حكايات تروى لأول مرة على لسان رواد «الغيوان» 01 : محمد الحياني الصديق المقرب للغيوان وجيلالة ولمشاهب

نعود بجمهورنا الكريم في هذه السلسلة الرمضانية، إلى بعض من المسارات التي عاشتها الأغنية الغيوانية، والتي إما مرت دون انتباه أو ستسرد لأول مرة، وهي مسارات ومحطات ندونها على لسان رواد المجموعات، والذين منهم من انتقل إلى دار البقاء ومنهم من مازال
بين ظهرانينا يتمم الرسالة والمسير…

 

في كل الحوارات واللقاءات التي أجريتها إما وحدي أو بمعية زملائي مع أعضاء المجموعات الغنائية المغربية: جيلالة من خلال محمد الدرهم ومولاي الطاهر الأصبهاني وعبد الكريم القسبيجي، الغيوان من خلال عمر السيد وعبد الرحمان باكو، ولقاءات خاصة مع العربي باطما وعلال، لمشاهب من خلال محمد سوسدي والمراني الشريف وصداقتي مع حمادي والشادلي والبختي … كان يستوقفني أمر أثار انتباهي وهو أن كل أعضاء المجموعات كانت لهم علاقة خاصة بالفنان الكبير محمد الحياني، نعم لهم صداقات مع جل المطربين، لكن كان للحياني مكانة خاصة في قلوب هؤلاء، هل هذا مرده إلى كون الحياني عانى كثيرا من الحيف من لدن من كانوا يتحكمون في دواليب الأغنية في تلك الفترة ؟ أم لأن عقلية الرجل قريبة من عقلية أعضاء هذه المجموعات .. بالفعل عانى الحياني وحورب كثيرا كما حوربت المجموعات بدورها، لكن كانت علاقته قوية بها، ليس لهذا السبب فقط، ولكن أيضا لأسباب وجدانية …
في حديثي مع لمعلم عبد الرحمان باكو، رحمه الله، كان كلما تحدث معي عن الأغنية المغربية إلا واستحضر اسم محمد الحياني، نعلم جميعا أن صداقة جمعت المغني العالمي جيمي هاندريكس وباكو، ومع ذلك تجد أن عبد الرحمان لم يكن معجبا سوى بابن جلدته الحياني، لدرجة أنه قال مرة «ماكرهتش كون تعاطى الحياني لتاكناويت سيكون رائعا في هذا اللون لأنه مجدوب» .. هكذا يراه عبد الرحمان، الذي كان يلقبه هاندريكس بطبيب الأشباح، كان حلمه أن يرى صديقه يحمل السنتير ويدخل عوالم كناوة، وكأني بعبد الرحمان يريد أن يخلق رمزا جديدا لكناوة، بما أنه معلم كناوي بلغ بمعية معلمين آخرين كالحاج الصام وباقبو وغيرهما ذروة العطاء في الفن الكناوي، حتى أنهم لم يعودوا يجدون من يحفزهم على الاستمرار والعطاء، لذلك بدا لباكو المعجب بالحياني أن الأخير قادر على هذه المهمة…
معلوم أن الحياني كانت تربطه بالعربي باطما وعمر السيد صداقة قوية، يلتقون.. يجتمعون يتسامرون وما إلى ذلك، يحكي عبد الرحمان أنه في إحدى الحفلات الكبرى التي نظمت بأحد الملاعب احتفاء بمناسبة من المناسبات، وقع أمر لم ينتظره المنظمون، فالاحتفاء جاء للمساهمة فيه عدد من الفنانين الكبار، وكانت الغيوان أيضا مشاركة في الحفل،ولكن الحضور الجماهيري كان كبيرا جدا إذ عد بالآلاف، وكان جمهورا عاصفا لم يقو أحد على تهدئة روعه، لذلك كلما صعد فنان من الفنانين إلى الخشبة إلا وَووجه باللا قبول والصفير وغيره، ليضطر إلى مغادرة الركح والعودة أدراجه … هذا المشهد تكرر أكثر من مرة حتى أن من لم يحن دوره من الفنانين أصبح يفكر في المغادرة قبل الوقوف أمام هذا الجمهور الغاضب ..لما اقترب دور الحياني لاحظنا على وجهه علامات الارتباك والتردد فدنونا منه وأخذنا نشجعه، ومع ذلك ظل على حاله مبررا موقفه بالقول « ألم تروا ما حصل لفلان وفلان مع هذا الجمهور، وهم فنانون من العيار الثقيل فمن أكون أنا أمام هؤلاء حتى يكون هذا الجمهور رحيما بي؟ «، في تلك الفترة كان الحياني يعيش تحت وطأة عواصف مختلفة، حرب فنية عالية ضده، «صابوطاج» وعراقيل من هنا وهناك، بالإضافة إلى ظروف أخرى ..