حلقة جديدة في دراسات تاريخ المغرب الحديث

أسئلة الثابت والمتغير في مغرب القرن 15م

استطاع المؤرخ أحمد بوشرب تحقيق تراكم علمي غزير في مجال البحث في تحول أوضاع المغرب خلال القرنين 15 و16 الميلاديين، في سياق تداعيات ظاهرة الغزو الإيبيري التي مست بلادنا خلال المرحلة المذكورة. ويمكن القول، إن الأستاذ بوشرب نجح في إعادة تقليب مجمل خبايا الموضوع، استنادا إلى عدته العلمية الأصيلة، وإلى منهجه النقدي الفاحص، وإلى تريثه الواعي، وإلى صرامته في التعاطي مع المادة الوثائقية والمصدرية الخاصة بالمغرب وبالبرتغال خلال المرحلة المدروسة. وبذلك، تحول الأستاذ بوشرب إلى رائد البحث في تاريخ المغرب خلال القرنين 15 و16، ثم إلى مرجع لا يمكن تجاوزه عند أي محاولة لتقليب صفحات الغزو الإيبيري لبلاد المغرب. وقد أثمر هذا الجهد الأكاديمي الرفيع سلسلة من الإصدارات العلمية الدقيقة، نذكر منها كتاب «مغاربة في البرتغال خلال القرن السادس عشر- دراسة في الثقافة والذهنيات بالمغرب من خلال محاضر محاكم التفتيش الدينية البرتغالية» (1996)، وكتاب «وثائق ودراسات عن الغزو الإيبيري ونتائجه» (1997)، وكتاب «حوليات أصيلا- مملكة فاس من خلال شهادة برتغالي، لبرناردو رودريكش» (2007)، وكتاب «دكالة والاستعمار البرتغالي إلى سنة إخلاء آسفي وأزمور» (2013)، وكتاب «مغاربة أمام محكمة التفتيش البرتغالية- الهوية والثقافة والمعتقد» (2013)، وكتاب «شمال المغرب من خلال مصادر برتغالية» (2016). وإلى جانب هذه الإصدارات المرجعية، نشر الأستاذ بوشرب عددا هائلا من المقالات ومن المداخلات العلمية المتخصصة في منابر أكاديمية معروفة، أكسبته موقع الريادة في حقل العلاقات المغربية البرتغالية لعقود العصر الحديث.
في هذا الإطار، يندرج صدور كتاب «المغرب في القرن الخامس عشر (1510-1415)»، مع عنوان فرعي يختزل الأفق العام للبحث: «أضواء على قرن مغمور»، وذلك سنة 2022، في ما مجموعه 280 من الصفحات ذات الحجم الكبير، بتقديم للأستاذ أحمد التوفيق. ويمكن القول عموما، إن الأستاذ أحمد بوشرب قد نحا نحو تقديم خلاصة تركيبية لحصيلة عقود ممتدة من البحث الرصين في تاريخ المغرب خلال العصر الحديث، وخاصة على مستوى رصد أنماط التحول التي حملها الغزو الإيبيري على مجمل مظاهر الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمغاربة القرنين 15 و16، مركزا على استثمار الخلاصات الكبرى التي راكمها في أعماله السابقة قصد تقديم مقاربة تركيبية لعلاقة الثابت بالمتغير في نظم السلط المركزية والمحلية بالمغرب، وفي نظيمة تنظيم الحياة الفردية والجماعية، وفي تحول ذهنيات المغاربة جراء صدمة الغزو الإيبيري وضغط كوارث الداخل وأزماته البنيوية المستفحلة. على رأس هذه الأزمات، يمكن أن نذكر الكوارث الطبيعية والجفاف وزحف الجراد والأوبئة أولا، ومشكل ولاية العهد والتدافع حول السلطة ثانيا، ثم إشكالية تدبير العلاقة بين المركز والقبائل داخل مجالات استقرارها بالأقاصي، وأخيرا ضغط الاحتلال الإيبيري ودوره في تفكيك عرى الروابط التقليدية المغربية على مستوى الدولة والمجتمع والنخب والقوى المحلية. وعلى عكس الصورة التي تقدمها الإسطوغرافيات التقليدية حول مآسي القرن 15م، سعى المؤلف إلى تقديم رؤية بديلة، استنادا إلى خلاصاته التركيبية حول الموضوع. يقول في هذا السياق في كلمته