حكاية شجرة

صدر عن «دار التوحيدي»، نص روائي للأستاذ عبد السلام بوطيب تحت عنوان « الشجرة الهلامية» رصد من خلاله تجربة خاصة عاشها رفقة زوجته في إقامة إجبارية بباريس ، بعد أن أغلقت الحدود في وجه آلاف المواطنات والمواطنين المغاربة بقرار حكومي . قرار كان في قسوته شديد التأثير على كل من قادته الظروف أن يكون خارج الوطن لحظة انتشار الوباء وما رافقه من إجراءات احترازية واضطراب في اتخاذ القرارات .

 

 

«الشجرة الهلامية» أو مائة يوم من الحجر الصحي، رحلة حوار متواصل مع الذات، لحظة تأمل عميقة فسحت المجال لاستعادة أقوى المحطات في تجربة حياتية متعددة المسارات، وقائع ومواقف، تأملات وهواجس أحلام، تاريخ خاص متشعب العلاقات في واقع عام لم تتضح كل معالم تحولات مساراته. فسحة تجل لأقصى درجات العزلة، بوح كاشف وسرد باذخ يعرض وقائع فترات من تجربة حياتية وما علق بها من تداعيات وشوائب كان لها الأثر البالغ سلبا وإيجابا على ما اتخذه من مواقف وما مارسه كقناعة في السياسة والحياة.
رحلة عبد السلام إلى فرنسا كان القصد منها حضور حفل مراسيم تسليم شهادة الاستحقاق لأصغر بناته، بمناسبة نهاية مسارها الدراسي وتخرجها كمهندسة من أحد المعاهد بمدينة ليون. كل شيء كان يدعو للابتهاج رغم التوجس من بعض مظاهر الاختلاف التي عاينها منذ صعود الطائرة التي نقلته من مطار سايس. كانت الفرحة عارمة بتحقق حلمه في أن يرى ابنته كما تمناها أن تكون، لم تختلف عن أختها في كثير من الخصال، المثابرة والاجتهاد فضلا عن الاستقامة والسلوك القويم. في لحظة انشراح قرر أن يمدد إقامته بفرنسا ويرافق ابنته البكر إلى حيث تقيم في باريس. بينما دفع التوجس من حدوث طارئ البنت الصغرى للإصرار على أن ترحل إلى المغرب.
كانت خيبة الآمل الأولى إلغاء مراسيم الاحتفال بنجاح صغيرته، وحصولها على شهادة تأهيلية في مجال الهندسة، ثم سيقع ما لم يكن في الحسبان، إغلاق الحدود والإقامة الجبرية في مدينة شاسعة الأطراف كباريس. اكترى شقة لإقامة عابرة بعد أن يئس من إيجاد نصف فرصة للرجوع إلى بلده. أصبحت الأجواء في مدينة الأنوار جد مقلقة، إذ شددت السلطات من الإجراءات الاحترازية وفرضت حظرا على التنقل تحت طائلة الاعتقال. بعد أن استوعب عبد السلام ما جرى، استعاد قدرته على مغالبة المستجدات وتجاوز كل ما يحد من طاقته في إيجاد المخارج لما عرفته تجربته الحياتية من أزمات. كانت فرصته في أن يقف وجها لوجه أمام ذاته يسبر أغوار أيامه، يستقرئ ما اختزنته ذاكرته وما ظل يبحث فيه كتجليات لتجربة متعددة المشارب وعميقة الأغوار. أصبح للأشياء معنى وكل حركة تفتح آفاق تخرجه من عزلته وتدنيه من حقيقة ما أصبح فيه. يحكي عن لحظة التحول في استيعاب ما جرى وكيف اهتدى إلى مغالبة الأشجان.
