نعود بجمهورنا الكريم في هذه السلسلة الرمضانية، إلى بعض من المسارات التي عاشتها الأغنية الغيوانية، والتي إما مرت دون انتباه أو ستسرد لأول مرة، وهي مسارات ومحطات ندونها على لسان رواد المجموعات، والذين منهم من انتقل إلى دار البقاء ومنهم من مازال
بين ظهرانينا يتمم الرسالة والمسير…
معلوم أن ظهور الغيوان وجيلالة وبعدهما لمشاهب أزعج الكثير من الجهات، فمن جهة كان غناؤهما لا يشبه الغناء السائد في تلك الحقبة، والذي تشبع به الناس كثيرا، ومن الصعب إقناعهم ببديل عنه، كما أنه غناء يحمل في طياته نفحة سياسية واحتجاجية «مغلفة» بالتراث، العابر إلى قلوب المغاربة المرتبطين بالتراث والتواقين لنسائم مغرب يترجم أحلامهم بعد ضيق الاستعمار، ويجعل وطنهم يخرج من التبعية ويركن لخصوصيته التي تمتح من عمق أصالة التنوع الثقافي المغربي والمنفتحة على كل ثقافات العالم دون ميز، مع كاريزما تبوؤه المكانة التي يستحق وسط الدول، وهي كاريزما تمتعه بكرامة لا تنضب، وتجعله نموذجا يحتذى سواء في العالم الغربي أو في إفريقيا .. هذا الأمر جعل الريبة تنتاب مسؤولين كثر، وتفرض عدة تساؤلات، منها أهم سؤال وهو إلى أين يريد أن يصل هؤلاء؟ ومن قد يكون وراءهم ؟ وكيف تمكنوا من كسب عطف هذه القلوب؟
لم يتوقف الإزعاج عند المسؤولين فقط، بل تعداه إلى الفنانين الذين زاحمتهم الأغنية الجديدة وأصبحوا ينظرون لأصحابها نظرة العداء، وساهم بعضهم في خلق الإشاعة حولها بهدف تبخيسها واستصغارها كوصف أعضائها ببوهالة وهداوة بالمعنى التحقيري للمصطلحين، وفي هذا الباب تحضرني قصة حكاها لي أفراد مجموعة ناس الغيوان، تقول القصة: كنا في بداية مشوارنا الفني ونحاول أن نبرز أعمالنا، فدعانا الفنان إبراهيم العلمي كي نشاركه حفلا كان سيحييه في إحدى القاعات بالعاصمة الاقتصادية، لما غنى الأستاذ كان التجاوب معه كبيرا كالمعتاد ومرت الأمور كما يجب أن تمر، حين وصل دورنا وبمجرد ظهورنا فوق الخشبة بدأ البعض يسخر ويصفر، لكن أحدهم تعدى كل ذلك وأخذ في التحقير، حيث صاح ما مرة «آسيرو فحالكم آهداوة.. و ابوهالة واهداوة ..» وعلى الطريقة البوجميعية كان جوابنا فنيا، لم نرد عليه رغم إزعاجه لنا وتأثيره على بعض من سايروه من المتفرجين، بل دخلنا مباشرة في صلب الغناء، حيث تعمدنا أن نبتدئ بأغنية «ما هموني غير الرجال إلى ضاعو .. الحيوط الى رابو كلها يبني دار ..» تعالت التصفيقات وانطلقت صيحات التشجيع، لكن في المقابل فرغت عشرات الكراسي من أصحابها وعلى رأسهم ذلك الشخص الذي كان يصيح في وجوهنا، حيث فضلوا الفرار خشية اعتقال محتمل جراء ما نغنيه، والعجيب أنهم فروا وسط موجة من الاستهجان .. حين لم تنجح خطة النعوت بأوصاف من قبيل ما أشرنا إليه سيتم النعت هذه المرة ب «الكوايفية ولحشايشية» وما إلى ذلك، قبل المرور إلى الاتهام بممارسة السياسة وبأن أطرافا معارضة هي التي كانت وراء إبرازهم وهم بذلك سيفسدون تربية الأبناء .. كل هذا الهجوم بغرض منع الشباب من الاستماع لأغانيهم والتأثر بها، المهم أن المجموعات عانت من تشويش مسترسل حتى داخل الوسط الفني، خصوصا بعد أن أصيبت الأغنية العصرية ومعها حتى المسرح بالبوار في فترة معينة من ظهور المجموعتين .. الاكتساح الذي لم تنفع معه الإشاعة والاتهامات المغرضة، سيدفع بعض الفنانين إلى تغيير رأيهم والاستسلام للأمر الواقع، وكم من فنان خلق فرقة مشابهة للغيوان وجيلالة، لكن تجربته لم تكتمل، بل إن هناك فنانين كبارا ويضرب لهم ألف حساب، كما أسر لي بعض أفراد الفرقتين، طلبوا الانضمام للغيوان وجيلالة .. ومع ذلك ظلت بعض العقليات تتعامل بحقد مع أعمال المجموعتين. في هذا الصدد يقول الفنان الكبير عضو مجموعة جيل جيلالة سي محمد الدرهم في الحوار المطول الذي أجريناه معه في بداية الألفية