نعود بجمهورنا الكريم في هذه السلسلة الرمضانية، إلى بعض من المسارات التي عاشتها الأغنية الغيوانية، والتي إما مرت دون انتباه أو ستسرد لأول مرة، وهي مسارات ومحطات ندونها على لسان رواد المجموعات، والذين منهم من انتقل إلى دار البقاء ومنهم من مازال بين ظهرانينا يتمم الرسالة والمسير…
في صيف سنة 1975 عادت مجموعة «جيل جيلالة» من جولة فنية قادتها إلى الشرق الأوسط والخليج، ورغم أنهم أحيوا مجموعة من الحفلات في عدة دول هناك منها سوريا والعراق والكويت، وسجلوا أعمالهم لدى القنوات التلفزية، مع فيلم حول المجموعة، عادوا بخفي حنين على المستوى المادي.. يذكر عدد ممن جايلوا هذه المجموعة أن بعض هذه الحفلات نقلها التلفزيون المغربي وكانت الجولة ناجحة بامتياز، لكن عند العودة وعندما اجتمعوا مع رئيس الفرقة إذاك في نادي المجموعة، أبلغهم أنهم لن ينالوا إلا مبلغ 100 درهم للفرد، أخذ أعضاء الفرقة يحملقون في بعضهم، قبل أن يتدخل مولاي الطاهر الأصبهاني، ويعلن أنه لن يأخذ المبلغ، ويعلن اعتزاله من الفرقة لأنه لم يفهم أين ذهب مجهود شهر من العمل، نفس الموقف سيعلن عنه صديقه مولاي عبد العزيز الطاهري وعبد الكريم القسبجي وسكينة الصفدي…
غادر الشبان الأربعة النادي، دون أن تكون لهم أية فكرة عماا سيقومون بها، فقط كل واحد فكر أنه سيغادر المجموعة والبحث عن مصدر رزق آخر قد يكون غير الفن… التحق مولاي عبد العزيز الطاهري، بمولاي الطاهر، وسأله ما هي الآفاق؟ أجابه الأخير بأن لا فكرة لديه لكن «علينا الاشتغال»… التقى الاثنان في اليوم الموالي، وسأل مولاي الطاهر صديقه مولاي عبد العزيز، إن كانت له نصوص غنائية مكتوبة، فأجابه بالإيجاب، وقصدا منزل مولاي عبد العزيز للإطلاع على النصوص، والنظر إن كانت قابلة للغناء، بعد الإطلاع على النصوص، ظهر لهما ما هو قابل للغناء، لكن بقي شيء مهم، وهو أنهما عادا من الشرق بدون مال، ولا يتوفران على إمكانيات للاشتغال بالشكل الصحيح.
في جلسة عفوية مع صديق لهما، أطلعاه على ما وقع لهما، فما كان من الصديق إلا أن خصص لهما منزلا صيفيا بمنطقة زناتة، وتكفل بمصاريف الأكل والشرب، وقصد الفنانان المنزل وأخذا في الاشتغال بعد الانتهاء من تهييئ الأغاني «وترميم» النصوص كان على الصديقين الاتصال بباقي أفراد الفرقة الملسوعين بالخصاص المالي، للتمرين على العمل الجديد ليطرح من جديد مشكل قاعة للتمرين، خلال هذه الفترة، وهذه معلومة لا يعرفها الكثيرون، دعيت جيل جلالة، لإحياء حفلين، الأول بمدينة سلا، والثاني بمدينة مكناس بمناسبة عودة فريق المدينة إلى الدرجة الأولى، وهو الحفل الذي شاركت فيه أيضا مطربة المغرب الرائعة عزيزة جلال إلى جانب جيل جيلالة.. المشكل لم يكن في المشاركة ولكن بما أن أعضاء الفرقة عادوا من الشرق مشتتين بعد خلافات في ما بينهم، كان لزاما تعويض الغائبين بأفراد آخرين خاصة على مستوى العزف على الآلة، لأن محمود السعدي رحمه لله لم يعد مرغوبا فيه من طرف باقي المجموعة الغاضبين، هنا سيلتحق للمساهمة في الحفلين المذكورين اثنان من أعمدة المجموعة الرائدة لمشاهب، ويتعلق الأمر بكل من الشريف الأمراني، أحد أمهر العازفين بالمغرب، وصديقه الشادلي أحد الزجالين المرموقين، ستذهب جيل جيلالة ومعها عضوا لمشاهب إلى مكناس، للمشاركة في حفلة فريق النادي المكناسي بجيوب فارغة، حتى أن زي المجموعة لم يكن متوفرا لديهم، فاهتدوا إلى فكرة ارتداء أقمصة الفريق الصاعد إلى فرق الصفوة، وكانت حفلة ناجحة بكل المقاييس، أعطت لمجموعة جيل جيلالة، شحنة أخرى جعلتهم يفكرون بسرعة في ضرورة العودة إلى الميدان لكن من أجل ذلك عليهم إصدار عمل جديد، وهو ما تم، كما أشرنا سابقا، لكن أين هي القاعة التي سيتمرنون فيها، وبحكم الصداقة، التي كانت تجمع أعضاء الفرقة بالفنان الكبير لحسن زينون، تم الاتصال به وإطلاعه على الوضعية، فما كان من الفنان الرقيق، إلا أن وضع القاعة التي يمرن فيها الشباب على الرقص تحت إشارتهم أنى شاؤوا من الوقت.. ومكثوا في تلك القاعة لأيام ليصدروا أحد أروع ألبومات المجموعة يتضمن أغاني.
