«حكايةُ جينْجي» فجر الرواية العالمية!

“للكاتبة اليابانية (موراساكي شيكيبو) أسلوب أدبي هائل . لكنْ، في عهدِها كان غَــثًّا، ينفر منه القارئُ، لأنَّ الروايةَ تحتلُّ الدرجةَ الأدنى في مقايــيــس التسلسل الهــرمي للأجــنــاس الأدبــيــة» !
ميليسا ماكورميك
هل، فعْلا، هي أولُ روايةٍ في العالم، كما يُجمعُ نقادٌ يابانيون وغربيون؟!..أخشى أنْ أجْــزِمَ، وما تَعَوّدْتُ ذلك، لأنه قد يأتي، غدًا، من يدَّعي أنَّ هناك روايةً أخرى هي الأقْـــدَمُ!..مثلا، يعتبر البعضُ أنَّ «ملحمة جلجامش» 2000 قبل الميلاد، الرواية الأولى التي عرفتها البشريةُ والبعضُ الآخرُ يرى ملحمةَ السوري الساموساطي في القرن الثاني الميلادي أولَ روايةٍ في الخيال العلمي، بينما «حكاية جينجي» لا يتعدى عمرُها ألفَ سنةٍ!..ثم إذا كانتْ هذه أولَ روايةٍ، فما نوعُها : واقعي، خيالي، علمي، تاريخي…؟
لــنخــتـصر الكلامَ، فـنقـول، بحـذرٍ شديــدٍ، ودون مُجازفــةٍ، إنها الأولى في مجال الرومانسية (فقط) !
كُــتــبــتْ هــذه الروايةُ، مـــنـــذ ألـــفِ عــامٍ، وتــــشــتــمل عــلى أربــعــةٍ وخمسين فصلا، وحوالي ألف صفحةٍ، موزَّعةٍ بين أربعِـمائةِ شخصيةٍ . كما تحتضن ســبْعَــمِــئــةٍ من قصائِـدِ الحبِّ، يُطْلَقُ عليها باللغة اليابانية (تانْكا) وتقابلُها في اللغة العربية بالمغرب (العُروبيَّاتُ) كانتْ تُنشِدُها النساءُ، عصْرًا، فوق السطوح، جمعها محمد الفاسي في ديوانٍ صغيرٍ، وقارن النقادُ بين قصائد هذه وتلك، في إطار (الأدب المقارن) !
ويعود الفضلُ في ظهور «حكاية جينجي» بأوروبا إلى الكاتبة الإنجليزية (فرجينيا وولْفْ) التي عثرتْ عليها، فراجعتْ ترجمتَها لـ(آرثــر ويلي) وكتبتْ عنها، ثم نشرتها سنةَ 1925 . ومن خلالِها تعرَّفتْ على تيار الوعي للسرد، أو الحوار الداخلي، الذي برعتْ فيه، ما مَــكَّــنَ الروائيين جيمس جويس ووليام فولكنر من هذه التقنيةِ السردية . لأنَّ موراساكي غاصتْ عميقا في الوعي الذاتي، لتسرد حكايةَ الأمير الفاتن، وانتقتْ لهذا الأسلوبِ الجديدِ، ما تختزنه عقولُ النساءِ في الغرف المغلقة، لتحليل شخصيةِ ذلك الأميرِ ذي الشخصيةِ الجذابةِ !
ولم تكن هذه الروايةُ مصدرا لإلهام فرجينيا وحدَها، إنما غدتْ موضوعا مُغريا للكتابةِ والتشكيلِ لدى الكثير من الكتاب والفنانين، حتى إن البعضَ حاول تقليدَها، فلم يستطع إلى ذلك سبيلا، وجاءتْ كتابتُهُ أو لوحتُه، نسخةً باهــتةً، أو مثلَ الغرابِ الذي أراد تقليدَ الحمامةِ!..وهذا التفوقُ في السرد، حفَّز اليابانيين على تحويل النظرِ من الشعرِ إلى النثرِ، وأغراهُمْ بالتَّفَنُّنِ في جِنْسِ الروايةِ، وإنْ كانتْ موراساكي لم تُطَلِّقِ الشعرَ ثلاثًا، أي لم تُــفَــرِّطْ في تضمين كتابتِها الروائيةِ عددا من قصائد الرومانسية اليابانية!.. ويُقْصَد بـلقب الروائية (شيكيبو) الكاتبة الخاصة، ففي التقاليد الإدارية لليابان، يُسمَّى الابنُ أو الابنةُ باسم مهنةِ الوالدِ، ويعوضه إذا كان أهْــلا لذلك، عـندما يــتــقــاعــدُ، أو يُــتَــوفَّى !