ظل الحياني يتحرك في الكواليس جيئة وذهابا، ينتظر دوره وهو على أعصابه، قررنا نحن ناس الغيوان، دون إشعاره، أن نصعد معه الخشبة لدعمه حين يأتي دوره مادام الجمهور يهتف باسم ناس الغيوان منذ بداية الحفل … لما حانت لحظة الصعود وقف الحياني قرب الباب المؤدي للخشبة، تحلقنا حوله وأشعرناه بأننا سنلج الخشبة معه دعما له، فنحن نعلم أن سي محمد رهيف الإحساس ذو أنفة وكبرياء ولا يرضى أن يتم التعامل معه بكيفية غير لائقة … رفض الحياني بشدة اقتراحنا والتفت للعربي وقال « نجرب واش الجمهور بغاني ولا غ يعاملني كيف عامل الآخرين « .. نطق منشط الحفل ومقدم السهرة باسم محمد الحياني لتأتي العاصفة من الجهة الأخرى حاملة معها كل أصناف الترحيب والتقدير لهذا الفنان الكبير المسالم، مرفوقة بإيقاع التصفيق العالي والصفير اللامتناهي، التفتنا فرحين في اتجاه الرجل فوجدنا الدموع قد غزت العين، يقول عبد الرحمان: وكأني بهذا الجمهور قد قدم تلك الليلة لهذا الحفل ليبعث للحياني رسالة مفادها، نقدرك أيها الرائع ونحن دائما معك فلا تهتم لما يحاولون جرك إليه لأنك كبير ومحبوب عند الجماهير…. »
مولاي الطاهر الأصبهاني في كتابه «لما غنى المغرب» أفرد فصلا خاصا بالحياني، تحدث من خلاله عن العلاقة الجميلة التي كانت تربط أعضاء جيل جيلالة بالفنان الحياني، والتي لا تتوقف بطبيعة الحال عند معاملة زمالة بل هي أبعد من ذلك بشكل كبير، يقول مولاي الطاهر: لقد كان الحياني قريبا منا ومن الغيوان ونحن كنا نعتبره فردا منا، نتحدث معه عن مشاكلنا ومشارعنا، وهو كان يفعل نفس الشيء، كنا نلتقي بشكل مستمر وأحيانا دائم، وفي سفريات العمل كان يجتمع معنا ويفضل أن يظل برفقتنا.. عندما كان يشتد به الغضب ويحس بالاختناق كان يقصد منزلي الذي أكتريه وكنت قد صنعت له مفتاحا ثانيا، كان يأتي أحيانا ليفرغ ما يضره وأحيانا لكي لا يكلم أحدا …
نفس الشيء يقر به عبد الكريم القسبيجي الذي أكد في سيرته الذاتية أن الحياني كان يعد من أقرب الفنانين إلى المجموعات وأنه من بين القلائل الذين لم يزعجهم بروز الأغنية المجموعاتية بل كان الرجل يعشقها ويشجعها …
كلام عبد الكريم سيؤكده الفنان المرحوم سوسدي، إذ في الحوار الذي أجريته معه في بداية الألفية الحالية، كشف للجمهور بأن أول جولة فنية للمشاهب خارج أرض الوطن بتشكيلتها الشهيرة كان وراءها محمد الحياني .. يقول سوسدي : كنا قد شاركنا في سهرة أقيمت بالمسرح البلدي بالدارالبيضاء، هذه السهرة ستترك صداها في كل أنحاء المغرب بعد السهرة التي قدمناها بسينما السعادة، وكنا قد اِلتأمنا حديثا أنا والشادلي بمحمد باطما والشريف وسعيدة بعد مغادرة محمد وأحمد الباهري للمجموعة .. أذكر أن البختي ذرف الدموع فرحا، وكان من أول مهنئينا عميد الأغنية الغيوانية المرحوم بوجميع … بعد أيام سيأتي إلى الحي المحمدي، ودون سابق إشعار، الفنان الكبير محمد الحياني شخصيا، أنا كنت من المعجبين الكبار بهذا الفنان وسأكتشف في ما بعد أن جميع أعضاء لمشاهب كانوا يحبون هذا الرجل ويكنون تقديرا خاصا له، قلت جاء الحياني إلى الحي يسأل عن لمشاهب، كل الحي علم بالخبر، خاصة وأن الحياني كان نجما وفي أوج عطائه وله مكانة خاصة في قلوب المغاربة ومحبوب لدى الصغير والكبير، شخصيا لم أصدق الأمر، أي نعم أنا من المعجبين به لكن أن يأتي ويسأل عنا فتلك حكاية أخرى، هذا ينم عن تواضع الرجل وعن فكر جميل تتمتع به هذه الشخصية، فهو لم يحسب أي حساب، جاء فقط للحي المحمدي وكأننا على سابق معرفة، ليخبرنا أنه اختارنا لمرافقته مع فنانين آخرين للديار الفرنسية لإحياء بعض الحفلات في منطقة الألزاس، سررنا كثيرا بعرض قادم من فنان كبير وبدون تردد أخبرناه بالموافقة، إذ من باب الأخلاق ألا ترفض لمثل هذا الرائع الذي بحث عنك أي مقترح.. كان المشكل لدينا أن محمد باطما لم يكن يتوفر في تلك الفترة على جواز سفر، فعرضنا الأمر أمام الحياني علما أن الحصول على جواز السفر في تلك المرحلة كان من أصعب الإجراءات، لكن الحياني تكلف بالأمر وسحب جواز سفر محمد باطما في أيام قليلة ..