«الناس ف لهوى نشدات»، «ناديتك ف الغنة»، «مزين وصولك»، «الدورة»، «وجلاتني رياحك»..وكانت هذه هي التقليعة الثانية لجيل جيلالة لتستمر لسنوات أخرى. كان الفنان مولاي الطاهر قد روى لي تفاصيل هذه المحنة ، وأكدها عبد الكريم في الكتاب الذي كنت قد نشرته حول سيرته قبل 5 سنوات، حيث تم التطرق أيضا إلى الفرقة التي احتضنت عبدالكريم في بداية مشواره، ويتعلق الأمر بمجموعة نواس الحمرا التي تأسست مباشرة بعد ظهور جيل جيلالة، وننشر هنا جانبا مما تضمنه الكتاب عن تأسيس هذه الفرقة:
ظروف العمل اضطرت عبد الكريم إلى التنقل والسكن بدوار العسكر عند عمته، بعدما تحصل على عمل بورشة للميكانيك توجد بالحي الصناعي بحي المسيرة الآن بأجر أعلى من السابق. هناك سيتعرف على أعضاء «جمعية الأطلس»، التي كان يرأسها قيدوم الممثلين بمراكش، الذي تتلمذ على يديه أبرز الممثلين بالمدينة، ويتعلق الأمر بمولاي عبد الواحد العلوي، الذي يعد أحد رواد المسرح المغربي. كان مؤلفا، ومخرجا، وفوق هذا محبوبا ويحترمه الجميع، ومن الممثلين الذين تشربوا المسرح من أعماله نذكر، تمثيلا لا حصرا، عبد العزيز ليتيم، محمد أبو الصواب، محمد حسن الجندي، عزيز موهوب، وأحمد العمري، وغيرهم ممن بصموا تاريخ المسرح المغربي.
على غرار هذه الأسماء المقتدرة، قدر لعبد الكريم الاشتغال مع مولاي عبد الواحد العلوي في بعض أعماله المسرحية، وأول عمل مثل فيه هو مسرحية «الاستقلال»، حيث أوكل إليه أستاذه مهمة تأدية بعض المقاطع الغنائية مع دور مسرحي.
عبد الكريم وأقرانه، رغم التزامهم بالعمل المسرحي، كانوا خلال أوقات الفراغ، يبحرون في عوالم فنية أخرى، فمنهم من يرسم، ومنهم من يعزف، ومنهم من يغني.
كان نجم مجموعة «الإخوة ميكري» قد سطع أواخر الستينيات، ومعظم الشباب تأثروا بلونهم الفني الرائع، وعلى شاكلة الإخوة «ميكري»، أسس عبد الكريم، رفقة صديقين له حسن ونجيب، فرقة غنائية، ولم يكن عمره يتجاوز سبع عشرة سنة، حيث خضع الثلاثة لعدة تمارين. كان حسن وعبد الكريم يغنيان، ونجيب يعزف على القيثارة، أدوا أغاني ميـﮕري في عدة مناسبات بدور الثقافة ودور الشباب، كان مقر إحدى الجمعيات يتواجد غير بعيد عن ملعب الحارثي، وهي «جمعية النهضة». ففي إطار اهتمامها بالغناء، نظمت مسابقة للمواهب المراكشية، حيث تقدم الثلاثي عبد الكريم ونجيب وحسن لهذه المسابقة التي شهدت مشاركة مواهب عديدة، فتصدروا ترتيب المتألقين.