وحَظِيَتِ روايتُها، في البدايةِ، بتقدير الإناثِ، ثم مالبثَ أنْ أقبلَ الذُّكورُ على قراءتِها، وهذا يعني أنَّ أولَ من كتب الروايةَ كان (أنثى) في عهدٍ، طغى فيه الشعرُ، ونادرا ما كان القارئُ يجد نثرا، إلا في الحكايات الخيالية، الأمرُ الذي يجعلنا نستنتج، أنَّ الشعرَ كانَ (ديوانَ اليابانيين) قبل أنْ تطغى التكنولوجية، فتُدحْرِجه الروايةُ…!
ولم تظهــرْ هذه الروايةُ إلا بعد مخاضٍ عــسيــرٍ، فــمن المُعاناةِ تولدُ أعظمُ الإبداعاتِ الأدبيةِ والفنيةِ والفكريةِ، كما علَّمتنا التجربةُ الإنسانيةُ . والكاتبةُ موراسكي، ذاقتْ مُرَّ اليُتم، فبمجرد ولادتِها، توفيتْ والدتُها، ثم أختُها الكبرى، فنشأتْ يتيمةَ الأمِّ . ولما بلغتْ سِنَّ المراهــقةِ، تــزوَّجتْ برجلٍ من طبقةِ النبلاءِ، لكنه توفي، فأصبحتْ أرملةً في عِـــزِّ شبابِها، وفي حِضْنِها طفلةٌ منه . وكان الحزنُ رفيقَها في هذه المرحلةِ الصعبةِ من حياتِها، وهي شابةٌ في ربيع العمر. ولم تجد حلا لعَنائِها وشَقائِها، إلا الكتابةَ، فهي البلسَمُ الذي ضَمَّدَ جرْحَها، ولقيتْ فيهِ شِفاءَها من عوادي الدَّهْر، وممارسةَ طقوسِ البوذيةِ، التي أراحتْ نفسَها، وطَمْأنتْ قــلْــبَها . فـاللجوءُ إلى الدين، بالنسبة للمعتقدين به، هو سَنَدٌ روحي في معركةِ الحياة . إلا أنَّ هناك عاملا آخرَ حفزها على الكتابةِ، وهو عنصرُ التَّحدِّي، عندما كانتْ، كامرأةٍ، تتعرض للسخريةِ إذا تحوَّلتْ من نَظْمِ الشعر إلى كتابةِ النثرِ . فالمرأةُ، في نظر الرجل، عاطفية، ينبغي أنْ تكتفي بجنس الشعر فقط!..ويقال إنَّ موراسكي كانتْ تزور، بين الفينة والأخرى (معبدَ إشيياماجي) فــتــراودُها أفكارٌ، لكنها لم تكنْ تستطيع تدوينَها . ويومًا ما، شاهدتِ القمرَ ينعكس على صفحةِ بحيرة (بيوا) فغمرها شُعورٌ حادٌّ، جَعلَها تــشرع في كتابةِ هذه الرواية!
وكانتِ العلاقةُ بين النساء والرجال، وما تعانيهِ المرأةُ من آلام الواقعِ، موضوعا أثــيرًا في كتاباتِها . غيرَ أنَّ إبداعاتِها الحكائيةَ، شكَّلتْ باعِثا لأمبراطور اليابان (أكيكو ناكاميا) بأنْ يتخذَها كاتبةً في بلاطِهِ، فاغـتـنمتْها فرصةً لتعميقِ قراءاتِها، وملاحظاتِها حول الطبقاتِ الاجتماعيةِ، سواء الرفيعة منها أو الوضيعة !
