ذلك من توافد المغاربة الأندلسيين على المغرب واستقرارهم بالحواضر الكبرى مثل فاس، الرباط، تطوان، سلا ومراكش. ففي هذه الفترة برز الأندلسيون في جميع المهن من تدبير الإدارة إلى الصنائع ثم العلوم إلى الدين، وبالتالي استطاعوا أن يخلقوا نموذجا ثقافيا واجتماعيا كممارسة يومية من خلال تعبيراتهم الثقافية والاجتماعية من موسيقى وطبخ وعمارة ولباس ، وهذا النموذج هو ماعملت الدولة المرينية على تبيئته وترسيخه في النسق الثقافي المغربي مقابل تهميش وإقصاء المكون العروبي والأمازيغي. وأشار نجمي إلى أن هذه التراتبية مازلنا نعيشها اليوم بصيغ جديدة، حيث يظل النموذج الأندلسي الذي سمي لاحقا بالنموذج «الفاسي» هو المتفوق في غياب الاهتمام بل وتهميش التعبيرات الشفوية الأخرى على مستوى التدبير الثقافي.
ومن مظاهر هذا الإهمال الذي لحق التراث الشفهي، ساق نجمي غياب التأريخ للعديد من التعبيرات الغنائية والشعرية والموسيقية(الأمازيغية، الحسانية، الإفريقية، العروبية، الصوفية)، وهو الغياب الذي
عزاه إلى خيار فكري ومنهجي ومعرفي لدى النخب والمؤرخين القدماء في الغرب الإسلامي وفي المغرب خصوصا ، أمثال ابن بسام الأندلسي وابن خير المواعني والمؤرخ عبد الواحد المراكشي وابن عذاري الذين أهملوا الإشارة أو الاستشهاد بكل ماهو شعر شفهي بما فيه الأزجال الأندلسية والموشحات، وهي العقلية، يشدد نجمي، التي استمرت حتى لدى بعض المثقفين المعاصرين ومثقفي الحركة الوطنية بل وزعمائها الذين أعطوا الأولوية للغة العربية الكلاسيكية» الفصحى»، حيث اعتبروا مركزيتها والاهتمام بها من باب الواجب النضالي للدفاع عن الكيان الوطني ضد المستعمر ومخططاته.
هذا التقليل من شأن اللغات الدارجة الأخرى، أشار نجمي، هو الذي ساد ولا يزال الى اليوم يميز النسق الثقافي المغربي الذي أصبح ملحا اليوم أمامه، إعادة الاعتبار لباقي روافد الثقافة خصوصا البعد الشفوي لان أي حديث عن الثقافة المغربية لا يمكن أن يكون منصفا إلا بإدماجه واعتباره عنصر غنى كما نصت على ذلك أدبيات منظمة اليونسكو التي صنفت عددا من الأساليب والصيغ الجمالية ، التي هي في الأساس شفوية، في خانة التراث اللامادي وهو ما يستدعي إعادة الاعتبار للمكون الشفهي من خلال استراتيجية ثقافية وطنية تسعى إلى:
-التدوين والكتابة والتسجيل السمعي البصري.
-إعادة تملك هذا التراث الشفهي من خلال البحث الجامعي والأكاديمي وإدراج الثقافة الشفهية في المناهج الدراسية والكتب المدرسية.
ولفت نجمي بهذا الخصوص إلى أن إعادة الاعتبار لا ينبغي فهمها بالمعنى السياسي، بل بالمعنى الوجودي والذي لن يتم إلا بالتفكير في دمقرطة الحياة الثقافية كنهج وسلوك، وفي إطار رؤية وطنية وحرص على توحيد كل مكونات الثقافة رغم وجود عنصر الخصوصية الذي يجمع أكثر ما يفرق من خلال التكامل والتلاقح الذي يهدف إلى إنتاج ثقافة وطنية واحدة وغير أحادية التصور، بل قائمة على مفهوم الاختلاف والتعدد والانفتاح بكل ما يعنيه التعدد من تنوع في المرجعيات والمصادر واللغة وهو ما يشكل مكسبا من مكاسب المغرب التي يجب صيانتها برؤية ديمقراطية.
وخلص نجمي إلى أن مهمة وضع استراتيجية ثقافية وطنية، لا يمكن أن تتحملها الوزارة الوصية لوحدها أو الوزارات المتدخلة في القطاع، أو المؤسسات الحزبية بل هي مرتبطة بتصور شمولي وببناء نموذج تنموي وطني يولي الاعتبار للمكون الثقافي ويعتبر أن كل أشكال التنمية الاقتصادية أو الاجتماعية لابد لها من خلفية وقاعدة ثقافية، مشددا على أن الثقافة ليست قطعة غيار بل هي كامنة في كل التعبيرات والأنساق الأخرى في المجتمع. إذ لا يمكن التفكير في الاقتصاد أو السياسة أو المجتمع دون استحضار العنصر الثقافي الكامن فيه.
وأشار نجمي الى أن التنمية الثقافية في جوهرها هي أن يعثر المغاربة بكل مكوناتهم، التي أصبحت مدسترة منذ 2011، على أنفسهم وأن تكون لكل هذه التعبيرات حصتها في النسق الثقافي الوطني : في السياسات الحكومية وفي المخططات التنموية وفي الإعلام وكل ما يمكن أن يشكل ثروة مادية أو رمزية، بعيدا عن المنطق العشائري أو القبلي بل في إطار الوحدة واللحمة الوطنية الجامعة.