التصديرية: «نفت هذه الدراسة أن يكون القرن الخامس عشر «أحلك عصور المغرب وأشدها إيهاما وغموضا» كما ظن البعض، أو أن يكون قرنا تزامنت فيه تلك الأزمات التي بالغ الباحثون في تعدادها وتعميمها على مختلف ربوع البلاد، دون سند مصدري. وقد تسنى لنا الوصول إلى هذه النتيجة بفضل تنويع مصادرنا، وعدم اقتصارنا على المحلية منها، التي أجمع المطلعون عليها على ضحالة محتواها وسطحيته. فقد أفدنا من حوليات برتغالية غطت وقائع جل عقود القرن، ومن أخرى مشرقية، علاوة على أدب الرحلات ووثائق إيبيرية كثيرة غلب على جلها الطابع التجاري والجبائي والاجتماعي. وبذلك أمكن رصد تجليات انتعاش اقتصادي تحقق رغم عوائق سياسية وأمنية أخذتها الدراسة بعين الاعتبار. كما تسنى الوقوف على انتعاش ديمغرافي مبكر، وتتبع تجليات تحسن مستوى معيشة السكان من خلال مؤشرات موثقة، تخص السكن واللباس والتغذية والممتلكات وما ادخره بعضهم من ذهب وفضة. وبمقارنة تلك المستجدات بأوضاع دول مجاورة، خلصت الدراسة إلى أن مستوى معيشة سكان مناطق عديدة من سهول البلاد وجبالها كان أحسن حالا مما توفر وقتذاك في جهات من إسبانيا والبرتغال، حسبما سجله شهود عيان».
وانسجاما مع الرؤية التي وجهت هذا الأفق العام في الدراسة وفي التحليل وفي التركيب، اهتم الأستاذ بوشرب برصد مظاهر الحضور الاستثنائي للظواهر الطبيعية في مصادر القرن 15 أولا، وبمظاهر التجديد المستعصي للأوضاع السياسية ثانيا، وبتداعيات الاحتلال الإيبيري لسواحل المغرب ثالثا، وبردود الفعل المغربية المتراوحة بين الحماس الشعبي وبين التقصير الرسمي رابعا، وبتجليات الانتعاش الموؤود للأوضاع الاقتصادية خامسا، وبظروف عيش السكان سادسا. وفي كل هذه المستويات، ظل الأستاذ بوشرب مخلصا لروحه الأكاديمية الصارمة على مستوى تجميع المظان والمصادر والوثائق، سواء منها المغربية أم الإيبيرية، حافزه في ذلك قدرته على الانتقال السلس بين اللغتين العربية والبرتغالية، ودعامته عدة منهجية أصيلة في البحث وفي التنقيب، ثم في استثمار نتائج كل ذلك في عملية تركيبية معقدة لا شك وأنها تطلبت منه مدة زمنية طويلة من التنقيب ومن التجميع ومن التفكيك. وللاقتراب من سقف هذا الأفق العام في البحث، يمكن أن نستدل بسياقات حضور مدينة أصيلا داخل المتن العام، ليس -فقط- ارتباطا بظروف خضوعها للاحتلال البرتغالي سنة 1471، ولكن -أساسا- بالنظر لتأثيرات هذا الاحتلال على مختلف التطورات المجالية التي عرفتها المدينة وعمقها الجهوي في مختلف أنماط تدبير الحياة العامة للسكان. ففي معرض حديثه عن الخصائص العامة الطبيعية للمنطقة، يقول المؤلف: «ففي شمال المغرب، ولا سيما قرب أصيلا، التي وصلتنا عنها اثنتا عشرة إشارة واضحة، شددت حوليات برناردو رودريكش على ارتفاع كبير في درجات الحرارة ابتداءً من شهر يونيو، لاسيما خلال هبوب الرياح الشرقية، إلى حد دفع مرة على الأقل المحاربين إلى رفض الامتثال لأمر رئيسهم باستئناف السير بعد توقف للاستراحة. وعلى إثر غارة نظمتها حامية أصيلا، نفقت أفراس كثيرة بسبب طول المسافة، وشدة حرارة ذلك اليوم. وقد قضى في تلك المناسبة نبيل برتغالي شاب وصل مؤخرا إلى البلدة للخدمة العسكرية… وسجل المؤلف نفسه أن الرياح الشرقية الجافة كانت تساعد على انتشار الحرائق، وهي الحرائق التي كانت تتسبب في إتلاف تام للمحاصيل…» (ص. 20).
