نعود بجمهورنا الكريم في هذه السلسلة الرمضانية، إلى بعض من المسارات التي عاشتها الأغنية الغيوانية، والتي إما مرت دون انتباه أو ستسرد لأول مرة، وهي مسارات ومحطات ندونها على لسان رواد المجموعات، والذين منهم من انتقل إلى دار البقاء ومنهم من مازال بين ظهرانينا يتمم الرسالة والمسير…
في هذه الحلقة نسترسل في ذكر الإكراهات والمعاناة التي كان يعاني منها أعضاء المجموعات، ومع ذلك لا يشتكون بل يكابرون ويواجهون في صمت، اخترت هنا من كتابي «لما غنى المغرب» بعض المعاناة التي عاشها مولاي الطاهر وحيدا بدون أن يزعج حتى المقربين منه بل ظل يكابر إلى أن أتى الفرج، شأنه شأن جميع رواد الأغنية الغيوانية، وهي ميزة كانت تطبعهم، ميزة نابعة بالتأكيد من عزة النفس، هم الذين تربوا في كبد المعاناة…
يعد مولاي الطاهر الأصبهاني من بين الأعمدة الأساسية لمجموعة جيل جيلالة، بل من أعمدة المجموعات الغنائية ككل، صوته أطرب الكثيرين، منهم مسؤولون في الدولة، بل أكثر من هذا كان قد أثنى عليه العندليب الأسمر في أواخر السبعينيات، عندما كان في زيارة للمغرب ودعاه أحد المسؤولين إلى حفل ستحييه فرقة جيل جيلالة، أدت خلالها أغنية «ليغارة»، ولأن الأغنية استهوته كثيرا صعد العندليب الأسمر إلى الخشبة، وأخذ البندير في يده وبدأ يغني مع المجموعة، وبعد انتهائها سيمسك العندليب بيد مولاي (كما يناديه المقربون منه) ويعلن في الحضور بأن صوته من أجمل ما سمع في حياته.
لم تكن المعاناة التي سردنا بعض تفاصيلها في كتابات سابقة هي الوحيدة في حياة «جيل جيلالة»، هذه المجموعة التي تغنّى بقصائدها بلد بأكمله، كان أفرادها أحيانا لا يجدون حتى ثمن كراء المنازل التي تأويهم، لكن عفة الإنسان الذي بداخلهم جعلتهم يجترون المرارة في صمت، شأنهم شأن كل فناني فترة السبعينيات ومثقفي هذا الوطن الحقيقيين في تلك الحقبة. «بطلنا» في هذه الحلقة مولاي الطاهر الأصبهاني ستعرف حياته معاناة عديدة، وهذا يعلمه كل المقربين منه، لكن روحه المرحة وولعه بالنكتة كانا يحجبان حقيقة المشاكل التي يتخبط فيها ويواجهها بصمت بمعية أسرته، خصوصا زوجته السيدة فتيحة التي قاسمته شتى أنواع المعاناة. في الحقيقة، لم يكن مولاي الطاهر خلال لقاءاتي معه لإجراء حوارات مطولة، يرغب في الخوض في مثل هذه الأمور، لكن كل أصدقائه الذين عرفتهم من خلاله كانوا يحكون لي خفية عنه، كيف كان يواجه الأزمات بدون أن يزعج أحدا… أفهم أن شموخ الفنان يجعله يترفع عن مثل هذه الأشياء، لكن من حق الجمهور الذي صفق طيلة 30 سنة لهذا النجم وزملائه ، أن يعرف أن هؤلاء «الاولاد» كانوا يتحفونه بأبدع الاغاني وفي قلوبهم قسط غير يسير من مرارة الزمن الرديء الذي لا «يجود» إلا للتافهين! يحكي محمد عمران ، وهو أحد أعز أصدقاء مولاي الطاهر وأقرب صديق لعائلته، أن مولاي الطاهر اضطر لأن يعمل في الإشهار لأن الديون تهاطلت عليه ولم يكن له مال لتسديد فواتير الكراء وغيرها، كان ذلك في سنة 2000، وكانت زوجته السيدة فتيحة قد اضطرت لتنفض الغبار عن آلة الخياطة التي كانت لديها ، وتدخل غمار حرفة الخياطة كي تساعد مولاي الطاهر في تحمل عبء المصاريف، في هذه الفترة كانت «جيل جيلالة» متشتتة، حيث غادرها محمد الدرهم الذي تعاقد مع إحدى شركات