حـــــول المـــتنبي

 

منذ أيام وأنا أفكر في بيتين للمتنبي من قصيدة بقافية الكاف موجه لسيف الدولة طبعا. المتنبي شاعر عميق وحداثي (بدليل أننا مازلنا في بداية الألفية الثالثة وفي عالم تسيطر عليه اللوغاريتمات والذكاء الصناعي والكوارث الإنسانية والبيئية، نقرأه). المتنبي شاعر طوحت به الرغبات والأمنيات وسرقته من نفسه (لم تسرقه من شعره لحسن الحظ)، وانمنح ذلك الرنو شبه الحلولي للسلطة. هولدرلين كان جمهوريا وثوريا تحمس للثورة الفرنسية وحلم بحدوث مثلها في منطقة السوابSouabie وفي ألمانيا كلها، تآمر مع متحمسين ثوريين آخرين، وبعدما اعتقل بعضهم هرب هروبه الأخير، ليعبر من مستشفى المجانين إلى غرفة على نهر النيكار في منزل تقطنه أيضا أسرة شخص يمارس النجارة، وهناك قضى أكثر من نصف حياته (اثنان وثلاثين سنة) يكتب قصائده العظيمة ويكتفي بالإطلالة من النافذة على الماء الثرثار في نهر النيكار. المتنبي قبله بقرون لم يلذ بالجنون، بل إن جنونا آخر من نوع بارانوي عصابي مرتبط بإرادة السلطة قادة للتيه، والسقوط مضرجا في مهب بادية السماوة جنوب العراق. بعد الاستقرار طويلا بجوار مركز السلطة (بلاط سيف الدولة و والي حلب ثم كافور الإخشيدي والي مصر) انمنح للتيه، للترحل. السلطة تقبل مدح الشاعر لها، لكنها لا تقبل رغبته العارمة في أن يحوز مكانا داخلها، أن يصير من المنتمين لها. لقد طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته ولم يقبل سوى بالفلاسفة في صيغة الفيلسوف – الملك. انمنح المتنبي لنداءات الطريق، الطريق الغامضة التي ألفى دانتي عند منتصفها نفسه داخل غابة غامضة una Selva Oscura،هذا ما تقوله بداية النشيد الأول من(الجحيم). On the road، في الطريق/ داخلها كما قال جاك كيرواك في روايته التمائمية، كل شيء طريق، الطريق نحو الوجود هو نفسه طريق الوجود. (أول الطريق هو منتهاه) كما صاغت شعرا رابعة العدوية. حين نجت ح الطريق /الطرق لانفلت منها/ من غوايتها / عشقها أبدًا. انخرقت حياتي بشتى الطرق، طريق نحو الألق، طريق نحو باب الفردوس، طريق نحو الجحيم.Road to Hell ،كما غنى ذلك Chris Rea، أو أوطوروت نحو الجحيم Highway to Hell ، كما غنت فرقة الميتال AC.DC البيت الأول الذي أفكر فيه منذ أيام، هو قول هذا الشاعر الضليل الآخر صنو شاعر ضليل ينتمي للحقبة الجاهلية هو امرؤ القيس: [وأيَّا شئت يا طرقي فكوني / أداة أو نجاة أو هلاكا]…الطريق / الطرق التي اجترحها المتنبي حولت حياته إلى مصير، كما وقع لوالتر بنيامين إبان طريقه للهروب من الليل النازي حين تحولت حياته إلى مصير، انمنحت لمآلية الموت في قرية في جبال البيرني. إنها طريق / طرق مفتوحة وليست موصدة مثل طرق هيدغر وسط الغابة السوداء. وسط الغابات تكون الطرق موصدة، لكنها تظل مفتوحة في شساعة الصحراء.. تقود إلى التيه كما تقود إلى الخطر. لا تمنحنا الطرق اليقين، لأنها مسكونة بخرائطية الترحال وبهندسة التأرجح مثل بندول في ساعة حائطية. أتذكر منذ سنوات، عند أواخر السبعينات حين لفظتني حافلة ركاب ذاهبة إلى أزيلال على قارعة طريق في مكان فارغ ليس به سوى بساتين زيتون، ولأنني كنت حينها متهورا فقد انحشرت في الصاك دو كوشاج، دخنت لفافة محشوة بالعشبة الهذيانية ونمت الى الصباح. قادتني الطرق إلى طرق أخرى وقست بالكيلومترات حياتي. قد تكون الطريق أداة، مجرد مكان للعبور لا أقل ولا أكثر، قد تكون نجاة، طريقا نحو الخلاص، بالمعنى الذي ذهب إليه هولدرلين حين قال: «حيثما يتعاظم الخطر تلوح علامات النجاة». الطريق التي تقود إلى المرأة مثلا، نعمة في طيها نقمة، حين تقود شيزوفرينية الحب الى بارانويا الحياة الزوجية، فتنتقل من الذهان Psychose إلى العصاب névrose، لأن الأول ذاتي/ فردي والثاني مؤسساتي/ جماعي. لا نختبر العصاب إلا حين نصير أكثر من