بطاقة:
إدوارد سعيد باحثٌ وكاتبٌ فلسطيني حاملٌ للجنسية الأمريكية، وهو مُفكرٌ أدبي وأكاديمي كتب عدة كتبٍ حول النقد الأدبي والنقد الموسيقي وقضايا ما بعد الاستعمارية.
كان أكثر المدافعين عن الحقوق تأثيرًا في الولايات المتحدة، وقد شارك في مظاهراتٍ من أجل الحقوق السياسيّة واستقلالية الفلسطينيين. تمت تسميته باسم “الصوت الأكثر قوة” لأجل الفلسطينيين.
عمل كأستاذٍ جامعي للغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا لمدة 40 عامًا، واشتُهر بتأليفه كتاب Orientalism (الاستشراق) عام 1978. تحدث في كتابه عن افتراضات العالم الغربي التي تؤدي إلى سوء فهم رموز حضارة الشرق، خصوصًا الشرق الأوسط. تُرجم الكتاب إلى عدة لغات، ويتم تدرسيه في العديد من صفوف العلوم السياسيّة.
وضع سعيد أيضًا نظرياتٍ في الموسيقى وألف عدة كتبٍ عنها. وقد أظهر إدوارد اهتمامًا بالسياسة وعمل كعضوٍ مستقل في المجلس الفلسطيني الوطني Palestinian National Council)PNC).
إكتب شيفا Shiva أخ نايبول كتابا حول جونستون يدعي فيه أن كل زعيم وطني من زعماء العالم الثالث يعاني بالضرورة من الهوس والاضطراب النفسي. ويقول، معتمدا على مرجعية الليبراليين واليساريين الغربيين: «إن الذين يعرفون كيف يغذون بطريقة أفضل أحلامنا المجنونة بالبعث والخلاص، الذين يوجدون في أمان خلف حدود حمقنا، يشجعون جنوننا». كيف يمكن أن نفسر هذا التماهي مع قوى الهيمنة الخارجية؟
في ما أعرف من مناطق العالم الثالث، يمثل منظور نايبول عرضا من أعراض تطور طبقة جديدة من التقنوقراط الذين يوجد مركز العالم بالنسبة إليهم في وادي السيليكون la Silicon Valley. هناك إذن تماه تقنوقراطي. أضف إلى ذلك أن الجيل الأول من مفكري ما بعد الاستعمار قد انتهى. وأنا أتحدث هنا عن الجيل الذي يمتد من الحرب العالمية الثانية حتى سنوات 1970 : سيكو توري، عبد الناصر وسوكارنو.
p تتحدثون عن جيل ارتبطت هويته بقاموس التحرر الوطني.
n نعم. ويمثله بمعنى ما نوع من البورجوازية الوطنية. الآن انتهت هذه المرحلة، وأصبحت هذه المجتمعات تواجه إشكالية التقنوقراط التي تؤدي إلى (طرح) إكراهات من قبيل: يجب أن نطعم شعبنا، يجب أن نهتم لأمر بترولنا، وبمشكل توزيعه، الخ، ولكن يجب أن نواجه أيضا مشكل ما يمكن أن نسميه الأمن القومي. تلك هي الحلول. وبعبارة أخرى، هي الخدمات التقنية من جهة، والأمن القومي – الذي يعني عمليا وسائل البقاء في السلطة- من جهة أخرى. إن الزخم الوطني لم يعد له وجود؛ ويجب أن نجد شيئا آخر لتعويضه: وهنا يتم خلق أعداء خارجيين. وهكذا فإن كل بلد من البلدان العربية، وكثيرا من البلدان الإفريقية وبلدان الشرق الأقصى مرتهنة بحاكم طاغية. هناك مفهوم العدو الخارجي الذي تجب مواجهته، هناك الإمبريالية. وهكذا تتم المحافظة على الشعارات القديمة المتعلقة بالحركة الوطنية. وفي نفس الوقت هناك هذه القفزة التقنوقراطية الكبيرة المستهدفة أو المرغوب فيها، المبنية على نموذج مستبطن للتحديث غير خاضع لأي روح نقدية. في