حكاية لوحة : المرأة/ الشمعة ، عمل فني للتشكيلية المغربية نادية غسال

 

بلوحتها السريالية هاته التي تطرح أكثر من تساؤل ، تكون الفنانة التشكيلية المغربية نادية غسال قد فتحت بابا فلسفيا إبداعيا على مصراعيه للانفعال و التفاعل مع صورة بكل تجلياتها السيميائية وهي تفشي أسرارها ، و تسرد قصة ، انكتبت بلغة لونية سلسة ، أساسها الأكريليك ، تجسدت على القماش ، فيها رهبة الصمت ، وألم الاحتراق ، بطلتها أمرأة تاخذ صورة شمعة ، وهذا التحول من صورة إلى أخرى جاء بفعل تجربة توليدية لعناصر جعلت من هذه القماشة أيقونة بطعم المعاناة و الهجس و الهوس ، سيما وأن الفنانة عملت على نقل تجربتها بأسلوب عصري ، ينم عن هضم كبير للفن المعاصر ، و لغة بصرية تتناول تيمة المرأة في عالم ذكوري قاس لايعترف بالجميل ، ينظر بازدراء إلى أنوثتها ويعتبرها كهشاشة الشمعة التي تذوب بسرعة ، غير مبال بتضحيتها. فالمرأة كما تراها غسال ليست كذلك ، إنها رمز للتضحية فهي تحترق فعلا ، ولكن لتضيء على الآخرين.وانطلاقا من هذه المقارنة ، تعمقت في مفهوم الازدواجية ، إذ ترى بأن المرأة قوية بجوانبها المتناقضة التي تتميز بها ، مما ألهمها أسلوبا يعتمد على تقنية المزج ، من خلاله تعبر عن هذه الأشياء وتجسدها في صورة غير واقعية ، يطبعها عمقًا فلسفيًا يرتكز على بُعد تأملي يوحي بالمزاج الذي ينعكس جراء المزج اللوني بين ماهو قاتم ومشع ، ممأ يؤدي مفعوله البصري ويترك لمسة جذابة تبصم على لوحة تستمد جماليتها من عينين كبيرتين ، ترى بهما أوسعا ، وفم بشفتين منتفختين كتوم ، لايبوح بالأسرار ، وجيد يبدو أطول من اللازم ، يعبر عن التطلع ، ووجنتين ناضرتين ، تأتي هذه العناصر كلها لبعدها الجمالي، و لترسخ أنوثة المرأة ، و تصنع الهوية وتحفز المرأة على الاعتزاز بنفسها كنرجس في الأسطورة الإغريقية ، وتضفي شيئا من الواقعية على امرأة تبدو في الصورة شمعة بالقوة والفعل ، تنير بيتها وتبعث على الامل وحب الحياة.إنها تمثل السخاء الأبدي والعطاء ، فهي تضحي بكل شيء جميل من أجل إسعاد محيطها ، وتمنح الأنس ، و تتحمل قسوة وخشونة الجنس الآخر الذي يبدو في الصورة كشكل شعلة قوية تنخر بدون هوادة جسدها وبطريقة تدريجية ، ابتداء من رأسها ، غير آبه بما يحمله من أفكار سامية غير مرئية ، بدونها تفقد الحياة نكهتها.
فجماليات الحياة ، كما يعتقد بول ويليس ، المفكر التربوي الأنجليزي ، هي جماليات غير مرئية ، لكن يتجاهلها المجتمع بشكل مقصود ومتعمّد ، تشير إليه السيدة غسال اعتمادا على توظيفها لظاهرة بصرية ضوئية ، تسلط شيئا من الضوء المستوحى من هالة القمر على الجزئ الأعلى من الخلفية ، يبدو وكانه يخترق كتلة حمراء أخذت حيزا مهما على القماش ، تذكر بالنار التي لم تترك إلا شيئا من رماد بلون غامق ، يدل على الاحتراق ، جاء متوغلا في سواد بقي قويا يبعث على الوحشة ، و يصنع شكلا منظورا ليس فيه غموض ، باد بصورتين للعيان ، تتطابقان لتعطيا صورة واحدة فيها ذلك الإحساس الذي يساعد على تقدير عمقين.عمق رسم بصباغة مائية ، وعمق مبدعة تحب كينونتها الأنثوية الخصبة ، وحريصة عن المنافحة والدفاع عنها من خلال أعمال ، تأتي غالبا بصيغة المؤنث ، تقدم فيها المرأة نموذجا لزرع المحبة ، ونثر الأشياء الجميلة حول بيئتها ومحيطها. إنها المرأة/ الشمعة ذات الإحساس الرهيف التي تبكي فرحا بإسعاد الآخرين ، إنها ملهمة الشعراء ، أو بالأحرى هي فينوس ، الإلهة التي تمثل الجمال والحب في الأساطير الرومانية ، و لا تشبه في شيء تلك المرأة التى اعتبرها “الصينيون القدامى مياها مؤلمة ، تغسل السعادة والمال.”