الحالية: كانت هناك عقبات غير مباشرة تعترض طريقنا، وقد لمسناها من خلال تعامل التلفزيون معنا، إذ بمجرد أن ذاع صيت الغيوان وجيلالة حتى تعاملت دار الإذاعة والتلفزة معاملة مجحفة في حقنا، إذ تحت مبررات مختلفة وواهية لا تتم إذاعة أعمالنا، وكل ما كنا نسمعه في تلك الحقبة هو أن هناك خلية مسؤولة عن القطاع الموسيقي تحارب عمل المجموعات بالخصوص ناس الغيوان وجيل جيلالة … بطبيعة الحال نحن أيضا كانت لنا تفسيراتنا لما كان يجري – يقول الدرهم- فظهور جيل جيلالة على شاشة التلفزة في سنة 1972 رافقه استجواب مع حميد الزوغي ومحمد الركاب، تحدثا فيه عن الشكل الغنائي الجديد، وانتقدا الأغنية العصرية واعتبراها مستوردة من الشرق ولا تمت للتربة المغربية بصلة، سواء فيما يتعلق بالآلات المستعملة أو في شكلها وحتى ألحانها، الأمر الذي أثار حفيظة البعض ولمسنا هذا خلال تصريحات البعض حول المجموعات الغنائية، إذ هناك من اعتبرها موجة عابرة، وبأن أصحابها لا يمتون لعلوم الموسيقى بصلة، وما إلى ذلك من تصريحات.. وأظن أنه لو كان لهم قليل من الذكاء، لتساءلوا أولا ما الذي جعل غناء هذه المجموعات يجد إقبالا كبيرا لدى قاطبة الشعب بشيوخه وكهوله وشبابه ونسائه ؟ أعتقد لو كان هناك قليل من مساءلة الذات لما ذهبت تلك التصريحات إلى ما ذهبت إليه، وهي ردة فعل نتفهمها خاصة وأن تصريحات الزوغي والركاب بدورها لم تكن سلسة ..على أي، نحن لم نعر مسألة تهميشنا من التلفزيون أي اهتمام، لأن تواصلنا مع الجمهور كان دائما مباشرا عبر العروض في مختلف القاعات العمومية أو عبر الأشرطة الصوتية …
الطريق بالنسبة للمجموعات الغنائية كان شاقا وقد أنهكتها الحروب الصغيرة المفتعلة لذلك لم تتمكن من الوصول إلى العالمية المرجوة .
في هذا الإطار يوضح محمد الدرهم: ربما أن المجموعات لم تصل إلى الدرجة العالمية المرجوة، لكونها كانت مناضلة، أولا، مرت من نضال عسير كي تعلن عن نفسها، ثانيا لأنها تتغنى بقضايا تهم الحرية وتستنكر الظلم، وتعكس أعمالها هموم الإنسان المغربي والعربي، وقد تناولت كثيرا موضوع القضية الفلسطينية، وبمناسبة هذا الموضوع، أتذكر لقاء جمعني أنا والعربي باطما وأحد مهندسي الصوت من انجلترا كان يعمل لدى شركة إنتاج عالمية كبرى، منحته التفويض ليختار الفنانين الذين يراهم مناسبين كي تحتضن الشركة أعمالهم، عن طريق دعمهم والترويج لهم من خلال الدعاية، كان هذا اللقاء في باريس، حيث كنا والغيوان نشارك في عرض فني هناك ودعانا منظم الحفل لتناول وجبة العشاء صحبة مهندس الصوت الذي كان يحمل إذاك معه آلة كمبيوتر محمول، ويتصل به مشغلوه وأصحاب الاستوديوهات في مختلف أقطار العالم، حدثنا المهندس عن أعمالنا وعن تقنيات جديدة من شأنها أن تطورها واسترسل في الشرح والحديث، مقترحا إدخال آلات حديثة على الآلات التي نستخدمها، شد انتباهنا باقتراحاته وكلامه وأنصتنا بإمعان كبير إلى أن وصل إلى مضامين الأغاني، حيث اقترح أن نتناول مواضيع أخرى غير تلك التي نتغنى بها، وأن نتجنب الاشتغال على مواضيع تتطرق للقضية الفلسطينية، وكل ما من شأنه أن يخدش إحساسات الدول العظمى، مضيفا بأن العمل بالنصائح التي تقدم بها من شأنه أن يوسع شهرتنا في الكرة الأرضية.. وبطبيعة الحال ما يصاحب هذه الشهرة العالمية من بذخ مالي .. استنتجنا أنا والعربي بأن المهندس كان يجس النبض، كما فهمنا أن الشركة التي يعمل بها وشركات أخرى، تتحكم فيها رساميل صهيونية، تهدف إلى طمس الهويات من جهة والاتجار في الآلات الجديدة التي ظهرت في حقبة الثمانينيات على الخصوص على أساس أن تكتسح العالم العربي عبر نجوم فنها.. بطبيعة الحال بعد تناولنا العشاء قمنا أنا والعربي وغسلنا أيدينا و »غسلناها أيضا حتى من القضايا التي تحدث فيها معنا ذلك المبعوث»….