أقيمت المسابقة في أحد الأندية، الذي يعد مقصدا لمختلف الجمعيات، بفضل موقعه وسط مركز المدينة. داخل النادي سيتعرف عبد الكريم على فنان لمشاهب محمد حمادي، والفنان عبد الكريم جوحر، الذي كان ينشط ضمن جمعية «شبيبة الحمراء»، فيما كان ينتمي حمادي «لجمعية كوميديا» جوحر، بالإضافة إلى مواهبه الغنائية، فهو ممثل يجيد تقمص الأدوار، وقبل التقائه وتعرفه على عبد الكريم، كان قد اشتغل مع مولاي الطاهر الأصبهاني ومحمد شهرمان ومولاي أحمد بنمشيش، في أعمالهم المسرحية بمسرح الهواة، والتي لاقت نجاحا كبيرا، ورغم أن جوحر كان ابن حومة عبد الكريم، فإنه لم يكن يعرف أنه يغني وأن صوته رائع، إلى أن التقاه في النادي السالف ذكره، حيث عبر له عن إعجابه بصوته واقترح عليه الالتحاق بالجمعية الرائدة، شبيبة الحمراء، التي مر منها أبرز الفنانين المراكشيين، منهم عبد العزيز الطاهري، ومحمد الدرهم، ومولاي الطاهر الأصبهاني، وشهرمان، وعبد اللطيف الملاخ، والمخرج عبد الكريم بناني، وعبد الجبار بلخياط وعبد الحفيظ البنوي، نجم مجموعة «ألوان»، ومدير مهرجان الأغنية الغيوانية الآن، وعز الدين القرفة، وجموع عبد الرحمان وغيرهم، وهي أسماء رغم أن ما كان يجمعها هو التمثيل والمسرح، إلا أن جلهم كان يجيد الغناء، حدث ذلك ما بين سنتي 1970 و1971، وهي فترة سيكون لها ما بعدها، حيث صادفت التحاق عبد الكريم بالجمعية، في الوقت الذي غادرها مولاي عبد العزيز الطاهري، ومعلوم أن الطاهري كان مؤلفا وكاتبا وممثلا بها، وأحد أعمدتها الأساسيين، إلى جانب شهرمان وبنمشيش ومولاي الطاهر، حيث انتقل إلى الدار البيضاء للعمل كموظف بإحدى الشركات، وبحكم ميوله للفن أخذ معه آلاته التي يعزف عليها، وهناك سيتعرف على بوجميع والعربي باطما، ليؤسس معهم مجموعة «ناس الغيوان»، وكان قبله مولاي الطاهر الأصبهاني الذي كان نجما في التمثيل بهذه الجمعية فاز في سنة 1969 بجائزة أحسن ممثل في مسرحية «التكعكيعة» الشهيرة، قد اختاره الأستاذ الطيب الصديقي، في أحد التداريب المسرحية بالهرهورة، للالتحاق بالمسرح البلدي والاشتغال معه، رغم أن مولاي الطاهر، كانت له وظيفته بوزارة الفلاحة، غير أنه اختار المسرح ليستقر بالدار البيضاء. كذلك كان محمد الدرهم في تلك الفترة، أحد المغادرين، بعد أن سافر إلى فاس للعمل، قبل أن ينتقل إلى مدينة الجديدة للاشتغال في المسرح مع الأستاذ عفيفي. وصادف التحاق عبد الكريم بالجمعية، أيضا، بروز مجموعة «ناس الغيوان»، وبعدها بستة أشهر ظهرت «مجموعة جيل جيلالة»، وبدأت تتأسس مجموعات غنائية على شاكلتهما في مختلف المدن المغربية.