مثل هذا السياق، تنزع الأشياء إلى التدهور، وتبقى مرحلة التمرد قائمة باستمرار – تلاحظون ذلك بتونس، بمصر، وبأمريكا اللاتينية حيث يحدث الأمر بانتظام في هذا البلد أو ذاك. بالسالفادور مثلا يحاولون تنظيم انتخابات، ولكن تتم سرقة صناديق الاقتراع. وإلى جانب هذا الخليط المضطرب من التقنوقراطية والأمن القومي، يعود نوع من الحنين للكولونيالية أو الدين – هذا في نظري من الأعراض الوراثية، ولكن بعض الأشخاص يتمنون عودة الكولونيالية أو الدين. ويمثل السادات(11) مثالا جيدا في هذا الصدد. لقد أقصى الروس، كما أقصى كل ما يمثل عبد الناصر، أقصى الوطنية المتزايدة، الخ، وقال «لنفسح المجال للأمريكيين». وهنا حدث ما يسمى بالانفتاح، أي فتح البلد أمام إمبريالية جديدة: التدبير التقنوقراطي، ليس تدبير الإنتاج، وإنما تدبير الخدمات – السياحة، الفنادق، الأبناك، الخ. هذا ما وصلنا إليه الآن. هذه الظاهرة أفرزت نماذج مثل نايبول.
p هناك اليوم شخصية هامة من حيث الطريقة التي صنعت بها هويتها من طرف الصحافة الغربية، هي شخصية القذافي. ويبدو أن السبب الرئيسي وراء هذه الصورة المشوهة بشكل راديكالي هي أن القذافي قائد مستقل، لا يمكن شراؤه أو إدخاله ضمن حرب باردة أو ضمن توافق ثلاثي من أجل التدبير العالمي.
n هناك حظوظ قليلة لشرائه (وهو من جهته شخص غني طبعا). إن أغلب الخطابات حول الإرهاب (فرق الكوموندو الليبية، الخ)، ضعيفة الصلة بالقذافي، وإنما تحيل بدل ذلك على دوستويفسكي وعلى كونراد Conrad اللذين تخيلا إرهابا مقصودا لذاته، إرهابا كنشاط جمالي، وليس كشأن سياسي. لكن ما لا يتم إدراكه بخصوص القذافي مع كل جنونه الظاهر، هو أنه يمثل بداية مرحلة ثالثة. وبالفعل هناك أولا مرحلة الحركة الوطنية ومعاداة الأجنبي، وهناك ثانيا التقنوقراطية؛ وعند هذه النقطة تتفرع المنظومة إلى حنين للكولونيالية من جهة – «تعالوا وساعدونا»- ومن جهة أخرى هناك عودة للاهتمام بالدين – عند الخميني والقذافي. وبعبارة أخرى إن الناس الذين يقولون: «ضعوا ثقتكم في الأمريكان أو الروس، الخ» يضطرون اليوم إلى الاعتراف بأن الارتهان للقوى الخارجية يعد فشلا معيبا: إن شعوبنا لا تزال فقيرة كما كانت من قبل، ولا زلنا مدينين إزاء صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة. الجواب الوحيد حينئذ هو الإسلام. وذلك ما فعله القذافي، وهو بهذا رائع فعلا. ففي العالم العربي أو العالم الإسلامي عامة، تجد إيمانا شعبيا صادقا ب”الإسلام”، وهو الإسلام الذي يخيف دولة الأمن القومي. إن الوضع الساخر في دولة الأمن القومي، في العالم العربي على الأقل، هو أن كل دولة تمثل فشلا ذريعا: لا دولة استطاعت حماية حدودها، ولا حتى الحفاظ على الأمن الداخلي للبلد. كانت إيران، تحت حكم الشاه دولة الأمن القومي، لكن النظام كان دون شك عميلا لأمريكا. وتعرضت العديد من الأنظمة العربية للهجوم والاختراق واحتلال الأراضي من طرف إسرائيل. حينئذ بدا أن الإسلام هو الحل، وضاع الحل العلماني حتى يومنا هذا.
