حكاية لوحة: التراث والهوية في لوحة الفنانة التشكيلية أمينة الشرايبي

هي مبدعة مغربية مثقفة، ربة بيت من أصول متجذرة، اجتماعية بطبعها، لا تحب العزلة ولا تعتبر مجالها الفني مجرد هواية وتسلية، بل بالنسبة لها حظوة وأداة للتواصل والتعبير بدون قيود، لازمها منذ أن كانت طفلة.إنها الفنانة التشكيلية أمينة الشرايبي التي تشتغل على مواضيع متنوعة ومحددة، ولا ترسم إلا إذا انتابتها حالة انتشاء. من عادتها الانتباه إلى أدق التفاصيل، والا هتمام بالجزئيات فهي تبحث بذلك دوما عن الكمال، ولكن كما قال ميكالونج»Michael Ange»الإبداع الفني لا ينتهي أبدا.

 

في رصيد هذه الفنانة، العديد من المعارض سواء داخل المغرب أو خارجه، كانت فرصة للجمهور أن يتعرف على أسلوبها الذي يعتمد على الاقتصاد في اللون، واستغلال المساحات بطريقة هندسية، يأخذ الضوء فيها حيزا مهما إلى جانب الظل، مما يخلق حيوية تفور من تحت ضربات فرشاة تترك لمسة خاصة ، تعتبر بمثابة توقيع يميز  هذه الفنانة العصامية التي تعتز بهويتها وتفتخر بانتمائها لمدينة فاس العريقة ، وذلك ما يفسر شعورها بالحنين إلى الفن المغربي الإسلامي  واهتمامها بالصناعة التقليدية ، وينعكس ذلك على أعمالها الواقعية المستوحاة عناصرها من الزليج والفخار والأواني، وفن الزخارف، المنجزة خصوصا  في فترة سابقة من مسارها الفني، وذلك قبل الانتقال في السنوات الأخيرة إلى تجربة التجريد وتقنية المزج التي تصنع الفرق بنهجها الخاص، الفطري والفتي ولمسات تترك آثارا تنضح بالمشاعر، مشبعة بتدرجات لونية حسية تعكس قوة التمكن التقني لدى مبدعة تسافر بجمهورها إلى عوالم غير مألوفة، لا يلفها الغموض طبعا لكن لا تتأتى قراءتها واستكشافها في نظر بعض النقاد إلا بنوع من التأني والتأمل والمجاهدة أثناء الملاحظة والتمحيص،على خلاف هذه اللوحة التي جاءت غير مبهمة  لتكتمل بخطاب مباشر، وبواجهتين إحداهما لامرئية، ترسم في المخيلة ، فتبقى عالقة في الأذهان وأما الثانية فآنية متعلقة بالزمن والمكان تسيطر على المتلقي وتستفزه وتغريه بالمشاهدة وتجعله يشعر بالمتعة وهو يمعن النظر في جرة وقدح ، تم تجسيدهما بأسلوب واقعي في هذه اللوحة ليشكلا المحور الرئيس، وسط فضاء غامق بفعل ضوء خافت وغير مشع ، يحيطه بهالة ويضفي عليه نوعا من السكون والحميمية حرصت الفنانة على تقديمه بهذه الطريقة لتمنح صبغة تاريخية للصورة، وتنفض الغبار عن جزء من موروث قديم أخرجته من قعر الماضي، ترسخ في مخيلتها منذ الصغر من خلال رؤيتها لما تزخر به فاس القديمة من مآثرموغلة في التاريخ، أخذت منها متانتها وسمكها، وخاصة ذلك التوازن والتناسق بين العناصر، ولذلك يلاحظ أن هذه اللوحة جاءت ثقيلة بفعل طبقات لونية متماسكة لتبدو للعيان مسطحة، تعطي الإحساس بالإستمرارية، وتوحي بعدم الانقراض وأن كل ما يرتبط بالصناعة اليدوية بقي صامدا أمام توالي الأزمنة و تعاقب الحقب، ولم يفقد شيئا من بهائه وثقله الحضاري، سيما  قيمته المادية المشار إليها بواسطة أصفر ذهبي يذكر بالمعدن النفيس، قد تم تشكيله وتثبيته بواقعية تنخدع بها العين بفعل استخراج تصويري دقيق، وأسلوب  يتسم بعدم التحايل، قوامه الحفاظ على اللون الأصلي وخاصيته الطبيعية الملتصقة  بالطين،يتحاشى التصنع ويجانبه، لكنه لا ينأى عن المحاكاة والمقاربة ، ينفذ إلى عمق الأشياء لإخراجها من العتمة ويحيطها بتراكيب خطوطية مستقاة من زخرفة إسلامية وصلتنا من قلب الأندلس، تستمد لونها الأسود الطبيعي من خامة القار (le bitume)، وتتقمص أشكالا هندسية مترابطة ودوائر متناسقة في ما بينها بانتظام ، قامت المبدعة بتمثيلها في إطار فني بديع ، مقتفية في ذلك آثار الصانع التقليدي ، لكن بلمسة شاعرية، فيها شيء من  النوستالجيا عملت على التعامل معها برفق وتركيز عال لتفادي ضربات الفرشاة العنيفة حتى لا تترك خدوشات ونتوءات على الوعاءين، فيبدوان وكأنهما لا يحتفظان بمنظرهما وهما داخل جرن، عبارة عن رف مستطيل في جوف جدار فقد بريقه بفعل التقادم والرطوبة، يشكل خلفية صفراء داكنة تلقي بنا إلى الزمن الغابر وتحيل إلى تلك السنين المتتالية التي وإن كانت قد فعلت فعلتها في الفضاء وأخذت كثيرا من مقوماته اللونية الأصلية، فإنها لم تأخذ معه هذا الميراث الحضاري الجميل، المتواجد بقوة بيننا والذي لا يزال قائما بذاته ولم يندثر  بفعل العصرنة بعد . يرمز إلى ذلك ظل يظهر واضحا للعيان بحجم مصدره ، يشكل عنصرا مهما إلى جانب العناصر الأخرى.»فلا وجود لمن لا ظل له.» كما يقول أحد الفلاسفة.
كل ما نراه في اللوحة إذن  يخضع لمقاييس فنية محددة تفرضها الأشكال الهندسية المضبوطة بالمساحة الضوئية داخل المكان، ورمزية العدد ثلاثة الذي تم تكوينه من الجرة وظلها والقدح ليجسد فكرة ثالوث، يعتبر أساس العديد من التعاليم الدينية والفلسفية المتعلقة بالولادة والحياة والموت، ومرتبطة بالماضي والحاضر والمستقبل أيضا، مما يمنح العمل صبغة ثقافية وميتافيزيقية إلى جانب قيمة جمالية، ترتكز على تصميم هندسي لا يخلو من انطباعية لكي لا تبدو الصورة جرداء وميتة، تشبه مجسما ثابتا في مكانه، أو تلك اللوحة التي تخلق الدهشة والانبهار بواقعيتها المفرطة في زمن محدود، ولذلك تتخذ شكلا عموديا، وهذا النوع من الشكل غالبا ما يكون متبعا في الفن الفوتوغرافي الذي يهتم بالتركيز على المظهر أكثر من العمق، قد تم توظيفه هنا لبعديه التوثيقي والتاريخي. فالصورة وإن كانت مثبتة في المكان، فإنها تمتد في الزمان لتكون صلة وصل بين الماضي والحاضر، تمكن من إعادة الاعتبار للذاكرة والحفاظ عليها عبر  صياغة جمالية تعزز قيمة التراث في النفوس. وتميط اللثام عن جوانب مشرقة تستحق  التعظيم  والتقدير وكذلك التخليد ، يستلهم  منها المبدعون من الأجيال الحالية والقادمة تيماتهم تحت شعار «حفاظ على التراث، حفاظ على الهوية واستشراق للمستقبل «.
يحضر هذا الجزء من ذاك التراث بقوة في هذا العمل بالذات لإثبات تلك الهوية التي تنتمي إليها المبدعة وتأكيد الذات والتخلي عن ثوب التقليد والدوس عليه، وما تقديمه بهذه التوليفة إلا للتعبير عن اعتزازها بتاريخ الوطن ومنافسة  القرين الغربي وتجاوزه، ولذلك تجدها تستحضر العناصر التراثية الحقيقية،غير المزيفة لتؤثث هذا الفضاء  بعد أن قامت بإعادة ترتيبها برؤية بصرية مغايرة وكأنها تقوم بترميمها وتجديدها في قالب يساير العصر، يمتح ويستقي من الخلفية التاريخية وما تزخر به من فنون دون المساس بأصالتها ومقوماتها الحضارية، سيما وأنها اعتمدت على إحساسها وتجربتها الفنية، وموهبتها الفذة وهي تشتغل على هذه التيمة من خلال قماشة تدخل ضمن أعمالها السابقة التي عرفت بالتشخيص القريبة جدا من الواقعية المفرطة، قبل أن تنزاح في الآونة الأخيرة  إلى التعبيرية التجريدية  لتبوح  بأفكارها ونظرتها للأشياء ، وتعرض فلسفتها في الحياة بكل ما تحمله من معنى، بجرأة، وبدون أي تحفظ، تحتضنها لوحات لا تخطر على بال، ستأتي بلا أسماء من بعد، تعج بالمعاني، حافلة بالإشارات اللونية، ومفعمة برسومات تتشكل على إيقاع الشعر وأوزانه تصل إلى وجدان المتلقي، فيتلقفها عبر شعوره ويتواصل معها بواسطة نبضات قلبه.


الكاتب : عبد السلام صديقي

  

بتاريخ : 08/10/2020