الممارسة الفريدة لحريتنا هي أقصى ما يمكن تمنِّيه
منذ بداياته الأولى، ظل الفيلسوف الفرني مارسيل غوشيه Marcel Gauchet ينتظر لحظة ما للخروج من «المياه الراكدة» للفكر الفرنسي.. التقط فرصته المنتظرة، بانطلاق حركة الشبيبة عام 1968 ودخل من خلالها عالم الفكر الناقد الذي تمثل آنذاك بـ «المدرسة البنيوية»، وهي المدرسة التي سيطرت على مفاصل واتجاهات التأثر لدى الانتلجنسيا الفرنسية من خلال عدد من كبار المفكرين أمثال جان بول سارتر، جاك لاكان، ميشيل فوكو وسواهم… غير أنه بعد زوال «حركة التمرد»، وتداعي آمال التغيير، وتفرق صفوف «الرفاق»، لم يطرح غوشيه جانباً كل ما في جعبته، إنما أبقى عى «برنامج علم موحد للانسان يتكون من علوم اللغة واللاوعي والتاريخ». منذ ذلك الحين لم يعد برنامجه الفكري منحصراً في نقد الحداثة، وانما، تكرّس لفهم صيرورتها، ومستقبلها.فيما يلي حوار معه أضاء فيه أهم أطروحاته المتعلقة بالحداثة وصلتها بالدين والعلمنة. وقد أجراه معه الكاتب ماثيو جرو Matthieu Giroux في مجلة «فيليت» الفرنسية.
– هل تعتقد أن السياسيين يزدرون البنية السياسية التي تصفها؟
– هم لا يرونها حتى، هم عديمو المسؤولية. أعتقد أنه لو كان فرنسوا هولاند، وهو رجل متقد الذكاء، يسمعني الآن، لن يفهم حتى عماّ أتكلّم. بالنسبة إليه، السياسة تعني الاتفاق مع سيسيل ديفلو والمناورة مع مارتن أوبري (ضحك(… وفجأة يتولّد انطباع لدى الناس في أنهم انتخبوا أفراداً لا يفهمون ما هي وظيفتهم. فالمسألة ليست فقط إدخال برنامج سياسي حيّز التطبيق إنما العمل عى سبك التعايش بن الأفراد في المجتمع.
– هذا ما نسمّيه بكل سذاجة العيش المشترك…؟
– نعم، بسذاجة، بيد أنّ الأمر أعمق من ذلك بكثير. العيش المشرك ليس بديهيّاً بتاتاً، بل هو يتطلّب جهداً عظيماً ومصطنعاً إلى حد كبير، جهداً يكلّف مجتمعاتنا الحديثة ما يراوح بن ثلث ونصف مواردها الوطنية. لا بد من التساؤل عن سبب هذه الكلفة الباهظة. في اليابان وفي الولايات المتحدة التكلفة هي الثلث أما في فرنسا، فهي النصف. ما من اختلاف إذاً في الجوهر بل الاختلافات في التقدير. ما يتغيرّ هو مستوى الهدر. مِن الناس المقتصدون ومنهم المبذّرون، ونحن من المبذّرين المسرفين. يمكننا اعتبار ذلك مدعاةً للاعتزاز الوطني (ضحك)…
– ألن تكون ثمرة أي حرية أخلاقية ضعيفة في نهاية المطاف أزمة وجودية؟
– لسنا في عالم أشر. نحن نصبح أكثر ثراء، وتقنيّاً أكر قوة وسلطة. لكن مستقبل البشرية لن يتأمّن بفضل تعميم انتشار هاتف أي فون 8! ومع ذلك، ها أنا نفسي أملك هاتف أي فون إلا أنني قادر عى الاستغناء عنه بكل بساطة. الغريب في عالمنا هو أنه مسكون من ضيق عميق لا نعرف ما نسمّيه. في نهاية القرن التاسع عشر، في خضم تلك المرحلة المضطربة، كانت الإجابات واضحة. بالنسبة إلى الرجعيين مثل موراس، يُعْزَى ذلك إلى أننا نعيش في بنية سياسية منحرفة وضالة. بالنسبة إلى الماركسيين، السبب هو الاستغلال الرأسمالي الذي يدعو إلى الثورة. أما الأشخاص من أمثال بيغي، فيرون أن السبب هو الفساد الأخلاقي الذي تتّسم به الجمهورية. ما الإجابة الملائمة لعصرنا؟ جميعنا مدرك أننا مُفسِدو الآداب بسبب ما نشجبه. لم تعد لدينا سذاجة وعنفوان رجال القرن الماضي. نحن جميعاً متواطئون، حيث إننا فشلنا في تسمية ما هو مختلّ في العالم.
