أمامنا امرأة تبكي وينهمر دمع يرسم نوتات موسيقية على وجنتها ، مما يعكس مزاج الفنانة التشكيلية المغربية بديعة بنشقرون في لحظة إبداع ، وتكرس نظرتها لهذه الدنيا التي أصبحت تراها بعين واحدة بعد رحيل رفيق حياتها من هذا العالم ، سيما و أنها بعد تلك الصدمة أصبحت نظرتها عميقة ، فلا تبصر إلا من سكن قلبها وروحها.
اعتمدت في هذه اللوحة على وجه المرأة في جماليته وما يمنحه من إمكانيات تعبيرية متدفقة وبليغة دون انزلاق أو توظيفه كعنصر أنثوي من أجل الإثارة فقط ، وقد عملت على استعمال لون مشرق، يعاند صفرة الشمس، يثير مشاعر الأمل، ويبعث على دفئ تحتاجه المرأة كلما شعرت بقساوة الوحدة، سيما وأن الأصفر يطبع الحزن بالجمال أحيانا ، فالمرأة المرسومة تبقى نموذجا للأنوثة النضرة ، إذ تجمع بين جمال المظهرالذي أظهرته الفنانة بتسليط الضوء على قسمات وجهها المتناظر،وجمال الجوهر المتمثل في تعلقها بالحياة من أجل غيرها.
فبديعة بنشقرون تجعلنا أقرب إلى المرأة العصرية من خلال سبر أغوارها النفسية و السيكولوجية التي عبرت عنها في هذه اللوحة بالاشتغال على اللون الواحد الذي يضفي نوعا من السكون المضطرب و الصمت الناطق على الأجواء ، مما يخلق تناغما بين الصورة وعمقها، يعكس روح مبدعة شاعرة بالفطرة قبل أن تكون فنانة تشكيلية.
دخلت هذا المجال من بابه الواسع بعد أن صقلت موهبتها بفضل احتكاكها بفنانين محترفين ، أشرفوا على تكوينها و إعدادها لتنتقل من النسخ والتقليد إلى الخلق والابتكار، وذلك بعدما اكتسبت من المهارات التي جعلتها تتجرأ لرسم هواجس وأفكار من خلال ملامح وجه أنثوي محاط بهالة من الرهبة ، والغموض ، يوحي بعالم الفنانة الأسطوري، تم صياغة تفاصيله من تدرجات اللون الواحد على طريقة تجعل المتلقي يتفاعل معه وكأنه بورتريها ذاتيا.
فالوجه هو مرآة الشخصية ، ولذلك ركزت على التفاصيل الدقيقة في ملامحه كي تنجح في سرد قصة هذه المرأة ، وذلك بواسطة ضربات فرشاة رهيفة، تجعل الألوان الصاخبة المستعملة تلمع لتسليط الضوء عليها وإبراز قوتها وجمالها المتعدد الأبعاد، سواء في شعرها الأصفر أو في نظرتها التي تقول الكثير عن صاحبتها.
تعد الألوان الزيتية من بين أهم الألوان التي يستخدمها الرسامون عادة في أعمالهم الفنية ، ولكن آثرت السيدة بنشقرون في هذه القماشة أستخدام مادة الإكريليك لما لها من مرونة عالية، والقدرة على التلاعب بالألوان والتأثيرات البصرية.
وكي تَشعُر بتلك النعومة التي تمثل رهافة الأنثى ، سخرت أناملها إلى جانب الفرشاة لتروي قصة إبداعية حية بلغة تشكيلية جريئة، تأخذك إلى عالمها الخفي المفعم بالأسرار،حيث تتحول المشاعر إلى سمفونية بصرية حزينة تعبر عما يختلج النفس البشرية من آلام دفينة، وهي سمة من سمات الفن الرومانسي الذي طالما عبر عن الذات.