وتبقى هذه التجربة الفنية التي قدمتها غسال في إحدى الاروقة ، رؤية متجددة أخرى عن واقع الممارسة التشكيلية خاصة وأنها سعت أن تخلق إطارا تشكيليًا تجاوز فيه بين مشروعها الإبداعي الهادف وفكرها الحالم بواقع طوباوي يحترم المرأة ويعطيها حقها في الحياة ، عبرت عنه عبر ألوان و ملامح أنثوية لايشوبها الغموض ، تبرز نهجها الشخصي الذي يتسم بلمسة سريالية فيها اقتباس من الواقع ، وبحث واجتهاد ، تتجاوز النظرة النمطية للمرأة كجنس لطيف.
نشعر بالحزن ونحن ننظر إلى هذا الجسد الرهيف الذي يأخذ نعومته من شمع يبدو وكانه يتهاوى رويدا رويدا على شكل قطرات تذكر بالدموع ، ونشعر كذلك بالإحراج ، سيما وانه يبدو وكأنه يعاتبنا بنظرته القاسية ، ولا يبتسم لنا ، ويحتج بالامتناع عن الكلام ، يدل عن ذلك الفم الموصد.وفي لحظة التمعن تلك ، نستحضر نضال غسال وكفاحها من اجل الحياة ، و الانطلاق ، خاصة بعد أزمة نفسية ألمت بها ، ولذلك و جدت التنفيس في الرسم ، وعرض أعمالها للعلن ، مما أتاح لها فرصة تاسيس أول ثنائي تشكيلي مغربي مع زميلتها الفنانة أمال الفلاح التي تقاسمها نفس الهم . وقد تم عرض أعمال مشتركة بينهما في معرض بالدار البيضاء تحت اسم همسة وصل ، وقد حظي باهتمام كبير من طرف النقاد والمهتمين الذين اعتبروا ذلك تجربة فريدة و متجددة في المغرب آنذاك.
رأت هذه المبدعة العصامية النور في مدينة خريبكة ، ودرست فيها إلى أن غادرتها بعد الباكالوريا نحو وجهة أخرى ، وبعد مسار دراسي ناجح ، هي الآن مستقرة بالمحمدية ، حيث توفق بين وظيفتها واهتمامها بفنها ، وقد فرضت اسمها كفنانة تشكيلية ماهرة ، تتحدث باسم المراة المغربية ، وتدافع عن قضاياها من خلال أعمال غالبا ما تأتي عن طريق المزج و مشحونة بالتوهج والحركة ، فيها شيء من انطباعية الرسام الفرنسي إدغار ديغا (Edgars Degas) ، إلا أن هذه القماشة جاءت مختلفة عن أخواتها التي طالما بدت فيها المرأة حالمة ومزهوة وراقصة ونابضة بالحياة ، ففي هذه اللوحة بالذات لم تعد كذلك بل أضحت حزينة ومتألمة جراء خيبة الأمل وفكر ميؤوس منه ، وكأن بالفنانة تعيد قصة امراة الفنان السوريالي بيكاسو الباكية ، ولكن بطريقة مغايرة من خلال تناص بصري مثير ، يطبع القماشة بصبغة تراجيدية تجعل المتلقي يشعر بألم الاحتراق ذاك وهو ينظر بطريقة عمودية إلى هذه المرأة الثابتة في مكانها ، ثبوت أفكارها النيرة التي يحيل إليها أصفر متوهج ، يكتسح نوره سوادا حاضرا بكثافة ، يمثل الظلامية ، ينبثق من رأسها الذي يبدو مرفوعا غير متهاو وغير منحن ، لا تطبعه أي انكسارية للدلالة على السمو.
هذه اللوحة تعطينا الانطباع بأن كل شيء في المرأة رائع وأصيل ، تضحيتها ، رأسها المرفوع ، نظرتها نحو الأفق وطول جيدها .قد نكتشف ربما ، و بالإضافة إلى ذلك و من خلالها سرا يشدنا كالمهووسين بهذا البياض القوي ، المائل إلى الرمادي الذي يعطي حجما معتبرا لشكل أخاذ ، يسيطر على الحواس بهامته واستقامته ، وثابت في مكانه كعلامة للتذكير بالتضحية ، يمثل شمعة تم تقديمها في الواجهة لتفرض وجودها بعمقها وليس فقط بنور ، يبقى يعزف بعذوبة ونعومة إلى الأبد ، لحن الحياة الذي يبعث على ألأمل ، دون اكتراث بمصيرها الحتمي المرتبط بسنة الحياة.


الكاتب : عبدالسلام الصديقي

  

بتاريخ : 10/07/2024