بطاقة:
يُعد كتاب “التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور” لأستاذ علم النفس في معهد الدكتوراه في الجامعة اللبنانية مصطفى حجازي من المراجع الطليعية في علم النفس الاجتماعي، درس فيه سيكولوجية الإنسان العربي “المهدور”، مطوراً أبحاثه لاحقاً في حقل «علم النفس البلدي».
يعتبر صاحب “الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية” أن «العنف العربي» الراهن يعود إلى تفشي العصبيات في المجتمعات العربية وترسخها، مشيراً إلى أن “العصبية الدينية” أخطر أنواع العصبيات بسبب بُعدها الإطلاقي. ويرى حجازي، الخبير والمستشار في رعاية الطفولة، ومدرب مدراء مؤسسات رعاية الطفولة في كل من اليونيسيف واليونسكو، أن “التحاق” (الأوروبيين) بالتنظيمات الإرهابية “غايته بالنسبة للكثيرين (منهم) قلب نظام حياتهم القديم الذي تسيطر عليه الرتابة والروتين وغياب المعنى».
ثمة أسئلة كبرى تطرح على النخب الثقافية العربية التي كانت تقف، في بعض نماذجها القوية، على محك التنافر القطري، غير قادرة على رسم طريق التكامل الثقافي الغربي. غير أن أطروحات كثيرة أنجزها مثقفون ومفكرون عرب ما زالت حتى الآن تطفو على السطح، لراهنيتها وقوة مضامينها، ذلك أن البلاد العربية ما زالت مستهدفة أكثر من أي وقت آخر، زمانيا ومكانيا، مع العلم بأن تلك النخبة تعلم يقينا أن الأحداث التاريخية العربية زاخرة بالصراعات، التى ما زالت تتكرر بصورة طبق الأصل فى تاريخنا الحديث- بغض النظر عن تلك المرحلة التي كان العرب يتبؤون فيها عالميا الهرم السياسي والحضاري.
في ما يلي حوارات فكرية مع بعض أعلام الثقافة والفكر في الوطن العربي.
p شهد العالم العربي في السنوات الأخيرة تصاعد وتيرة العنف بكل رموزه الدينية والسياسية والاجتماعية، وقد فاقمت الحروب في بعض الأقطار العربية من هذه الظاهرة، التي عكست –إلى حد كبير- حجم الاحتقان المتراكم والمكبوت التاريخي في مجتمعاتنا. كيف ينظر علم النفس إلى مظاهر العنف المتصاعد لا سيما العنف الديني/ الجهادي؟ وأي دور له في تفسير المكبوت التاريخي عندنا؟
n يمر العالم العربي في تاريخه المعاصر بفترة غير مسبوقة من تفشي ظواهر العنف السياسي والديني والاجتماعي. الحروب لم تفاقم من هذه الظاهرة وإنما فجرتها مكبوتات كامنة وعنف نائم. هذا العنف العربي يدفعنا إلى التمييز بين العنف السياسي والاجتماعي والعنف الديني الجهادي. يعود العنف السياسي الاجتماعي إلى تفشي العصبيات في المجتمعات العربية وترسخها. في الحقيقة الأنظمة العربية الاستبدادية لم تبنِ مجتمعاً مدنياً، إنما راهنت القيادات على العصبيات؛ والعصبيات في طبيعتها تحتوي على مكوِّن العنف، وهذا العنف يتفجر من العصبيات التي تنمو في أزمنة الصراع ولا تستطيع العيش من دون عدو. لا يقتصر ذلك على العالم العربي، فحتى الأنظمة العرقية ليس بإمكانها الاستمرار خارج نطاق الصراع وصناعة العدو المتخيل أو الفعلي، وذلك كي تتمكن من الحفاظ على ثباتها الداخلي بقوة الجمهور.
إن مجتمعاتنا طوال تاريخها وقبل ظهور الإسلام كانت تنهض على العصبيات، وفي العالم العربي لم يتم بناء مشروع إنمائي رسمي جامع يتجاوز الطوائف ويُدخل الناس في المواطنة تبعاً لكفاءة كل إنسان. هذا العنف الذي نشهده تجلٍ لتاريخ طويل من استمرار العصبيات، التي لا بد من دراستها، ولكن للأسف ركز المثقفون العرب في أدبياتهم وطروحاتهم على الأيديولوجيات الاشتراكية والشيوعية والقومية، بدل درس المجتمعات العربية من الداخل وتحديداً العصبية، فهذه الأيديولوجيات لا تنطبق علينا، إنما هي وليدة المجتمعات الغربية الصناعية.
