حــــديـــثُ مــحْـــبَـــرة

مــجــتــمــع الــمــعـــرفـــة

كنت أشرت في خاتمة المقالة السابقة إلى وجوب النهوض بالتربية والتعليم، إذا شيءَ لنا أن نخوض مع الخائضين معركة البناء وكسب المستقبل بحيازة مكان معتبر يرفع هاماتنا، ويعلي شأننا للولوج إلى مجتمع المعرفة. وليس غير الحرص على إحداث وتأهيل البنية التحتية، سبيلا إلى رقينا ورفعتنا، وما يضفي على وجودنا الاعتبار والنجاعة، ويسمح لنا بدخول نادي الكبار المساهمين في دفع عجلة التقدم والتطور قُدُماً إلى الأمام، والسير المنشرح المنسرح الغرّيد فوق رؤوس الحقب. أما البنية التحتية التي نقصد، فليست سوى نظام التعليم وأنساقه ومساقاته، وأطواره، وأسلاكه بدءاً من مرحلة ما قبل المدرسة ( التعليم الأولي ) إلى مرحلة الدراسات العليا، ومعاهد البحث في الجامعات، والقطاع الخاص، والجهات الداعمة للمعرفة والثقافة: أشخاصا ذاتيين أو معنويين. تانك الركيزتان اللتان عليهما قوام تربية النشء والإنسان في حب الغير، والتحلي بروح المواطنة الفعلية، والعمل المنتج، والأمانة والحكامة في تحمل المسؤولية، وتدبير الشأن العام في مناخ من الحرية والديمقراطية.
ولا مُشاحَّةَ في المعرفة التي يتغياها المجتمع الحي المتطلع المشرئب، فهي المعرفة المنتجة للثروة، المعرفة التي تنبني وتقوم على تعليم علمي إناسي وإنساني منتج وفعال؛ وعلى امتلاك المعلومات بما هي مصدر للقوة والسلطة، ومنطلق إشاعتها وتدويرها لتصبح طوع اليد، وعلى كل بال ولسان بفضل الثورة التواصلية، والرقمنة، والتكنولوجيا الدقيقة العابرة للبلدان والقارات.
ومن ثَمَّ، بات الاهتمام بالتربية والتعليم، وإيلاؤهما العناية البالغة، والتركيز العقلي والتجريبي، ورصد الاعتمادات المالية الضخمة لدعمهما وتعزيزهما، طموحا وواقعا لا مندوحة عنهما، مما يعني ـ بكلمة أخرى ـ ضرورة إصلاح التعليم جذريا بما يدمجه في عالم اليوم اللاهث المتحول، ويربطه بمنطق وحراك، وجذوة مجريات الوقائع والأحداث في المدى المنظور، والمتوسط، والبعيد أيضا.
إن إصلاح التعليم، والنهوض به النهوض المبرمج المدقق والاستراتيجي، أولوية الأولويات ـ ونحن الذين لا نزال نراوح أمكنة اهترأت، ونلوك أفكارا أقْوَتْ، ومناهج بليتْ، وبرامج دراسية مترنحة بعيدة عن هموم المتمدرسين، وانتظارات الواقع، وسوق الشغل، والخدمات المختلفة، والمقاولات.
ولا يخفى بحال أن المجتمعات العربية، وبلادنا جزء منها، تعيش ـ إلى اليوم ـ صراعا فكريا ولغويا، وعراكا ثقافيا وهُوياتيا في خصوص السلطة المعرفية لجهة من هو الأجدر بها ليتصرف فيها ويستعملها: أهم أولاء الذين يدافعون عن التراث بشراسة وانغلاق، أو من يدعون بكل ما ملكوا من فكر وجدل وإقناع، إلى التحديث والحداثة بمشمولاتها التعليمية، والاقتصادية، والثقافية، والإدارية، والمعلوماتية، والسياسية.
