حفيد ابن بطوطة عبد الحميد جماهري والدوخات الصينية التسع 2/2

 

تنوير لا بد منه: ( احترازات منهجية):

أنجزت هذه المداخلة التي اخترت لها عنوان: «حفيد ابن بطوطة عبد الحميد جماهري، والدوخات السبع في الصين العجيبة» في سياق حفل توقيع كتاب: ذهبنا إلى الصين، وعدنا…من المستقبل(2021) الذي نظمته الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين، لجهة بني ملال. خنيفرة، بتنسيق مع جامعة السلطان مولاي سليمان، والجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة، فرع بني ملال، يوم 26 ماي 2022 بمقر الأكاديمية، لفائدة تلميذات وتلاميذ الأكاديمية بالأساس، وأساتذتها، وذلك ضمن استراتيجية الأكاديمية القاضية باستضافة قدوات وطنية، من مختلف مشاربهم المعرفية، وتجسير العلاقة بين الأكاديمية والجامعة، بين حال التلاميذ ومآل الطلبة… وهي المداخلة التي سأقترحها على القراء الكرام، دون تخصيص، وتعميما «للدوخة» وتداعياتها…

4 – الثلاجة العجيبة ومصير الإنسان

كيف عاد صاحبنا من الصين أو من المستقبل، كما يدّعي، بكامل وعيه وصحته العقلية، وقد رأى من أهوال المستقبل ما رأى وحكى، على سجية السندباد البحري وخطاه. ثلاجة، لم نكن نسمع بها أو نعرف نعيمها ونعمتها سوى في العقود الأخيرة من القرن الماضي. كانت الأواني الطينية، الملفوفة بكتانة خشنة (خنْشةٌ خَشنَة)، مزروعة ببعض حبات الشعير هي الثلاجة الطبيعية لأغلب المغاربة عصرئذ، وقد يمتد استعمالها في حفظ بعض الخضر لا أقول الفواكه، لتحافظ على قدرٍ من طرواتها… ولما سمعنا بالثلاجة الصناعية، وكتب الله لنا اقتناءها، نحن ونسبة كبيـرة من المغاربة، لم نجدها ذكية، ولا بمواصفات ما يحكيه لنا صديقنا الحفيد حفظه الله ورعاه، وغفر ذنبه. عاد من الصين ليحدثنا عما سماه : الثلاجة الذكية. بمعنى أن ثلاجتِنا التي كُنا نباهي بها الجيران، كانت تنعم في غباء مستطير، لارتباط مهمتها فقط بالتبريد دون سواه. وعليه، فالثلاجة الذكية، غيـر الثلاجة التي لا نزال اليوم نسمع بها، وتحتل ركنا من أركان مطابخنا. إنها ثلاجة عجيبة، أترك الحفيد يصفها بنفسه، وقد فعلت الدوخة فعلها فيه: «إنها ترصد ما تبقى من الأطعمة بداخلها، وتخبرك بأن البصل قد تناقص بأكثر من قيمته مثلا، وأن الطماطم انتهى مخزونها، وأن الحليب بقيت منه كمية قليلة لا تفي بالغرض. وتضع أصبعك على ما تريد اقتناءه، وهي تقوم بإرسال الطلبيات إلى ماركيت المدينة، لكي تصل البضاعة إلى البيت، عندما تكون قد دفعت الثمن عبرها هي نفسها، كما لو كانت شباكا أوتوماتيكيا..» عجبٌ عجبٌ…موقع الإنسان في ما صنع الإنسان… مسؤوليات ومفارقات… للإمعان في الدوخة…
قوس للتأمل: من بوادر التفاؤل بالمستقبل، ونحن نعيش أنواع الأزمات والأوبئة في هذا العقد الأخير، ما بشّرَ به حفيد ابن بطوطة، وهو يحكي لنا أن علماء الصين إنما يستنبتون بذور القطن واللفت والبطاطا وبعض الفواكه في سطح القمر الصيني، طبعا، وليس في قمر فيـروز أو كروان لبنان…(ص127). وسنجد ما نضعه في ثلاجاتنا المستقبلية…حتى لا يكون ذكاؤها «غبيا». ..
كاميرات المراقبة وسؤال الحريات المدنية
لا شك أن حفيد ابن بطوطة، وهو في طريقه إلى بني ملال، أو في طريقه إلى أي اتجاه داخل المغرب وخارجه، يعرف درجة انتشار الكاميرات في طرقنا السيارة، وغير السيارة. فمع الثورة الرقمية أصبحنا عراة، لحفنة من الشركات المتعددة الجنسيات، يعرفون عنا كل شيء، بل ويتسللون إلى أكثر مناطقنا حميمية وحساسية. فنحن مراقبون في السر والعلن، وفي الليل كما النهار، وقد نكون نحن بالفعل من «سلمنها» طواعية للمحركات العالمية الكبرى من غوغل وآبل وعلي بابا، وغيرها، ومن خلال نقرات خفيفة وسريعة ومطمئنة. والصين تؤكد القاعدة وتشهد عليها في واقعها ومستقبلها. فهي تملك اليوم من الكاميرات للتلصص و»التجسس»، على الأفراد والجماعات، على ما قدره 200 مليون كاميرا CCVT لمسح الوجه وتصويره، وتحديد الشخص وتعيينه، في ثوان معدودة… وكأن هذه الثورة الرقمية إنما تسخر للتضييق على الحريات المدنية، وتستعمل للضبط والتحكم والتعقب والردع والتنميط، وتجعل كل مواطن مُتهما حتى تثبت براءته، بل وآلية للأنظمة الاستبدادية لممارسة سيطرتها الشمولية من كل الجهات الأربع. ذلك مصدر قلق كبير على الحياة الخاصة للأفراد والجماعات وحميميتهم، بل وعلى الديمقراطية نفسها بقيمها، وفي مقدمتها حقوق الإنسان في الصين، وكذا الحريات الفردية والتعددية السياسية. مع أن الصينين إنما ينظرون إلى حقوق الإنسان وما يتصل بها مثلا، بأنها مجرد تعلة أمريكية لمحاربة الصين والضغط عليها، وزعزعة استقرارها «في كل من هونغ والتبت، وأوضاع مسلمي الإيغور في إقليم سنجان». وعليه، فإن «حقوق الإنسان في النظر الصيني، بما هي دولة نامية «تعني الحق في البقاء والتطور»( ص194/ 195.)… ويمكرون ويمكرون والله خير الماكرين…