ويكاد يُجْمِع النقادُ والمنظرون والمؤرِّخون على أنَّ هذه الروايةَ «معجزة في تاريخ الأدب العالمي» وأنَّ لها تأثيرًا بالغًا في الأدب الياباني، بل في الثقافةِ اليابانيةِ، لأنَّ بطلَها المحوري الأمير (جينجي مونوجاتاري) كان شاعرا وراويا ومغنيا وراقصا ورساما (ما فرَّط في الفنون من شيءٍ) وكان مصطلحُ (ثقافة) في عصرِ (هيـيان) العاصمةِ، يُعَبَّر عنه بـ(الأناقة) أي أنَّ الإنسانَ الأنيقَ هو المثقفُ، ولو كان مشعوذًا أو مُحتالا!..وتـتجلى الأناقةُ (الثقافةُ) في جَمالِ الرجلِ، جمالِ المرأةِ، جمالِ الطبيعةِ، جمالِ الموسيقى والرسوم، الألبسةِ والأطعمةِ، البخور والعطور، حتى أشكال وألوان الألعاب، تعكس الواقعَ الثقافي (الرفيعَ القيمةِ) بما يعني أنَّ الروايةَ، بثرائها الإبداعي والثقافي ـ عَكْسَ الشعر ـ لم تؤثِّـرْ، كثيرا أو يسيرًا، في حاشيةِ الأمبراطور والسَّاموراي (نخبة الفرسان خادمي الطبقةَ الحاكمةَ) ولا في الكُتاب والفنانــيـن والتشكيليين الذين عرفهم ذلك العصرُ!
هذه (الثقافةُ الأنيقةُ) لا يهمُّها أنْ تكون رجلا نـبـيلا، أو عالما، أو فيلسوفا، أو سياسيا مُحَنَّكا، بقدر أنْ تبدو أنيقًا في كل شيءٍ، أي بالأسلوبِ والمظهر الجيدين، لا بالفكر والخلق والاستقامة والسلوك، وبالتالي، تتخذ (الإغراءَ) وسيلةً لتحقيق العلاقة الحميمية . وكان الفنُّ التشكيلي والشعر، من أجدى الوسائل لذلك الغرض، لكنْ، ينبغي أنْ تُــنْجَز في لوحاتٍ عابقةٍ بأريج الورد، وبخطوطٍ وألوانٍ وأشكالٍ جميلةٍ، وتُسَلَّم بأيدي أشخاصٍ أنيقين ورشيقين…!
إنَّ قصةَ الروايةِ تخوض في الحياة العاطفية لأميرٍ يُسمَّى(هيكارو جينجي) أي (منبع النور) لأنه كان جميلا ويقِظًا ونبيهًا ونشيطًا، يرتدي الزِّيَّ الأرجُواني (بين الأحمر والأزرق) لحد كانوا يطلقون عليه (الأمير الساطع) . لكنْ، في عصر هيـيان، ينبغي أنْ نفهم أسلوبَ الحياةِ وثقافتَها، فعندما تُثارُ (الحياةُ العاطفيةُ) لا نعني بها العلاقةَ بين عاشقين أو زوجين، أو أيةَ علاقةٍ شرعيةٍ أو قانونيةٍ أو عُرفيةٍ بين رجلٍ وامرأةٍ، كما الحال في عصرنا. في تلك الحقبةِ، كانتْ للرجل (زوجةٌ واحدةٌ) والعديدُ من الجواري، وللزوجةِ نفسِها عُشَّاقُها، ما أحدث بين الطبقةِ الحاكمةِ (اختلاطًا في الأنسابِ) وعَجَّل بتدهْــوُرِ الحُكْمِ . كما أنَّ قيمَ البوذيةِ، هي المتحكمةُ في الوعي والسلوك، وما زالتْ لحدِّ اليوم . فعلى سبيلِ المثال، نلحظ فكرةَ (القِصَاصِ السَّببي) قائمةً، فكلُّ ما تقترفه من أخطاءٍ، ستعود في الأخير إلى نفسك، ولو فعلتها في طفولتك، فإنَّك ستعاقب عليها في بلوغِـكَ ونُضْجِكَ . ولم يكُنْ يُسْمَحْ بالاختلاط بين الذكور والإناث بَتاتًا، والنساءُ يرتدين طبقاتٍ من الأزياء الطويلةِ المُلونةِ والمُزركشةِ، كيلا يظهرَ أيُّ شيءٍ من أجسادهِـنَّ، ويقضين يومهنَّ في الغرفِ، ذاتِ النوافذِ المُشَبَّكةِ، أو في الحدائق المسيَّجةِ، لا يتعلَّمن ولا يَخُضْن في شؤون السياسةِ، ولا ينظِمن إلا الشعرَ الرومانسي باللهجةِ اليابانيةِ، ولا يُجالسن أو يظهرن حتى لأقاربهنَّ من الذكور . وهذا سيوحي لك بأنَّ اليابانَ، في ذلك العهد، كان مجتمعا محافظا، لكنْ بقراءتك المتمعنة للروايةِ، ستغـير رأيك، مائةً وثمانين درجةً، كأنَّها كُتِبَتْ لِتُعَرِّي وتفضَح سلوكَ النفاقِ والرياءِ اللذين ينخران المجتمعَ، أو لتُظْهِر الوجهَ الآخرَ للنظام السائدِ آنئذٍ . وهي طبيعةُ كل المجتمعاتِ المحافظةِ والمتزمِّتةِ، تجدها تمارسُ سلوكاتٍ الاستقامةِ واللباقةِ في العَـلَـنِ، وعكسَها الانحرافَ في الخفاءِ !
