نعود بجمهورنا الكريم في هذه السلسلة الرمضانية، إلى بعض من المسارات التي عاشتها الأغنية الغيوانية، والتي إما مرت دون انتباه أو ستسرد لأول مرة، وهي مسارات ومحطات ندونها على لسان رواد المجموعات، والذين منهم من انتقل إلى دار البقاء ومنهم من مازال بين ظهرانينا يتمم الرسالة والمسير…
وأنت في حضرة محمد الدرهم لابد وأن تحس بأنك قبالة رجل مثقف، له بعد نظر واسع، لا يرى الأمور من الزوايا الضيقة، فكلامه عن الفن والفنون يحمل رؤية شمولية، أي رؤية تفتح الأفق أمام جل التعبيرات الفنية والإبداعية ولا تقف عند نمط بعينه، وهي نظرة لا تتوفر إلا لمن يحمل قلبا نضاليا وهما ثقافيا حقيقيا، وثقة راسخة بأن بلده لها ما تقدم في الساحة الإنسانية وللكون في هذا الشق، كيف لا وهو الذي صال الأقطار حاملا شذرات من دفتر تراث تكلس فوقه الغبار، ليحاول بمعية الرفاق نفض ما تمكنوا من نفضه عنه ، ورأوا كيف استقبلت الإنسانية مكنون ما قدموه منه، وكيف حفلت به وعانقته على الدوام.
خلال حواري المطول معه رفقة الصديق جلال كندالي، والذي نشرنا تفاصيله في فسحة رمضان لسنة 2001 على صفحات الاتحاد الاشتراكي، جال بنا الدرهم في عوالم عديدة، منها المسرح والتشكيل والغناء والتراث والزجل والسينما والفلسفة والتصوف والسياسة وغيرها.. كانت جلساتنا معه عبارة عن صالونات ثقافية مصغرة، كان الحاج يغوص خلالها في جل تفاصيلها بطريقة حكي تشدك وتفتح لك شهية النقاش والبحث ما بعد النقاش، في إحدى الجلسات تحدث عن التوثيق والبحث، وكانت تعابير المرارة بادية على محياه، لذلك سأترك ماقاله كما دوناه في حينه، لأن فيه رسائل أراد أن يمررها للشباب، فلن نجد طرقة أبلغ من طرقته أو ليس هو صاحبها :
الأغنية هي المرآة والوجه الحقيقي لأي مجتمع، وموضوع الأغنية واسع جدا، ولا يمكن الإحاطة به بشكل مستعجل، والسؤال حول هذا الموضوع بطبيعة الحال يستدعي أسئلة أخرى، فعن أي شكل من الأشكال نتحدث، إذا كنا نتحدث عن الأغنية بشكل عام، فكما يصفها البعض هي تعيش أزمة أسوة بكل القطاعات الأخرى، وهذا لا يتعلق ببلدنا فقط، فهي أزمة عالمية، وحتى في الشرق الآن هناك مصطلح يطلق على الأغنية وهو «أغنية السندويش» أما أغنية المجموعات الشبابية ففيها ما أخذ طريقه إلى العالمية كالراي، وهذا موضوع آخر، أما الأغنية العصرية كما تسمى ففيها الكثير من الأشياء المتجاوزة، وهذا لايعني أن التجاوز وقع الآن، بل حدث منذ أكثر من عقد من الزمن، لأنها لا تراوح مكانها فيما تطرحه من مضامين، أما الأغنية الغيوانية فقد وقعت فيها بعض الهفوات إضافة الى أنها فقدت بعض رموزها كالعربي باطما، وبوجميع، زد على ذلك الانشقاقات، بشكل عام، الأغنية المغربية أصبحت تدور في بعض الدوائر المغلقة ووقع لها نوع من الغزو من خلال الراي الأغنية الشرقية، الأغنية الخفيفة، وهذا راجع بالأساس إلى عدم وجود استراتيجية ثقافية، مما جعل المتلقي يعيش استلابا مزدوجا، غربيا وشرقيا، إضافة إلى وجود جيل تغيب عنه العديد من المعطيات الخاصة ببلاده، إضافة أن الإعلام بشكل عام لم يساير الفن، هذا الأخير الذي لا يمكن له أن يتقدم بدون وجود النقد الذي هو شقيق الإبداع، وبالرجوع إلى الأغنية الغيوانية نجد أنها ظهرت، حسب ظروف سياسية معينة، في السبعينيات، حيث جاءت بعد عقد ونيف عن استقلال المغرب، وبطبيعة الحال