الشمس الاصطناعية والبدوي في بكين

ظل كتاب «غرق الحضارات» لأمين معلوف بوصلة حفيد ابن بطوطة. كلما تعلق الأمر بتاريخ الحضارات وراهنها ومستقبلها استدعاه وتأمل فيه واستخلص الخلاصات الواجبة. فخوف أمريكا الراهن، في نظر الحفيد، من تنين الصين خوف مشروع ومفهوم. لكن ما ليس مفهوما ولا مسوغا، هو موقع العرب من كل ذلك، ومن ضمنهم المغرب؟ لم يكن الذهاب إلى الصين والعودة من مستقبل الصين، بالنسبة للحفيد إلا من أجل «أمة ضحكت من جهلها الأمم»، ومن أجل وطن نائم في الأعماق(ص60). بمرارة ودوارن، يذكر الحفيد أبيات قصيدة للشاعر عمر أبي ريشة، وهزيمة 1967، وقمة الرباط الموازية(ص13)؛ ونحن نذكر معه، ونردد مع محمود درويش، أفق الحفيد وعشقه، ..»سقط القناع…عرب وباعوا روحهم… عرب… وضاعوا… سقط القناع عن القناع…سقط القناع…»
ففي الوقت الذي نامت فيه العرب، استيقظت الصين لتخوض ضمن استراتيجية بعيدة المدى، غمار بناء شمس اصطناعية جديدة لتسخير قوة الاندماج النووي. نعم شمس اصطناعية، دخ أو لا تدخ… شمس معول عليها «لإنتاج الطاقة النظيفة، عن طريق تحويل الهيدروجين إلى طاقة خضراء فعالة من حيث التكلفة … ومن الممكن أن تنقذ هذه التقنية كوكب الأرض من أزمة تغير المناخ»(ص16). والسعي نحو الطاقة النظيفة لا تختلف، من حيث العمق والمدى، عن نظافة الفضاءات العمومية، ونظافة الفضاءات الخاصة. يحكي الحفيد، وباستغراب شديد، وبدهشة بَدويّ في بكين، عن عمارة تضم 3 آلاف ساكن، في قمة النظافة، تجعلك، على حد تعبير الكاتب، «ترى وجهك في الإسفلت»(ص208) ناهيك عن الهدوء المطبق فيها، وتوزيع الفضاء حسب الأعمار والحاجات…لنقارن واقع عماراتنا بعماراتهم…ولا مقارنة حيث وجود الفارق الفاقع… .»يستحيل أن يكون هناك شيء جميل هنا ألا يهطل علي اسم بلادي من كل نبض»(ص28)…
عجبٌ عجبٌ.. ما يعتمل في الصين وينتظر البشرية جمعا…يسائل العالم، كل من موقعه… بما فيه المغرب، وقد اتخذه الحفيد مسكنه الوحيد ، وتساءل بمرارة وحب قائلا:»ما الذي يوجد في العقل الصيني ولا يوجد في عقل المؤسسات المغربية؟ (ص28).