الإشهار فيما لم يعد عبد العزيز الطاهري متحمسا للغناء، وكثر الكلام في الصحف وفي وسائل الإعلام الأخرى عن هذا التشتت وطرحت تساؤلات عديدة حول أسبابه.. ولم يعد أحد يدعو الفرقة للعمل! في هذا الخضم «الحزين» ،اتصل عبد العظيم الشناوي بمولاي الطاهر وأبلغه بأن إحدى شركات الاتصال قد وضعت مشروعا في المغرب، ويتعلق الأمر بشركة «ميدتيل» وتريد أن تقوم بالدعاية، لذلك فهي في حاجة إلى ممثلين، مبلغا إياه أيضا أن الشركة لا تريد الدعاية عبر التلفزة وإنما في الجناح الخاص لها بالمعرض الدولي بالدار البيضاء. يقول عمران ، «كان الأمر صعبا على مولاي الطاهر وكنت أحس به، لكني كنت أعلم أنه في أمس الحاجة إلى أي مبلغ مهما كان حجمه، وكان هذا الأمر يؤلمني كثيرا! فكيف لأحد رموز الغناء المجموعاتي أن يتحول إلى رجل «ريكلام» ليس في قناة تلفزية أو إذاعة أو صحيفة، وإنما على الهواء في جناح مخصص لشركة؟! لحسن الحظ، يضيف عمران ، كانت الفكرة هي أن يلبس لباس «الدمى» وأن يصبغ وجهه بشعار الشركة وأن يقوم بحركات ميمية طيلة أربعة أيام صباح مساء، فيما يقوم عبد العظيم الشناوي بالتنشيط بواسطة الميكروفون… خلال تلك المدة، سيتعرف أحد المسؤولين بالشركة على هوية الرجل الذي يقوم بالحركات الميمية، فتوجه إليه بأمر في صيغة سؤال: «لماذا لا تغني» ؟ هذا «العرض» رفضه مولاي الطاهر، فتم التعويض باستعمال «الكاسيط» ! ليس هذا هو الموقف المحرج الوحيد الذي تعرض له مولاي الطاهر في تلك التجربة، يضيف عمران، بل هناك مشهد آخر آلمني كثيرا، فبينما كان مولاي الطاهر يقوم بالدور المنوط به في المعرض الدولي، ستأتي زوجته وابنته الصغرى غيثة، وستقترب منه متسائلة بألم: «آش هادشي آمولاي الطاهر؟». فرد عليها :«هاد شي اللي عطا الله» والحزن يعتصر قلبه بالنظر لصعوبة الموقف. يرفض المتمرد عمران أن تنتهي هذه الحكاية بهذه الصورة المُرة التي تعكس المفارقة الغريبة في الواقع المغربي، والذي يحاول فيه البعض صنع نجوم غصبا على أذواق المغاربة ويرمي بالتُحف الإبداعية إلى الهلاك. يقول عمران : طيلة تلك المدة «الإشهارية» في المعرض الدولي، كان مولاي الطاهر، رغم المرارة ، بشوشا يمرح مع الجميع، وفي فترة الغداء يخرج من حقيبته «السندويتش» الذي أعدته له زوجته في الصباح، تم يعود للنكتة والضحك. والمضحك أكثر، يسترسل عمران، أن تواجد مولاي الطاهر في تلك الوصلة الإشهارية سيصادف قدوم الطيب الصديقي إلى المعرض، والذي كان مدعوا من طرف «اتصالات المغرب»، سيرمقه مولاي الطاهر، وبعد أن تبادلا التحية، سيدعوه للحديث فرد عليه الصديقي بطريقته الساخرة :«انت ميدتيل وأنا اتصالات… من اليوم الحرب بيني وبينك آمولاي الطاهر». وواصلا الضحك. بالطبع كان الصديقي يمرح مع مولاي الطاهر، فهو يحبه كثيرا، ومولاي الطاهر إلى يومنا هذا لا يمكن أن يمر أسبوع دون أن يزور الصديقي لمؤانسته والمرح معه. ولعل من بين الميزات الصارخة التي تسم شخصية مولاي الطاهر، الوفاء، ففي كل جلسة جلسناها لابد أن يذكر الصديقي عشرات المرات، وكلما ذكر اسم «سيد المسرح المغربي»، إلا ورد مولاي الطاهر : «إنه أستاذي وتعلمت منه الكثير، إذ أن لقائي به غير مسار حياتي بالكامل.. وهو من صنع العديد من نجوم المغرب، ولا ينكر ذلك إلا جاحد».