من المهم ألا نغفل عن أن غياب التحديث في قطاعات كثيرة فاقم هو أيضاً من العنف، فالبنى الاقتصادية عندنا انتقلت من دولة الخراج إلى الدولة الريعية التي تقوم على العقارات. ليس هناك صناعة فعلية تنهض بالإنسان، وهذا أحد أسباب العنف المستشري الثابت والكامن الذي ظهر نتيجة لظروف وعوامل داخلية عدة، وقد ساعد الضغط الخارجي على تحفيزه.
p تحدثت عن العصبيات باعتبارها جزءاً أساسياً في إنتاج العنف. ما دور العامل الديني في هذا السياق، خصوصاً أن الدين يتم توظيفه من قبل الإسلام الحركي؟
n الحركات الأصولية والجهادية عبارة عن عصبيات دينية تستغل الدين وتوظفه لشد العصبية الدينية الأخطر من العصبيات الاجتماعية والسياسية، فالعصبية الدينية فيها بُعد إطلاقي. إن الجماعة الأصولية لديها قناعة بأنها هي وحدها الفرقة الناجية وبأنها وحدها على حق، وكل ما عداها باطل ويستبطن الشر؛ وهذا الشر لا بد من استئصاله والقضاء عليه. العصبيات الجهادية أكثر العصبيات تطرفاً، وليس لديها أي رادع وتشترك مع الاستبداد في الشطب والقضاء على كل ما هو مختلف عنها.
p جذب تنظيم داعش الإرهابي أعداداً كبيرة من “الجهاديين” من العالم العربي وأوروبا، وشكل أيضاً محور جذب للنساء خصوصاً من الأوروبيات المتعلمات والمنضويات في الحداثة الأوروبية. ما الذي يدفع أشخاصاً –من المفترض أن يكونوا أسوياء- يعيشون في عالم حديث للانضمام إلى التنظيمات الإرهابية الماضوية؟
n هذا السؤال يطرح ملفاً قائماً بذاته، أنت تقولين: إن هؤلاء الذين انضموا إلى داعش من الأوروبيين من المفترض أن يكونوا أسوياء يعيشون في عالم حديث. في الواقع ليس لدينا دراسة حالات فعلية حول كل حالة على حدة أو مجموعة حالات على حدة، لدينا معلومات عامة عن “الجهاديين الأوروبيين” الذين انضموا إلى داعش ووقعوا تحت مغريات كبيرة. لقد انجذب هؤلاء إلى داعش لأنهم عاشوا في عالمٍ ليس لهم مكانة فيه؛ عالم يهمشهم كـــ”كائنات إنسانية” مستلبة وضائعة، ومعرضة للتهميش من قبل المنظومة الرأسمالية الاستهلاكية التي تمحو الهويات والخصوصيات والداخل الحميمي. وقع هؤلاء تحت إغراء تبديل العالم بغية تبديل وجودهم وكيانهم عبر الذهاب إلى مغامرة. والالتحاق بهذه التنظيمات غايته بالنسبة للكثيرين قلب نظام حياتهم القديم الذي تسيطر عليه الرتابة وروتين الحياة اليومية وغياب المعنى. صحيح أنهم يعملون في وظائف وينتجون وينخرطون في الحياة الحديثة، ولكن في نظرهم ثمة “غياب للمعنى”؛ لذا يختارون المغامرة بغية التمرد على عالمهم، سواء عبر الانضمام إلى داعش، أو الذهاب في رحلات خطرة إلى الأدغال الأفريقية؛ والمغامرة هي نوع من قلب الميزان وتغيير الوجود، وخصوصاً أن وجودهم داخل هذه التنظيمات الإرهابية يمنحهم قيمة، حيث يُكلَّفون بمهامَّ تمنحهم حضوراً واعتباراً، فمنهم المقاتلون والتقنيون والإداريون، وتالياً يجدون أنفسهم مراجع في حين أنهم في بلدانهم الأصلية ليس لهم كيان مرجعي. إلى جانب حس المغامرة واقتحام أخطار المجهول، هناك المغريات المادية التي قُدمت لهؤلاء الأوروبيين الذين قدموا إلى سوريا، خصوصاً إذا امتلكوا خبرة تقنية كبيرة. امتلك تنظيم داعش جهازاً إعلامياً مؤثراً، وحضوراً على وسائل التواصل الاجتماعي خارقاً وفاعلاً، لذا ينجذب إليه هؤلاء “الجهاديون الوافدون من أوروبا”، ليحققوا مغامرات يغيروا فيها نظرتهم إلى ذاتهم ووجودهم من حالات دونية إلى فوقية/ فوق المجتمع الغربي وفوق المجتمع الشرقي.
أما النساء العربيات المسلمات اللواتي انضممن إلى داعش، فقد دُفعن بعوامل عدة من بينها المغريات المادية، دون أن ننسى العناصر الاجتماعية، فغالبية “المنضويات في تنظيم داعش” مهمشات وفاقدات للاعتبار والمكانة. إن الفئات المجتمعية المهمشة والمسحوقة هي التي تلتحق بداعش، فلا نجد نساء من الطبقات الوسطى. بمعنى آخر: هؤلاء النساء محرومات، وافدات من الأرياف. ولا ريب أن العامل الديني كتراث مرجعي يلعب دوراً رئيساً، فحين نغوص في الريف نجد انتشاراً للخطاب الديني الظلامي، وهذا نلاحظه في خطب أئمة المساجد، وجعل الدين مقتصراً على دائرة الحلال والحرام.