في هذه البيئةِ، سيفتح جينجي عينيه، الأمير الثاني للأمبراطور (كيريتسوبو) وستــتوفى والدتُهُ، إثْـرَ إصابتِها بالاكتئاب، لتتركَهُ في سِنٍّ لا تـتجاوز ثلاثَ سنواتٍ . وما أنْ يبلغَ من العمرِ الثانيةَ عشرةَ عاما، حتَّى يتزوجَ فتاةً بملامح أمِّهِ، بعد أنْ أقام علاقةً عاطفيةً مع زوجةِ أبيهِ (فوجيتسوبو) التي تشبه أمَّهُ، وهو دون تلك السِّنِّ، كأنها كانتْ تمرِّنه على ممارسة الجنس، ووالده يدرِّبُهُ على مزاولة الحُكم . ثم لمَّا بلغَ سِنَّ الرشدِ، اتخذ له في السِّرِّ عشيقاتٍ من عامَّةِ شعبِهِ وتمادى في مغامراته الغرامية، إلى أنْ أنجب طفلا من زوجةِ والده . كما سيصبحان معا مشتركين في فـتاةٍ، تبنَّاها الأبُ، منذ طفولتِها، فنشأتْ معه، حتى غدتْ بمثابةِ أختٍ للأمير. فالاثنان، الأب والابن، يتشاطران الخطيئةَ، بل إنَّ الوالدَ شَكَّ في أنْ يكونَ جينجي من صُلْبِهِ، أي ابنًا غيرَ شرعيٍّ . ومِمَّا زَكَّى هذا الشَّكَّ، نصيحةُ مستشارٍ له بأنَّ جينجي إذا تولَّى العرشَ، فستنهار السلالةُ الحاكمةُ . فأخرجه من القصر، وحَرَمَهُ من حَقِّهِ في العرش، وخَـفَّض رُتْبتَهُ إلى عامَّةِ الناسِ . وستمتد هذه القصةُ ـ بعد معاناة جينجي ووفاته ـ إلى سبعين أميرا من سلالةِ جينجي، لتتكرَّر غرامياتهم بهذا الشكل أو بآخرَ!
سيلحظ القارئُ أنَّ الحياةَ الأرستقراطيةَ، لــم تكنْ تُقيمُ وزْنًا للقيم الأخلاقيةِ والاجتماعيةِ، وإنْ كانتْ تبدو في الظاهرِ، تعظمُ معتقداتِها الدينيةَ والاجتماعيةَ، حتى إنَّ العديدَ من الأباطرةِ كانوا غيرَ متأكدين من آبائهم الحقيقيين. لأنَّ المجتمعَ الياباني ـ كما ذكرنا آنفا ـ يعتمد ثقافةَ (المظهرِ الأنيقِ) ويرجعُ هذا المبدأُ إلى البوذيةِ، التي تؤمن بتجديد الحياة، كأنْ تكتب بخط جميل، وتنظِمَ شعرا رومانسيا، وترتدي زِيًّا فاخرا…فكلُّ ذلك يُؤّشِّر على الفضيلةِ والخلقِ، وطيبةِ النفسِ . أمَّا أنْ تُغْوِي زوجةَ آخــرَ، فــهــذا شــيءٌ عــاديٌّ، لا تُــحاسَــــبُ عليه، لأنَّها لو لم تكُنْ جميلةً، لَمَا هِمْتَ في حُبِّها، ولا هَـمَّتْ بك (طبعًا، لا أقصدُك أنت، أيُّها القارئُ) !