في هذا الإطار، وبما أن «ناس الغيوان» و«جيل جيلالة»، كان أعضاؤهما أبناء المسرح، واستطاعوا أن ينجحوا في الغناء، فقد اقترح عبد اللطيف الملاخ، الذي ترأس الجمعية بعد أن غادرها جيل الرواد، تأسيس فرقة غنائية على شاكلة الغيوان وجيلالة، وهي الفكرة التي أيدها الأستاذ المهدي الرباطي، الذي كان يدعم الجمعية ويساعدها.
فكرة الملاخ، ستتطلب منه تحويل ممثلين إلى مغنيين، وهو أمر يستوجب تخطيطا ورؤية بعيدة المدى، كيف لا و أمامه ممثلون ليس في جعبتهم سوى الموهبة الربانية، فهم لم يدرسوا الموسيقى، في المقابل وجد الملاخ نفسه أمام سياق فني شبابي جديد، فمعظم الجمهور أصبحت تستهويه أغاني المجموعتين خاصة ناس الغيوان وجيل جيلالة أكثر من المسرح، فلِم لا يخوض تجربة في هذا المضمار.
الملاخ والشباب الذين اختارهم لولوج غمار تجربة غنائية شبيهة ب «جيل جيلالة» والغيوان، لم تكن في جعبتهم سوى بعض المقاطع الغنائية التي كانوا يرددونها في بعض المشاهد المسرحية، التي يعرضونها على الخشبة، أغلبها كتبها عبد الرحمان جموع، فيما كان اللحن مشتركا، لأن أهم ما تميزت به جمعية «شبيبة الحمراء»، هو الاشتغال عبر محترفات، مثل محترف الكتابة، ومحترف التلحين وغيرهما، كل واحد ينضم إلى المحترف الذي يمكن أن يستجيب لميولاته، وهكذا أيضا كان يشتغل من سبقوهم في الجمعية خاصة محمد شهرمان وعبد العزيز الطاهري ومولاي الطاهر الأصبهاني وبنمشيش، وكل من كان في الجمعية.
الشباب الذين اختارهم الملاخ لدخول تجربة الغناء المجموعاتي، لم يكن بينهم من يعزف على أي آلة، ما سيضطرهم إلى الالتجاء من جديد إلى المهدي الرباطي، الرجل الذي كان داعما باستمرار لجمعية «شبيبة الحمراء»، كان المهدي الرباطي من كبار التجار بسوق السمارين المعروف بمراكش، ومن بين الأشياء التي يتاجر فيها بعض الآلات الموسيقية العتيقة والتراثية، كالكنبري والسنتير والرباب، وبحكم تجارته كانت له علاقات وطيدة ببعض الفنانين في عالم تاكناويت وعيساوة والشعبي، فوقع اختياره على عازف للمجموعة الجديدة «نواس الحمراء»، ويتعلق الأمر بأحد المهرة في عزف آلة السنتير في تلك الفترة وواحد من «المعلمين» الكبار في فنون كناوة، وهو لمعلم سي محمد صعصع، المعروف ب «ولد لفرناطشية» عند كناوة.
استقدمه المهدي الرباطي للجمعية، وتم إخباره بأن الملاخ بصدد تأسيس مجموعة غنائية على شاكلة «الغيوان وجيلالة»، سيطلق عليها اسم «نواس الحمراء»، الاسم الذي اختاره الملاخ نسبة إلى جمعية «شبيبة الحمراء»، فانطلقت التداريب على الأغاني التي كانوا يؤدونها في الأعمال المسرحية وهي أغاني: «ابكي يا عيني» «ولاتيق ف الدنيا» «بغيت قريقشاتي، بغيت مويعناتي».
وقد كتبها كما تمت الإشارة إلى ذلك عبد الرحمان جموع، واستُلْهِمَتْ ألحانها من التراث الشعبي، ومع القوة التي ظهرت بها «الغيوان وجيلالة» والصدى الذي تركه أفراد المجموعتين، كان الرهان بالنسبة للملاخ هو الكيفية التي ستظهر بها «نواس الحمراء»، التي اعتبرت ثالث مجموعة تتأسس بعد «الغيوان وجيلالة»، على الأقل، في مراكش والمدن المجاورة لها. لاننسى-طبعا- أن «لمشاهب» هي الأخرى كانت قيد التشكل في سنة 1973، أي الفترة التي ستتهيأ فيها «نواس الحمراء» للخروج إلى العلن، أضف إلى ذلك مجموعات أخرى منها «تكدة» وغيرها.