وإذا كان التراثيون لا يملون من ترديد لاَزِمة: الحل في تبني التربية الدينية في كل شؤون الحياة، والتعويل على الكتاب الأول الأعظم، وفقه السنة، بما يسمح بإحقاق الملكوت على الأرض بعد أن طغى وتجبر فيها النَّاسوت والرَّهبوت، فإن الحداثيين ما فتئوا يراهنون على الاندماج في عصر الرقميات والمعلوميات، والرياضيات، واللوغاريتميات، والاكتشافات الإحيائية، والطبية، والابتكارات الاقتصادية، وامتلاك المعرفة التي بها يتيسر الدخول إلى الكون المُعَوْلَم، والإفادة من ثمار فتوحاته العلمية والتكنولوجية، ونواتج اجتراحاته الفكرية والأدبية، والإبداعية، والإنسانية بعامة.
صراع أو احتراب لا يهدأ إلا لكي يبدأ مجِّددا أدواتِه، وشاحذا « أسلحته «، مُعيدا ومستعيدا نماذجَه ومُثُلَهُ، وقيمَه، وعناصره الوجودية والاجتماعية، والنفسية البانية إنْ في التراث ولو أنه مضى، وصار حبيس شروط وسياقات تاريخية معينة، أو في المقاربات الحداثية التي ترى في ما حققه الغرب وأمريكا، ودول أسيوية معروفة، من جاهٍ ورَفاهٍ، وقوة وسلطة معرفية باهرة، وتقدم ثقافي مَهُول، وتحكم مقتدر في دوامة الاقتصاد الجديد، وسحر التكنولوجيا الرقمية المدوخ، وثورة التواصل والاتصال الماحقة، لجديرٌ بالتلقف والاستدخال، والاستيعاب بعد العمل على قصقصة ما لا يصلح لمجتمعنا ذي الخصوصية المختلفة، واللغة المختلفة، والتاريخ المختلف. أيْ بعد العمل على أقلمته، وتكييفه، وتَبْيئته كما عبر المفكر محمد عابد الجابري، وآخرون. أو غِبَّ استيعابه، وضرورة استخدامه وتسخيره ثم تجاوزه في مرحلة لاحقة أتراثا عقلانيا كان، أم فكرا تنويريا حداثيا ومعاصرا على رأي المؤرخ والروائي عبد الله العروي، وآخرين كـ: طيب تيزيني، وعلي حرب، ونصر حامد أبو زيد، وبرهان غليون، ومحمد أركون، وعلي أومليل، ومحمد الشيخ، وأسماء لمرابط، وعبد الإله بلقزيز، وغيرهم.
ذلك أن « الحداثة ـ في ما يقول د.علي أومليل في كتابه ( سؤال الثقافة ) ـ لها طرق متعددة، فهي ليست متطابقة بل متعاصرة. كل مجتمع قد يصبح حديثا حداثيا على طريقته، فهي حداثات متكافئة، ندية، أي متعاصرة «.
وفي مرآة ما نقرأه، وضوء ما نتابعه ونَتقَرَّاه من معلومات ومعطيات عن مواصفات مجتمع المعرفة، فإن أصحاب المنزع التراثي، يجدون أنفسهم ـ بغتةً ـ خارج الجدل والمناظرة، مَفلولي العزيمة، مثلومي السيوف، ولو نحتوا ما نحتوا من مفاهيم ومصطلحات تثير الإعجاب، أو أتوا بالمعجز من اللغة الصافية المصقولة المشرقة، والإطناب، والدفاع القوي المسنود عن خصوصية أطاريحهم، واستقلال فكرهم واجتهادهم الحَفْري الرائد غير المسبوق كما يتبين ذلك لدى المفكر المغربي المرموق د. طه عبد الرحمان، وأتباعه ممن يستقون من حياضه. إذ أن مجتمع المعرفة المروم والمبتغى والمنشود لا يمكن أن يقوم ولن يقوم على إجلال وتقديس الماضي، وتعظيم أعلام ذاك الماضي، وأساطينه الكبار، ولو كان الفيلسوف الجهبذ ابن رشد، والمؤرخ الاجتماعي الفطحل ابن خلدون، وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي، تمثيلاً. فقد قطع مجتمع المعرفة الحديث والمعاصر، مع الماضي، ودفن متونه الفكرية التراثية والصناعية، والفلسفية حتى. فصرنا نتحدث عنه بما هو مجتمع جديد كل الجدة، عنوانه: الخلق والإبداع والابتكار، والكشوف المُزَحْزِحَة، والاختراعات المُحَوِّلَة، والمنافسة الشرسة في مجتمع ديمقراطي يضمن لأفراده، الحرية المدنية والسياسية: حرية الرأي والتفكير والضمير، والتجمع، وحرية الترشيح، والانتخاب والاقتراع، وامتلاك المعلومات ضمن حداثة سائلة متدفقة تدفق نهرٍ شبيه بنهر هيراقلطيس، والتي يتم تداولها وتبادلها وبثها عن طريق التقنيات الحاسوبية، والمعلوماتية، والفضائية المتعددة، وتوظيفها في ما يخدم الإنسان، مطلق إنسان من حيث تحسين معيشه، وتجويد حياته، واحترام آدميته.