واحد. الطريق أيضا التي تقود الى الكتاب / إلى الكتابة تجترح النجاة وسط غابة الخطر. نعبر الطريق من الأشياء إلى الكلمات، لنفهم الأشياء، لنستطيع مجاورة الأشياء، الإقامة وسط الأجساد والأرواح المدلهمة مثل طقس يسبق العاصفة. لكن الطرق، كما يقول الشاعر الذي نظر الأعمى إلى شعره، قد تكون هلاكا، قد تقود إلى انمحاء الوجود. الموت في العمق ليست موضوعا ناجزا، ليست ماهية – كائنة – هنا- أمام – الإدراك، ليست مسبقا، لكنها أفق قيد الإتيان، موضوع ينبغي بناؤه، قد تقود إليه الطريق حين تصير هلاكا. النفري في [المواقف والمخاطبات] يقول: «طريقك بيتك . طريقك قبرك». نمخر الطريق / الطرق/ السنوات نجترح العديد منها، لنكتشف في النهاية أننا قضينا ردحا طويلا من الزمن نتقدم نحو قبر. أبي منذ سنوات وبعد مدة طويلة قضاها في «غوتام» عاد إلى الأصل، إلى مسقط رأسه هناك على مرمى حجر من المدينة البحرية، عاد لينام في سرير الأبدية قرب شجرة الزيتون التي ورثها عن أمه و التي كانت بجوار حائط المقبرة – جاك كيرواك في روايته الآنفة الذكر قال: «أنت، ما هي طريقك؟ طريق القديس، طريق المجنون، أم قوس قزح، أو طريق المعتوه؟ كيفما كان، أيا كان بإمكانه اليوم عبور أي طريق كيف ما كانت،أين، أنى، كيف؟]. لنتذكر بأن جريمة قتل الأب التي ارتكبها أوديب، والتي انكتبت سلفا في مآليته و مصيره كما أخبر العراف الأعمى تريزياس أباه حين ولادته، قد ارتكبت صدفة عند مفترق طرق. لا نسير في الطرق التي اخترناها. نسير في الطرق التي اختارتنا. من يستطيع القول بأنه يستطيع اختيار طريقه وسط الصحراء، وسط غابة غامضة… المتنبي اشتغل سنوات لاختيار طريقه، انتقل من بلاط إلى آخر، لكن إرادة الاختيار واجهته بالإخفاق، وكما يقع دائما حين تلفي الإرادة نفسها أمام باب مسدود تتيه عن نفسها، وهو تيه ذات الإرادة التي تفقد سلطة الاتجاه، تضرب في الطرقات كما لو أنها تضرب في صحراء الظنون. سبق للنابغة الذبياني التعبير عن هذا التيه في بيت شعري: [كليني لهم يا أميمة ناصب / وليل أقاسيه طويل الكواكب]، وصاغه امرؤ القيس قائلا: [بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه…] وعبر عنه باسكال بقوله: [صمت هذه الفضاءات الشاسعة اللانهائية يرعبني]. حين تنخرط ذات الإرادة في الإخفاقات، وتضرب في الطرقات، تصاب بالهذيان، تتقدم دون هوادة نحو حتفها. لنتذكر قصة بورخيص القصيرة بعنوان [الجنوب].(EL sur) تحكي الحكاية الأليغورية عن شخص قرر أخيرا تحقيق رغبته بالسفر إلى الجنوب، إلى «البامبا» حيث يوجد شعب الكاوتشو. ركب القطار. قطع عشرات، مئات الكيلومترات ونزل في محطة قطار نائية بها كوخ يستعمل كحانة يرتادها أفراد السكان المحليين، دخل طلب مشروبا لكن أحدهم في الحانة استفزه، أخرج سكينا من جيبه ودعاه للمبارزة في الخارج. أحد الجالسين في الحانة نظر إلى المسافر القادم للتو، أخرج سكينا كبيرا من جيبه ورماه للمسافر، وحين قرأ المسافر ما نقش على النصل الحاد وجد اسمه. إنها الكينونة-من-أجل-الموت sein-zum-tode كما بلورها هايدغر في كتابه المتاهي [الكينونة والزمن]sein und zeit، تحدث عنها عبر استعارة النضج والفاكهة، النضج لا يطال الفاكهة من الخارج بل من الداخل، يتخلق معها جوانيا منذ انبجاسها على غصن الشجرة، إلى أن يصل مرحلة التمام / أي النضج التام، وكذلك فالموت يتخلق مع الكينونة منذ انبثاقها الأول إلى أن يصل مرحلة النضج داخلها فتسقط الفاكهة /الكينونة من غصن الشجرة. ريلكه في إحدى [مراثي دوينو] يرى بأن الإنسان عكس الحيوان يرى موته الكامنة داخله منذ البدء. تقدم المتنبي نحو موته، الإخفاقات المتتالية التي طالت الوجود والرغبات قادته إلى تلك النهاية. من الدال جداً، أو من الصدف العمياء أن البيت الشعري ينتهي يقوله: [.. أو هلاكا]. حيث ما يتعاظم الهلاك تلوح