رجل فنان في مجال يبعد عن الظاهرة، ومع ذلك تجده يشجع فرقها دون حسابات ضيقة، وهذا ما جعل إعجابي به يزداد قبل أن تتطور العلاقة إلى صداقة ..وكانت هذه الجولة بمثابة فأل خير على المجموعة، قبل أن يتابع سوسدي :
«كانت العلاقة بين أعضاء المجموعة قد بدأت تتوطد خصوصا وأننا لم نكن نغادر النادي الذي اكتريناه بحي روش نوار إلا قليلا، ولم تكن لنا التزامات عائلية ملحة. كانت الجولة رفقة الحياني هي الأولى من نوعها. وقعنا العقدة مع المتعهد وأخذنا الباخرة رفقة الحياني وقرزاز ومحراش والداسوكين وابن ابراهيم والمرحومة لطيفة أمل، وكانت مناسبة ربطنا فيها علاقات مع هؤلاء الفنانين الذين شاركوا معنا في الجولة. عرفت الحفلات نجاحا منقطع النظير لدرجة ان المتعهد الذي وقعنا معه عقدة ثماني حفلات، ألح علينا بأن نمضي معه في جولة أخرى إلا أننا رفضنا، أولا، من جهة لأن الثمن الذي كان يمنحه لنا ضعيف جدا لا يتجاوز 600 درهم للحفل الواحد، ومن جهة ثانية فقد كان هدفنا، كما أبلغنا بذلك المرحوم الحياني، هو الحصول على جواز للسي محمد باطما، وكذا التعريف بالمجموعة خارج أرض الوطن، حتى ينتشر إشعاعها.
بعد امتناعنا عن متابعة الجولة، سافرنا إلى باريس وهناك التقينا بمدير شركة «كليوباترا»، الذي طلب منا أن نسجل له أغان جديدة، فهيأ لنا شقة للإقامة وأخذنا في تحضير الأعمال الجديدة التي كنا قد كتبناها ولحناها في أرض الوطن، منها أغان للفنان الشادلي: «الله يادنيا الله»، «البارود» وأغنية للأستاذ بولمان «احبابي واهلي». وللتذكير، فإن هذا الأستاذ هو من كتب لنا أغنيتي «الخيالة» و»الواد»، كما ساهمت أنا في هذا التسجيل، بأغاني «الصحراء» «بغيت بلادي» و»داويني»».
المرحوم الشريف المراني من جهته حكى لي قصة مؤثرة عن الحياني تبين العلاقة بين المجموعة وهذا الفنان، ففي إحدى المرات كان من المفروض أن يقيم الحياني حفلا بمدينة وجدة، وهو ذات الحفل الذي ستشارك فيه لمشاهب، في يوم الحفل سنفاجأ جميعا بإحجام الجوق العازف عن القدوم في آخر لحظة، وهو جوق معروف وممأسس ومحترف وليس من طباعه أن يسقط في مثل هذه الأخطاء بل من غير المقبول أن يخطئ، ومع ذلك قرر هذا الجوق أن يترك هذا الفنان الكبير وحيدا .. كنت أعرف أن الحياني يواجه العراقيل ووقفت على بعضها لكني لم أكن أتوقع أن يصل الأمر إلى حد حرمان الجمهور من الفرجة لضرب فنان كل ذنبه أنه محبوب وله شعبية… يقول الشريف: انزعج الحياني كثيرا واعتلاه القلق الممزوج بالغضب وذاع الخبر بين الجمهور فلم أجد من حل سوى أن أقترح عليه أني سأعزف معه وبأن أعضاء من لمشاهب سيؤدون الكورال وكذلك كان، إذ دخلنا على الجمهور بمعية الحياني وكان الجمهور متفهما، وانشرح صديقنا وأطلق العنان لأوتار صوته ودخل معه الجمهور في حميمية منقطعة النظير، إذ أضحى هذا الجمهور هو من يردد الكورال وينقر الإيقاع، وكانت حفلة فريدة ومتميزة زادت من شعبية الحياني بعد أن علم جمهوره أن هناك من منع الجوق من الحضور إلى وجدة…


الكاتب : العربي رياض

  

بتاريخ : 12/03/2024