الإسلام وعلمانية الصين

طبعا لا يمكن بحال، لمن كان مغربيا ومسلما، ألا يذكر قولة شهيرة لرسولنا الكريم، (اطلبوا العلم ولو في الصين). وكأنها دعوة، بصيغة الأمر، وعلى وجه الوجوب، ومن الأعلى إلى الأدنى، للتوجه إلى الصين، على بُعدها، وغرابة التمثل حولها، بحثا عن علم للمستقبل. المسلمون يعرفونا الصين، وقد كتبوا عنها وعن أهلها، وأثنوا وزادوا في الثناء …فالصين، في الماضي كما في الراهن، بلاد التعايش والتسامح وإقامة الجسور بين الثقافات والحضارات..، فقد كان الإسلام، الذي دخل الصين زمن عثمان بن عفان، زمن الإمبراطور يونغ هوي، سنة 651 ميلادية، هو الدين الحق، أو ديانة العرب، دليلا على أن الإسلام أحد العناصر في كيمياء المجتمع: الصيني، والمنشوري، والمغولي، والتبتي، ثم المسلم/الهولي»(115). يكفي، كما يحكي الحفيد، العبد المسلم المذنب، أنه دخل غرفته بفندق فاخر، فوجد» سجادة صلاة، ونسخة من القرآن الكريم، باللغتين العربية والصينية»(ص20/21).
غير أن راهن مسلمي الإيغور في إقليم سنجان يبقى استثناء للتأمل، يسائل صين المستقبل، ربما بحكم موقع الإقليم الإستراتيجي من جهة لأنه بوابة طريق الحرير الذي تراهن عليه صين المستقبل، وموقعه في مفترق الطرق بين أفغانستان وباكستان، وصلاتهما ، بما يعرف بـ « الإسلام المتطرف»، ومن جهة أخرى لما يزخر به الإقليم من موارد طبيعية وافرة ومطلوبة. ليبقى الإسلام في الصين دين التوحيد، بنظام أخلاقي محدد، وطقوس دينية معلومة. ومساجده قائمة، تمارس فيها العبادات سوى الآذان، فهو ممنوع، كما هي ممنوعة أجراس المسيحية وغيرها. إنها علمانية الصين…

الصين وتحدي الكتاب والقراءة

… ونحن نترقب افتتاح أبواب المعرض الدولي للكتاب بالرباط في دورته 27، لهذه السنة 2022، ونتابع مختلف معارض الكتاب في دول عربية عديدة، نصاب بالدهشة والاستغراب في وضع الكتاب وتدني القراءة عندنا، مقارنة مع الصين. فالمواطن الصيني ليس مواطنا جديا وصارما ومنضبطا ومتواضعا فحسب، إلخ، ولكن أيضا مواطن قَرُوء للكتاب. فمعدل القراءة عندهم هو 8 كتب للفرد سنة 2019، ورقية وإليكترونية. فقد عرف سوق الكتاب في الصين تطورا نوعيا، خاصة الإليكتروني منه، إذ بلغ 70 في المائة من المبيعات، بما قدره 14.7 مليار دولار. أما عندنا في العالم العربي، والمغرب بوجه محدد، فنحن عازفون عن القراءة، ومقاطعون لها، مستخفون بها، أفرادا وجماعات، دولة ومؤسسات. ويكفي في هذا الإطار، العودة إلى تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول «النهوض بالقراءة ضرورة ملحة»، وما يشهده واقع القراءة بالمغرب من تراجع مهول، وانتكاسة قوية (64.3 في المائة من المغاربة لم تشتر كتابا واحدا خلال سنة كاملة)، تنذر بتدني المستوى المعرفي للمواطن، وكساد التنمية، و بالتالي غرق الحضارة….»دوخ أو لا تدوخ…»