فالفنانة، من خلال هذا الوجه، تصور ما قد يتركه فقدان عزيز من خدشات مؤلمة برصد قسماته، وإيماءاته التي يمكن أن تكشف عن باطنها ، كالنظرة المؤثرة، والفم الفاغر الذي انفتح قليلا بدافع الشعور بالضيق، وخد يافع يستمد إشراقه من لون شعر ، يبدو وكأنه يتموج على إيقاع تقلبات الحياة و تأرجحها بين الفرح والحزن، والسعادة والشقاء.
بالإضافة إلى هذه المفردات، تحضر العناصر الحسية والبنائية التي تشكل جوهر العمل عبر الشكل و الملمس والإضاءة والعتمة ، تم توظيفها لتمنح التوازن على القماش، وتجسد تصور الفنانة ، وتخلق الانفعال والتفاعل، مما يذكي البصر والبصيرة.
لقد جاءت هذه اللوحة برموز إيحائية بسيطة لا تراوغ، و بدون خلفية لتخاطب مباشرة المتفرج الذي يصطدم بهذه النظرة المؤثرة، المتجهة بهدوء نحوه، وبتفاوت ووضوح في ألوان غيبت المساحات البيضاء، إلى درجة أنها تمكنت من ملأ الفراغات، ولكنها لم تستطع ملأ الفراغ الذي تركه الغائب في قلب امرأة تعيش على الذكرى، لكن ترفض أن تموت مرتين، مما جعل الزمن يتوقف في قماشة تغلب عليها شاعرية تتميز بالقدرة على بث الحزن الرقيق ، استحضرتها المبدعة من قريحتها الشعرية التي ألهمتها بلاغة الألوان، وجعلتها تفجر مواهبها المتعددة التي تكشف لنا عن إنسانة طموحة ، مفعمة بالحيوية والنشاط ، حاضرة بالقوة والفعل بين الناس كفاعلة جمعوية ، مخلصة لمبادئها وجذورها، نافذة فى كل ما يحيط بها من أصالة وتراث، وهذا التنوع فى شخصيتها وفنها لم يخل من ظهور مسحة من الحزن على محياها ، وتمتد إلى الوجوه التي ترسمها، حيث يوجد في كل وجه شيء من ملامح مبدعة.
فتحت عينيها لأول مرة على أقواس وحصون مدينة مكناس التاريخية ، وترعرعت في أحضان أسرة عريقة ومثقفة ، من أصول موريسكية ، رسخت فيها العادات والتقاليد المغربية الأصيلة.
رضعت من أمها العفة وعزة النفس، و أخذت عن خالتها فن الطرز ، وعن والدها حب الاستماع إلى الموسيقى الروحية والطرب الأندلسي ، فكبرت وكبر معها هذا العشق، وبعد إتمام دراستها في فن الطرب والموسيقى، أصبحت هذه الأستاذة الباحثة منخرطة في إحدى المجموعات المتخصصة في فن الملحون.
هذا التأرجح بين الكتابة والعزف والرسم هو الذي يمنح ريشتها طلاقة التحدث بلغة الانسجام والتجدد للتعبير عن رؤى عميقة، تجمع بين الأصالة و لمسات عصرية بأسلوب يركز على الألوان الحارة التي تسيطر على الأعين ، وتدعو للتأمل في القيم الإنسانية التي تتشابك فيها الثقافات المختلفة.
فكل لوحة تنجزها هذه الفنانة تمثل قصة بصرية، تبعث رسالة إنسانية ، ولذلك تجدها تحرص على المشاركة في معارض داخل المغرب وخارجه ، ولا تترفع عن تلبية الدعوات لحضور الملتقيات الثقافية ، وتتواصل بصدر رحب عبر المنابر الإعلامية، بعدما تحولت من كتلة جامدة إلى إنسانة نشيطة، مما جعل شهرتها و شعبيتها تمتد عبر مدينة القنيطرة حيث تقيم إلى خارجها.