«صبيحة اليوم السادس من الحجر الباريسي، استيقظت – وعلى غير عادتي- بإحساس غريب يغريني بالتوجه نحو النافذة المطلة على زنقة دارو، وكأن قوة ما تجذبني إليها وتدعوني إلى فتحها، ففتحتها وإذا بي وجها لوجه أمام شجرة سامقة أبهرتني بشموخها وقوة جاذبيتها وجلال حضورها الهادئ. تمعنت فيها طويلا وفي أغصانها وأوراقها الخضراء المشرئبة إلى السماء، وتابعت بغير قليل من السعادة والحبور تمايلها المتناغم مع هبات النسيم القادم من ناحية قوس النصر، فاعتدل مزاجي وانتعشت روحي بهذا المشهد الأخاذ الذي هز مشاعري وحملني نحو عالم آخر غير عالمي، ثم أدخلني في زمن آخر غير زمني، فانسجمت مع الشجرة حتى خلت أنني على علاقة معها منذ الأزل. وبعد حين جاءني صوتها خفيفا متموجا يشبه الأثير:
صباح الخير سيدي، طاب نهارك، يسعدني ان أرحب بك في مدينة الجن والملائكة: باريس « ص 25
لحظة انبهار ستقود عبد السلام إلى عالم افتراضي، يتخذ فيه شجرة باسقة تشعل فضاء يقع على مشارف شقة إقامته المؤقتة، رفيقة درب وحاضنة بوح، يبثها أشجانه ولواعج روحه ، تحاوره بما يستقيم وهواه وتتفتح أسارير وجده، تدله على مكامن قوته وتكشف عن مزالق ضعفه. شجرة مثقلة بتفاصيل الأسرار وحاضنة لكل خبايا المعارف في مختلف المجالات، وجد في رفقتها ضالته للحديث عن ما يسكن زوايا ماضيه وما يشغل تفكيره من قضايا الوطن وحدود الوطنية في سعيه لتغيير معالم التدبير السياسي والثقافي منذ شب على صد كل دواعي الاستبداد ، يبسط في حضرتها بانسياب كيف تجاوز الفكر الهلامي الذي يدعو للانشطار ويسعى لتأسيس خصوصية تقوم على نقاء العرق وصفاء السلالة ، كيف أصبح لا يطيق كل ادعاء لشجرة هلامية تمجد التاريخ الخاص لجزء من وطن شاسع متعدد الاعراق، وكيف صد كل ادعاء مزعج في أن رحاب الوطن تحكم تفاصيل عزته لحظة في تاريخه أنجبت أبطالا ردوا غزاة تطاولوا على كنوز مجدهم واستباحوا حرمة ديارهم . ما كانت الشجرة لتتركه يهيم في ما يراه هما وطنيا، قد تكون له تداعيات على وحدة مصير الأرض والإنسان، أثارت ما كان يعتمل بداخله كعاشق للحياة ، تستدرجه في كل لقاء لمساحات البهجة الكامنة في أعماقه ، يستعيد قصائد لفه عشقها وحكايات ألهمته ووسعت مدارك معارفه . حواراتهما استطابت لحظاتها، فأنسته معاناة الحصار والحجر الذي حد من فعاليته وأبعده عن محيطه الخاص، حيث تتسع دائرة إشعاعه ومساحة تأثيره. صار الحديث بينهما مدخلا لعوالم تعيده إلى مجاهل أيامه إلى حدود ما اقترفه في صباه، تدنيه من تفاصيل أسرار الشجرة الهلامية التي شب تحت ظلالها وظل يرفض دواعي استمرار هيبتها.
انتهى الحجر وبقيت دواعيه قائمة، عاد عبد السلام بوطيب إلى وطنه وعانق وسادته كما كان يشتاق، ليروي ما انتابه من لواعج وأشجان، غربة قسرية صارت حكاية رواها في 460 صفحة، تكشف تفاصيل ما عاناه مواطنون أصرت حكومتهم أن يظلوا حيث فاجأتهم قرارات كانت أكثر إيلاما من الوباء.

 

 


الكاتب : أحمد حبشي

  

بتاريخ : 05/07/2022