الصين والجامعة: صدق أو لا تصدق…

التفكير في البدء تفكير بالآخر. ونحن نفكر في جامعة يوهان، بما هي عاصمة جهة خوباي الصينية، كما جامعة السلطان مولاي سليمان، ببني ملال، عاصمة لجهة بني ملال خنيفرة بأقاليمها الخمسة، إنما نفكر في حال جامعتنا في كل أرجاء المملكة ومآلاتها القريبة والبعيدة. فقد تأسست جامعة يوهان سنة 1893، وأعيد ترميمها سنة 2000. وتوجد في موقع جغرافي استثنائي، وسط غابات وبحيرات. وتغطي مساحة 2.52 مليون متر مربع (دخ أو لا تدخ.. لا بد أن تدوخ..). ملاعب وساحات فنية، وأقسام علمية. فضاء جامعي يغري بالنزهة والبقاء في فضاء جامع فاره من خضرة الله من أرض كونفوشيوس(ص152). ولذلك تعد أجمل جامعة في الصين كلها.. وتضم 52000 طالب فقط… وفي لحظة حوار بين حفيد ابن بطوطة والسيد لي فاي رئيس الجامعة سأله عن نظام التعليم الجامعي في يوهان.، وبالتالي هل لكل الحاصلين على شهادة الباكالوريا، الحق في التسجيل؟
جواب الرئيس، كان قطعيا، كما أكد الحفيد، وبعجب وذهول، يحكي، وهو يستحضر ذاكرة اليسار وعناد مجانية التعليم، قائلا:» النظام يقتضي امتحانا أو مباراة يجتازها التلميذ بنجاح لكي يصبح طالبا في جامعة يوهان. يجتاز الطلبة مباراة، ذات مواد على المستوى الوطني الصيني… ولا يجتازه عادة بنجاح سوى 45 في المائة»، من فاز في المباراة يتابع، وإن كان وضعه المادي لا يسمح يمر إلى آلية الاقتراض من بنك عمومي، ليعيده في ما بعد، ولكن دون فائدة…(البنك الإسلامي)، أما الباقي منهم أي 55 في المائة فيضطرون لاختيار مسار العمل، أو التكوين أو الجامعات الجهوية أو المحلية.. وعلى العموم، فتكاليف الدراسة بالنسبة لدرجة الباكالوريوس أو الإجازة، في الجامعة يصل إلى 4500 دولار، ودرجة الماجستير/ الماستر تصل إلى 5700 دولار، و درجة الدكتوراه تصل إلى تكلفة بقيمة 7000 دولار سنويا… «(ص152 بتصرف).. إعجاب وحيـرة، كآبة وانقباض ودوخة…

إنارة على الهامش:

من المطالب التي ارتبطت بجامعة السلطان مولاي سليمان، بكل مؤسساتها، ولما يقرب عقدا من الزمن ولا تزال مطروحة، سؤال البركينغ. وهو مطلب خيضت من أجله نضالات ليكون فضاء الباركينغ، بجودة عالية، وبشروط عصرية وتكنولوجية مواكبة… نصاب بالذهول والصدمة لما يُذكرنا حفيد ابن بطوطة أنه في الحرم الجامعي في الصين العجيبة، وبجامعة يوهان «العجيبة»، لا بد لصاحب السيارة أن يؤدي ثمن الباركينغ، ولو كان أستاذا أو مسؤولا… نردد معك أيها الحفيد الفقير إلى الله، مأثورة مغربية ( رحم الله للي زار وخفف !»(ص154).
نُسلّم نحن في المغرب، وهم في الصين بأن الجامعة قاطرة للتنمية، وهي عندنا شعار مرفوع، نجر أذياله منذ عقود، وهي عندهم حياة تمشي، وواقع يتجسد في المستقبل… لم نخرج بعد من بوابة مسكن كهف الرقيم…الأمل في الجيل الجديد من حفدة ابن بطوطة، فهم البذرة والثمرة المنتظرة… وهم أمل الدوخات المنتظرة… لنذهب إلى الصين، ولنعد… من المستقل…/.


الكاتب : إدريس جبـري

  

بتاريخ : 04/06/2022