غير أننا نعاين ـ والحسرة تأكل قلوبنا ـ مدى تخلفنا عن ذلك، وتأخرنا عن الركب الساري من جهة، ومدى احتكار المعلومات، وكبس زر تدفقها عن بلدان الجنوب لإبقائها طالبة راغبة متوسلة، مستخذية، وخادمة لدوائر الغرب وأمريكا، من جهة أخرى. فلا نحن أَبَنّا عن نية صادقة وعزم أكيد، وإرادة سياسية للالتحاق بركب المجتمع إياه، وخوض السباق، ونحن نعوم في نفس البحر، للوصول إلى الهدف المنتظر، والمرفأ الذي هناك، ولا الغرب الأنواري الذي شَقْشَقَ فلاسفتُه ومفكروه، وأعلامه، وسياسيوه، ومثقفوه ـ ذات زمن ـ بالأرض الواحدة التي تَسَعُ الجميع، والثروات الواجب اقتسامها سويا، وحصائل العلم والثقافة والحضارة التي ينبغي أن تصل إلى كل شبر شبر، ويعم خيرها: زرعها وضَرعها أركان المعمورة، هذه البرتقالة الزرقاء كما وصفها الشاعر الفرنسي بول إيلوار.
لم يحدث شيء من ذلك، بل انقلب أصحاب القرار السياسي والعنصري على النور والشمس، فعاثوا في أكثر من نصف الكرة الأرضية، استعمارا واستيطانا، ونهبا للثروات، وتفقيرا للأهالي، وتسخيرا لأصحاب الدار، وتكميما للأفواه التي طالبتها بالرحيل، أو ـ في الأقل ـ إشاعة أجواء الحرية بحُسْبان، وتمكين الناس من حقوقهم الثابتة ولو في حدها الأدنى. وهي الأفكار التي كانت ـ بطبيعة الحال ـ وراء تقدم أوروبا وأمريكا، ووراء تبويئها المقام الأسنى الذي ارتقت إليه، والذروة الحضارية التي وصلتها، فضلا عن عرمرم الثروات المادية واللامادية التي احتطبتها ليلا ونهارا من البلدان المغزوة. ولعل ذلك أن يكون أحد أسباب الممانعة والرفض من قِبَل الدول النامية المغبونة، وعاملا من عوامل نكوصها وانكفائها، وانزوائها وانكماشها، بل ومعاداة التصالح مع الغرب، ومع فكره، وثقافته، وموقفه المخادع والحربائي، مما فوَّت عليها وعلينا ـ في تقديري ـ اللحاق المفترض بزمنية سابقة على هذه، أو ـ في الأقل ـ مماشاته بالأخذ من جوهر رسالته التنويرية، ومبهر إبداعه، وابتكاره، واختراعاته. وإذاً، لا بديل عن الفكر الحداثي، والمقاربة التجديدية، والمراجعة المستمرة لكل ما نقوم به، ونفكر فيه، وندَّعيه، وندعو إليه من تعليم وتربية وثقافة، وسياسة، وفكر، واقتصاد « شبكي «، ورقمنة، وتحرير إعلام، وتحفيز البحث العلمي الجامعي ماديا ومعنويا، وإحداث مؤسسات حية يَقْظَى للترجمة والتراجمة، مدعومة وممولة. بغير هذا، سنظل مكبلين، عيوننا إلى الجدران، وعقولنا تجتر القات، وتمضغ برسيم العصور الخوالي. بغير هذا، سنظل سكان كهف أفلاطوني إلى إشعار آخر.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 21/01/2022