أيضا علامات النجاة. كل الغموض الذي طال الطريق / الطرق كائن في هذا البيت الشعري. لنتذكر الطريق 66، الطريق الأسطورية في الولايات المتحدة الأمريكية التي يبلغ طولها 2448 ميلا (miles) أو 3940 كيلومترا)، تمتد من الغرب إلى الشرق من سانتا مونيكا في كاليفورنيا حتى مدينة شيكاغو، الطـــريق الأمـــريكية بامتياز، سماها الأمريكيون the mother road أم الطرق أو Main Street USA، مر منها اللاجئون الرحل الذين رماهم ا لانهيار الاقتصادي سنة 1929 (ما يسمى بـ الخميس الأسود) على الطرقات بحثا عن مناصب شغل، وعبر الطريق 66 عبروا إلى كاليفورنيا كما كتب ذلك جون شتاينبك في روايته»عناقيد الغضب»،طريق البلوز والجاز وفيلم Easy riders. .لا نجترح الطريق، الطريق هي التي تجترحنا، ترسم داخل أجسادنا / أرواحنا هندسة المحو، خرائطية الغياب .أحيانا تعتقد بأنك في بدايتها وحين تصحو تلفي نفسك في خضمها… / … البيت الشعري الآخر الذي فكرت فيه أياما هو قول المتنبي: [وما أنا غير سهم في هواء/ يعود ولم يجد فيها امتساكا] .خصوصية السهام المقذوفة دائما أن مساراتها تظل مشروطة بسلطة الهواء.السهام كائنات هوائية قد تتزوج موجة هوائية أو لا تتزوجها. نيتشة قال بأن الفيلسوف سهم مقذوف في الهواء ولا يدري أي هدف سيصيب. المهم هو انعدام اليقين. إدمون عمران المليح الروائي المغربي العميق والباذخ والصديق الذي جمعتني وإياه لقاءات في المقهى أو في مرسم الفنان التشكيلي الراحل الحسين ميلودي، تحدث عن السهم المقذوف في آخر صفحات رواية [mille ans un jour] [ألف سنة بيوم]: [لم يحدث شيء،من المستحيل وضع وجه على الغفلية المنتصرة، والتي تغلق أبواب النسيان الضخمة. نسيم مصاب، نسيم يعيش استقلاله الذاتي، إنه يعبر مساراً: السهم المقذوف في ركضه المنجذب إلى هدف، يقوم بإبعاده (: أي الهدف) في كل لحظة من لحظات حركته، والذي يحفر تبعا لذلك كل مرة أكثر كعودة وفي نفس الحركة موقع أصله] (ص183). الشاعر مجرد سهم في الهواء ممنوح لصدف الأبدية، لا يجد امتساكا في شيء ما.تحضر حركة السهم / يغيب يقين الهدف.لا سلطة إلا للهواء. وحده له السيادة على المصائر /الوجودات. تاه سهم المتنبي في الهواء، وفي حركة التيه تلك التي جرفته، عمل طويلا على إبعاد الهدف. تيه السهم خط انفلات يقود إلى الكارثة، إلى الموت. كأني بالمتنبي وقد وجد نفسه في قول الروائي الأمريكي «سكوت فيتزجيرالد» في القصة القصيرة التي عنوانها [الشرخ]: «الحياة هي سيرورة تدمير..». خط الانفلات قاد المتنبي من سكينة البلاط إلى عنف الصحراء ومن خط البياض إلى خط السوداء. لقد اندغم في سيرورة الهروب الأخير، فر دون إمكانية العثور على سلاح، عكس ما قاله دولوز من «أننا يجب أن نهرب و أن نعثر إبان الهروب على سلاح». لم يجد شيئاً. لم يجد غير القاتل الذي كمن له في بادية السماوة وأرداه قتيلا. هل هو مكر الصدف، شراسة الأحداث، أم عناد الأعداء وصرامتهم. عاش المتنبي محاطا بالأعداء حتى أنه قال في بيت فجائعي:»ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى/عدوا له ما من صداقته بد]. الصداقات الغروبية غالبا ما تنتج أعداء شرسين، عنيدين. المخرج الوحيد بالنسبة له كان هو الإيغال الانتحاري عميقا في الورطة الوجودية ، السياسية والشعرية. لقد ورطته الملكة الشعرية في بارانويا الوجود المشروطة بوجود/ بسلطة الآخر.لقد ورطته بارانويا الوجود في الطموح الجارف و العارم لمنصب / لدور سياسي. لم يستوعب أن سياسة الشعر أعمق، أكثر بذخا وأفدح من سياسة السلطة. كما ورطه الطموح السياسي في الانمناح لتيه الهواء، في الانمحاء وجوديا … [ فيا طرق كوني أداة أو نجاة أو هلاكا…] تلك هي الوصية الفجائعية الأخيرة لذات تنتمي لسلالة المهزوزين ولإرثهم…


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 14/06/2024