– هل الجمهوراتية ممكنة في عالم خالٍ من السمو والتفوق؟
– لم تعد هذه جمهوراتية. كُثر هم الأشخاص الذين يقترحون إعادة تعريف هذه الجمهورية. إذا كانت الجمهورية تعني نظاماً من دون سلطة استبدادية فنحن جميعاً جمهوريون. لكن ليست تلك الجمهوراتية التي تفكّر فيها، أي نظام يوجّهه ضمير اللاعبين. الجمهوراتية بهذا المعنى لم تعد ممكنة في عالمنا، غير أن ذلك يتجاوز مسألة اختفاء السمو. فالمشكلة تتأتى عن انهيار البعد الأخلاقي للعلاقات بين المواطنين لصالح البعد القانوني. إننا في عالم أكر صرامة عى المستوى القانوني. الجمهورية هي نظام الأخلاقيات العامة. إذا كان للتمييز بن الجمهورية والديمقراطية من معنى، فذلك يعود إلى الانتقال من الأدب والأخلاقيات إلى القانون. وهذا برأيي تغيير هائل في طريقة تصوّر العلاقات بن الكائنات.
– ما موقفك من المسألة الأنثروبولوجية؟ هل أنت متشائم أم متفائل؟
– البشر هم جنس متناقض بامتياز، حيث يصح لديهم الشيء ونقيضه. وكان إيمانويل كانط أول من أشار إلى هذا الأمر في صيغة أعتبرها عبقرية: «الاستعداد الاجتماعي لِلاّاجتماع ». ذلك صحيح بالفعل. فالإنسان هو الجنس الأكثر لااجتماعية والأكثر اجتماعية، حيث إنه قادر على الأسوإ وعلى الأفضل. ولا بد من فهم هذا التناقض الذي يسكننا جميعاً في كل لحظة. أما عن السبب الكامن وراء هذه الطبيعة، فالمسألة تتجاوز التصوير الكلاسيكي للخير والشر. الغرائز والنزوات المتناقضة تأتينا من كل حدب وصوب، فترى الإنسان نفسه محبّاً للمرح وزاهداً.
– كيف يلتقي فكرك مع فكر رينيه جرار؟ لدينا من جهة، المسيحية المصوّرة على أنها ديانة تخرج من القدسية البائدة المرتكزة على العنف (تعيين كبش فداء يؤسس لنظام مقدّس) ومن جهة أخرى، المسيحية المفهومة عى أنها ديانة الخروج من الدين التي تعبّد الطريق أمام زوال السحر.
– لا أرى أننا نلتقي. طبعاً بعض الأمور تتداخل ولدى جرار كمّ هائل من التحليلات المثيرة للاهتمام، غير أنّ رؤيتيه حول الآلية الكونية وحول الرغبة المحاكية تحيرّاني. فهما لا توضحان أيّاً من الأشياء التي أسعى إلى فهمها وهما تبدوان لي مبتذلتين. فكرة كبش الفداء هذه التي لا ينفكّون يقدّمونها لنا لا تقنعني. مع ذلك، أوافق على تشخيصه بأن المسيحية تمثل انقطاعاً بالنسبة إلى القدسية البائدة إلا أن قراءتي مختلفة تماماً في تفصيل الموضوع.
– نصل اليوم إلى نهاية منطق زوال السحر. هل يمكننا توقع عودة ما للسحر؟
– إذا كان لا بد من التفاؤل، لا أرى أنه ينبغي البحث عن هذا التفاؤل في عودة محتملة للسحر. فلنتابع، حتى النهاية، في العمل على إزالة السحر وفي التنعّم بالحرية التي يمنحنا إياها. هذه الممارسة الفريدة لحريتنا هي أقصى ما يمكن تمنِّيه.