أي شعب تحرر من الاستعمار يشتاق للرجوع إلى أصالته وذاته، هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى، فكانت الأغنية الغيوانية ذكية عند تعاملها مع التراث الذي يعد حقلا أساسيا للاشتغال، ومن جهة أخرى كان هناك المد الاشتراكي والتقدمي الذي ساعد على تجاوب الجماهير التي وجدت في الأغنية الغيوانية ضالتها، لكن السؤال الكبير، حينما تحررنا من الاستعمار العسكري، هل تحررنا من الاستعمار الفكري الذي يكتسح ويجتاح العقول، وهو أخطر من الاستعمار العسكري؟ على أي، ناس الغيوان، جيل جيلالة، المشاهب، هذه المجموعات عرت عن غطاء كنز ضخم له بعد زمني كبير، هذا الكنز يستحيل أن تفي به مجموعة معينة، لأنه تراكمات قرون وحضارات إنسانية مختلطة امتزجت في تراثنا، وبالتالي فهو أكبر من كل المجموعات، والدور موكول للأجيال الصاعدة، بالنسبة لمن يقول إن الفنان بدون معاناة ليس فنانا، أنا أجسد المعاناة في الخلق والإبداع وليس في أي شيء آخر، على أي، ومن أجل خدمة الفن، أنا أركز وألح على الثقافة خاصة في الأعمال التي لها دور تواصلي كالفن والصحافة من أجل تكريس تقاليد معينة، والفن هو الذي باستطاعته أن يجعل الثقافة حية، مشكلتنا هي الحساسية التي ننظر بها إلى التراث، وبذلك نحن نكسر حلقة الترابط (الحلقات الإنسانية القديمة) التي تعامل معها المسلمون في وقت معين بذكاء جيد، ونحن ننظر إليه بنوع من القداسة، وعلى الخلف أن يخدم هذا المسار، بما في ذلك التراث الأمازيغي، وفي هذا الصدد أقول إنه من لم يحافظ على هذا البعد مآله التيه والضياع·
لقد تركت المجموعات الغنائية المغربية وبعض فرق المسرح أرشيفا لا يستهان به من الأعمال التي تهم التراث، لكنها للأسف لا توجد في أرشيف التلفزيون حسب علمي· وأذكر أنه بعد مرور عقد من الزمن على تصوير بعض أعمالنا، ذهبنا لنسأل عنها هناك من أجل الاشتغال عليها في بعض الأعمال فلم نجدها · ليس نحن فقط، فأغلب الفنانين لا يجدون الأعمال التي صوروها للتلفزة في أرشيفها، وأنا سمعت أن أحد مسرحيينا المقتدرين ذهب إلى تونس من أجل إحضار مسرحية كان يصورها هناك من أجل عرضها في التلفزيون المغربي، بعدما طلب منه ذلك لأن التلفزيون لم يعد يحتفظ بها· وأكاد اجزم أن بعض المؤسسات التلفزية العربية والأجنبية تحتفظ بأرشيف مهم للفنانين المغاربة· وقد نجد بعض أعمالنا لديها ولا نجده في مؤسستنا· أكثر من هذا فقد حكى لنا بعض من عملوا في التلفزة أنه حينما يستعصي عليهم إيجاد شريط من أجل تسجيل تصوير للشيخات، أو شيء من هذا القبيل يتم الالتجاء أحيانا إلى بعض شرائط الأرشيف للتصوير فيها· تخيل أن أعمالا إبداعية تؤرخ لمرحلة معينة وقد يحتاجها الباحثون والدارسون والمبدعون وحتى المسؤولون، لا يتم الاحتفاظ بها، وهذا نوع من «إبادة» الثقافة والذاكرة، لا أعلم إن كان هناك تغيير الآن، لكن من المؤكد أن عددا من الأعمال التي صورت في الستينيات والسبعينيات قد أصبحت في خبر كان·
هناك أمور مضحكة ومُرَّة في نفس الوقت كان يعيشها الفنان مع هذا «الجهاز»، أدت في الغالب إلى تحطيم معنويات الفنان، بل أدت به أحيانا إلى النفور، وأتذكر أن المرحوم المخرج محمد الركاب، كان قد قرر الرحيل، إلى غير رجعة، إلى بلاد المهجر بعدما سئم من ممارسات قام بها مسؤولون في هذا الجهاز، والتي لا تبدي أي احترام للفنان ولأعماله·