p دولة الأمن القومي في مقابل التقنوقراطية، هذا هو الصراع في أغلب دول العالم الثالث اليوم . ما هي البدائل والنماذج التي يمكن بناؤها؟
n لنعد إلى فانون. منذ أن حالت أخلاقيات العنف دون إنجاز تفكير نقدي أصيل، أصبحنا نجد التمرد، وغياب ما يمكن أن نسميه البعد الطوباوي. الحالة المثالية التي نسعى إليها هي المزاوجة بين فانون وأدورنو Adorno، وهذا هو ما ينقصنا تماما. يجب أن نجمع بين المواقف المتطرفة، الحركة الوطنية، الثورة والتمرد من جهة، والتفكير النظري التأملي النشيط من جهة أخرى، وذلك كي نجمع بين تلك المواقف الأولى وبين تقليد مدرسة فرانكفورت التي انتهت إلى الاستسلام كما تعرفون. وبالنسبة للعالم الثالث، فإن تلك المواقف ( الحركة الوطنية، الخ)، قد أدت إلى خلق دولة الأمن القومي. بشكل أو بآخر، نحن في حاجة إلى بعد آخر يسمح بالتفكير في المستقبل بأدوات ليست فقط أدوات التمرد ورد الفعل.
p هل يتعلق الأمر ببروز سيرورة نقدية تتضمن رسم صور لمستقبل بديل؟
n بالضبط. في الواقع، أنا لا أتحدث عن اختراع حالات طوباوية أو عن نزعة طوباوية. لقد تناول شومسكي هذا الموضوع بالإحالة على مفهوم استخدمه بورس Charles Sanders Peirce (12) ، هو مفهوم الاختزال abduction، أي صياغة الفرضيات بناء على الوقائع المعروفة (فقط). ( في هذه الحالة) نطرح كمبدأ شيئا مأخوذا من الحاضر قدر المستطاع؛ وإلى جانب هذا الحاضر، ووفاء له، نقوم باختزال فرضية مستقبلية ممكنة – رغم ما يمكن أن يعتري فهمنا للوقائع المعروفة من نقص. هذه العملية ، وهذا البعد غائبان في الوضع الراهن. أعتقد أن هذا بدأ يتحقق في بعض الأعمال النقدية المنجزة بالنسبة لموضوع التمثل والإمبريالية بشكل خاص.
كتاب الاستشراق هو في هذا الصدد كتاب سلبي، ولكنني في النهاية أحاول أن أبلور نظرة حول مجتمع غير متسلط، غير متحكم. كذلك نجد هذا البحث البديل في الأعمال المناصرة لقضية المرأة حيث تطرح المشاكل بطريقة جدية حقا. هكذا نتساءل: ما هي السبل لوضع فرضية مرتكزة على بعض المدارك، حيث نقوم بتفكيك (الواقع) ونزع الطابع الأسطوري (عنه)، وفي نفس الوقت نقترح رؤية مستقبلية بديلة وأصيلة تتجاوز الرؤية التوفيقية؟ عموما، ليس هذا هو نوع العمل النقدي الذي يقوم به الناس. وفي العالم الثالث، ليس من السهل تطوير مثل هذا العمل لأنه غير قابل للإنجاز من طرف شخص واحد، وإنما يحتاج إلى جهد جماعي.
p هل يمكن في نظركم أن توجد ظروف تتيح تقاربا ملموسا بين بعض الحركات بالولايات المتحدة وما تصفونه أنتم وآخرون بأنه حركات معادية للنظام؟ وما هي الأرضية المشتركة الممكنة لهذا التقارب؟…
n لا أشك في أن أساس هذا (التقارب) هو نقد الهيمنة أو نقد الإمبريالية كهيمنة.
p لكن هذا النقد سيتخذ طبعا شكلا شديد الاختلاف عن الصورة التي اتخذها خلال الستينات.
n تماما. فمرحلة الستينات كانت مرحلة الحماس والطوباوية، وتمثل محاولة إحياء أو استعادة بعض التجارب التي يمكن القول إنها تجارب بدائية أو فورية. ما أتحدث عنه أمر يدعو إلى تأمل أعمق، ويمكن أن يتضمن نقدا للإمبريالية في أشكالها الثقافية ، وليس فقط كاقتصاد رأسمالي.