كلُّ ذلك عكسته الروايةُ في تقديمِها للأمير جينجي، إذ نرى الرجالَ يتمنون لو كان (امرأةً) لشخصيته الجذابةِ، التي تـتـسمُ بكلِّ (السِّماتِ الثقافيةِ) من وجهٍ قمريٍّ، وبشرةٍ ناعمةٍ، ورائحةٍ طيبةٍ، ومظهرٍ جيدٍ، قلَّما يتميز به رجلٌ آخرُ، فضْلا عن إتــقانِهِ للرقص والغِناءِ، ونَظْم الشعر، والغنج والدَّلال، اللذين يزيدان من حُسنِهِ…!
بين ثنايا الرواية، ستُدرك كيف تُحاكُ المؤامراتُ، وتُنسَج الدسائسُ، بين النساء والوزراء والسياسيين، وخبايا القصر الأمبراطوري، وتقلبات الأمزجة، واضطراب المواقف، والصعود والنزول للشخصيات السياسية، ومنها الأمير جينجي . وما ترفل فيه هذه الشخصياتُ من تــرفٍ وبــذْخٍ وبُحْبوحةِ عيشٍ، سواء ما تملكه من ثيابٍ مهيِّجةٍ للشهواتِ، فالملابس «تتراكم وتعلو كسلسلةِ جبالٍ، تُرسَل عليها الشعورُ الطويلةُ الناعمةُ، مثلَ أنهارٍ متعرِّجةٍ» أو ما تأويهِ من مبانٍ فخمةٍ، كالقصور والمعابد المزخرفة أبوابُها ونوافذُها وسُقوفُها، التي تشاركُها فيها الأرواح والأشباح، فــتُــسْعِــد من ترضى عنه، وتُشْقي من تسخط وتغضب عليه . ومازال الكثير من اليابانيين يظنون أن الأرواحَ تسكن العالمَ، ويستدلون على ذلك بأنَّ كلَّ الأمراضِ والأوبئةِ التي تُصيبُهم، تُسَلَّطُها عليهم، عندما يكونون «أكثرَ عرضة لتأثيراتِ الشرِّ، فيما مقاومتُهم الروحية لها ضعيفة» هذه المقاومةُ الروحيةُ، التي «يستمدونها من البوذية . فمثلا «يتعرض جينجي لداء الملاريا، فيضطر ليستشيرَ راهبا بوذيا، ما إذا كان بإمكانِهِ أنْ يُعالِجَهُ» لأنه يعتقد أنَّ البوذيةَ تصُدُّ عن الإنسانِ أيَّ شيءٍ سَيِّئٍ . كما يُطبِّق المعتقداتِ الخرافيةَ في سلوكاتِهِ، مثلَ قصِّ الأظافِرِ والشعر في أيامٍ مُعَيَّنةٍ، كيلا يُمَسَّ بسوءٍ ..إلى غير ذلك من الطقوسِ الخرافية، التي تبسُطها الروايةُ بتفصيلٍ!..وتلحظ فيها، كذلك، التقسيمَ الجنسانيَّ، بين الرجال والنساء، فمن حقِّ الذكور أن يتعلموا ويدرسوا ويكتبوا باللغة الصينية، الراقية حينئذٍ، خِلافًا للنساءِ، اللواتي يُفرَض عليهن المكوثُ في الغرف، ويكتفين بارتداءِ الملابس الملونة لجذبِ نظر الرجالِ، والتواصل معهم بواسطةِ القصائدِ الشعريةِ، بل كنَّ محروماتٍ حتى من التسميةِ الحقيقيةِ، فيُلَقَّبْنَ بشيء ما، مثل «الحوض النقي» و»وجه السماء» و»القمر البهي»…وفي النهايةِ، نستطيع أنْ نقارنَ عالمَ جينجي بعالم (جين أوستن) الصغير في روايتها «كبرياء وهوى» ذلك العالم الذي يركز على طبقةٍ عليا، نرى فيها أخلاقًا وسلوكاتٍ تسمو بالناس إلى أعلى المراتبِ أو تحُطُّ بهم إلى أسفَلِها..عالم يختلف تماما عن عالم الطبقاتِ الاجتماعيةِ الأخرى، التي تتقاسمُ مبادئ إنسانيةً، وقيمًا عُليا، تُلْحِم بعضَها ببعضٍ!


الكاتب : العربي بنجلون

  

بتاريخ : 27/04/2021