وفي سياق حديثه عن ظروف احتلال مدينة أصيلا، يقول المؤلف: «لم يتخل أفونصو عن مشاريعه ضد سكان طنجة الصامدة، لكنه نُصح هذه المرة بإرغامها على الرضوخ بتبني استراتيجية جديدة تقتضي احتلال أصيلا أولا، كي ييأس سكانها من الحصول على أي دعم خارجي، لاسيما وأن أوضاع البلاد كانت مساعدة… وخلال التحضيرات بعث الملك شخصا تجسس على محمد الشيخ…، قبل أن يرسل شخصين آخرين إلى تلك البلدة بصفة تاجرين عاينا وضعها وتحصيناتها ووافياه بكل المعلومات التي كان مستشاروه في حاجة إليها. وقد انطلق أكبر أسطول جمعه ملوك البرتغال في الحروب التي أعلنوها على المغرب وقصد أصيلا التي وصلها يوم 20 غشت. وكانت تلك الأعداد الضخمة التي استهدفت بلدة متواضعة، والعنف المستعمل عن قصد ضد السكان، ورفض اقتراحهم تسليم البلدة مقابل السماح لهم بالانسحاب، على غرار ما تم في القصر الصغير، يهدف إلى إرسال رسالة إلى سكان طنجة للفت من عضدهم، وجعلهم لا يفكرون البتة في المقاومة. وبالفعل، ارتكب البرتغاليون خلال اقتحام البلدة جرائم فظيعة، فلم يميزوا فيها بين الصغير والكبير، والرجال والنساء، ولم يحترموا قدسية أماكن العبادة…» (ص. 96).
وفي سياق حديث المؤلف عن الخصائص الاجتماعية للساكنة المحلية بأصيلا، يقدم استنطاقا وصفيا مثيرا لنساء المدينة، قائلا: «وتكرر في حوليات أصيلا نعت نساء المنطقة بالجمال الفتان والتشديد عليه في مناسبات عديدة… ولما هاجم أحد مقدمي أصيلا قرية الريحانة، عاد منها بأكثر من مائة وعشرين امرأة فاتنة الجمال. وكانت المسماة فاطمة أجمل أسيرة دخلت أصيلا. فقد نعتها برناردو رودريكش ب»فاطمة الساحرة الجمال»، وشدد على أنها «كانت أجمل أسيرة دخلت أصيلا»…» (ص ص. 246-247). ويضيف المؤلف راصدا مظاهر تفكك العلاقات الأسرية التقليدية قائلا: «فخلال شهر يوليوز 1497، بلغ إلى علم قبطان أصيلا أن فقيها أو عدلا زوج امرأة رغم معارضة أهلها بأحد أقاربه، مما تسبب في نشوب خلاف في قرية من أكبر قرى أنجرة. وبعد شهر، علم المسؤول البرتغالي نفسه بفرار أرملة إلى قرية أخرى حيث تزوجت رجلا يقيم هناك، مع أن أهلها كانوا قد رتبوا زواجها برجل من قريتهم. وعرفت المنطقة واقعة مشابهة خلال الصيف نفسه. فقد أحب شاب فتاة من قريته الموجودة بأنجرة وهرب رفقتها. وسجل كاتب المحاسب أن مسلمة رفضت الزواج من رجل وغابت عن الأنظار…» (ص. 247).
وعلى هذا المنوال، ينساب متن الكتاب، ليعيد تركيب وقائع القرن الخامس عشر المغربي، بالانتقال من التركيز على سلط المركز بفاس ومراكش، إلى التركيز على الارتدادات في الأقاصي وفي الجهات النائية. وفي كل ذلك، حرص الأستاذ بوشرب على الوفاء لرؤاه التنقيبية الفاحصة والمدققة في التفاصيل الميكرومجالية، حيث يتوارى الحديث عن السياقات العامة بالمركز خلف التحولات الجهوية التي أضحت تتحكم في السلط المؤثرة في البلاد، سواء على مستوى مواجهة الضغط الإمبريالي الإيبيري من جهة، أم على مستوى طرق تدبير معاش الناس من جهة ثانية، أم على مستوى الانعكاسات العامة المرتبطة بمجال الذهنيات والموروثات الرمزية التي وجهت سلوكات الجماعة من جهة ثالثة. وفي كل ذلك، أصبح القرن الخامس عشر محطة أساسية صنعت التحول العام في المسار السياسي للبلاد، بشكل يتوازى مع نزوعات السلط المركزية والجهوية نحو الوفاء للبعد التقليداني المرتبط بالشرعيات السياسية المتوارثة عن العهود الماضية.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 15/12/2022