حوارات في الدين والحداثة والعلمانية -25- الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس 4

لا يمكن حذف الفلسفة اليونانية!

تبدأ هذه الحوارية مع الفيلسوف إيمانويل ليفيناس من واحدة من أبرز إشكاليات البحث في الغيرية، عنينا بها إشكالية الوجه على أنه معيار جوهري للتعرف إلى الآخر. ثم تمضي هذه المحاورة إلى مقاربة الكائن الإنساني بوصفه كائناً أخلاقياً. وهو ما يميزه بالفعل من سائر الكائنات، وتبعاً لهذا الحقل الإشكالي سوف نقرأ المزيد من التداعيات التكفيرية التي تأسست عليها قيم الغيريّة عند ليفيناس.وفي ما يلي نص المحاورة:

o هل تظن أن «تفكيك » الميتافيزيقا اليونانية سيُتيح للفلاسفة التفكير بشكل أفضل بالبعد الأخلاقي للوجود البشري؟

ليفيناس: أرى أنّ الفلسفة اليونانية لا يمكن حذْفها. حتّى من أجل نقد الطابع الذي لا يمكن تجاوزه للفلسفة اليونانية، فإنّنا بحاجة إلى الفلسفة اليونانية. هذا ليس تناقضًا! فاليونانيون علّمونا الكلام: لا الكلام بمعنى القول le Dire)، بل بمعنى إعادة اكتشاف أنفسنا في المَقول. le Dit إنّ الفلسفة اليونانية هي لغة خاصّة يمكنها أن تقول كل شيء لكل العالم، لأنّها بِلا أيّ مُسلَّمات مُفترَضات présupposés، إنّ الفلسفة اليونانية هي الطريقة التي يتكلّم بها الناس في الجامعة الحديثة في بقاع العالم كله. هذا هو معنى التكلّم باللسان اليونانيّ؛ العالم كله يتكلّم باللسان اليونانيّ، حتى وإنْ كان يجهل الفرْق بين ألفا وبيتا. «اللّسانُ اليونانيُّ Grec» يعني طريقة خاصّة لعرْض الأمور، أيْ ذلك النّحوُ في استعمال لغة هي في مُتناول أيٍّ إنسان. لكن الميزة الثانية للّسان اليونانيّ هي أنّه لا يُلْجِئنا إلى خلْط الأشكال اللغوية بالشكل الفعليّ لِما نُريد أن نعنيَه. على الرّغم من أنّ شيئًا ما قد قِيلَ، بنحْوٍ ما، فإنّ أشكال هذا القول لا تترك أيَّ أثر في ما ظَهَرَ. وبالتّالي، يمكننا أن نُبيّ ما يتجاوز كونيّة الفهم l’universalité de la comprehension. إنّ الأمر يتعلّق بشكل لا يترك أيَّ أثر في الفعل المُقدّم؛ يمكنك أن تنقضَ ما قلتَه.

o ما رأيك في الطرح الهوسرلي فيما يتّصل بمسألة غيريّة الآخر، الذي عرضه دريدا في مُصنّفه «العنف والميتافيزيقا»؟ يبدو أن دريدا يعتقد أنه لا يمكننا الاعتراف بوجه الآخر إذا كان الآخر يُؤخَذ بوصفه «أنا آخر alter ego»، وأنّ الآخر، بذلك، لا يمكنه بعامّة أن يكون آخر. برأي دريدا، يرتبط لاتماثل العلاقة الأخلاقية بتماثل سابق. ويكتب دريدا أنّ «الآخر»، بالنسبة إلّي، هو «أنا «ego تَربطه علاقة بي بما هو آخر». برأيك، ألا يمكن أنْ تكون هذه المعرفة عنفًا؟

ليفيناس: يأخذ دريدا عليّ نقدي المذهبَ الهيغلي بالقول إنه من أجل أن ننقد هيغل، نبدأ بالحديث بلغة هيغل. هذا هو أساس نقده. أُجيبُ عن هذا بأنه بالنسبة إليّ، على العكس، ليست اللغة اليونانية لغة جامدة ضمن مقولها، وأنه بالتالي توجد دائمًا إمكانية نقْض ما أُجبِتَ على اللجوء إليه لإظهار شيء ما.
نّ فكرة اللا تماثل تبدو لي على درجة عالية من الأهمّية؛ ربما هي الطريقة الأبرز لتصوّر العلاقة بين الذات والآخر، وذلك بعدم وضع كليهما في المستوى عينه. إنك تعلم استشهادي ﺑ دوستويفسكي: «كل واحد مُتّهم أمام الآخر، وأنا مُذنب أكثر من الآخرين ». هذه هي فكرة اللا تماثل. إن العلاقة بيني وبين الآخر لا يمكن تجاوزها؛ وهي مُتغيّة نتيجة وجود العدالة، وبحسب العدالة تُوجد دولة نكون فيها، مواطنين، متساوين. لكن في الفعل الأخلاقي، ضمن علاقتي بالآخر، في حال نسي المرء أنني مُذنب أكثر من الآخرين، لن تستطيع العدالة هي ذاتها أن تقوم. إنّ فكرة اللاتماثل هي طريقة أخرى للقول إنه، بحسب الاستمراريّة في الكائن، إذا كنا مُتساوين، فإنّ فكرة تفوّق précellence موت الآخر على موتي ليست خارجيّة بنظري هي نتيجة لنظرة خارجية نكون أمامها مُتساوين-؛ إنّ مفهوم الاختلاف الجوهري بيني وبين الآخرين إنما ينبع مني. توجد غيريّتان. هناك الغيريّة المنطقية: في أيّ سلسلةٍ serie ، كلُّ طرف terme هو آخرُ في علاقته بالأطراف الأخرى. إنّ الغيريّة التي أتكلّم عليها هي غيريّة الوجه، التي هي ليست اختلافًا، ليست سلسلةً، بل هي غرابةٌ غرابةٌ لا يمكن حذْفها، ما يعني أن التزامي لا يمكن إزالته.

o في المقطع الذي يحمل عنوان «فيما وراء الوجه» في كتابك «الكلّ واللانهاية «تُقدّم الخصوبة fécondité طريقة ولوج إلى الصورة الخاصّة بزمنٍ غير محدود. أنت كتبتَ أنّ البيولوجيا هي التي تجعل هذا الانفتاح مُمكنًا، لكنّ البيولوجيا لا تحدّ منه. هذا يعني أنّ نموذج هذه الإمكانية لا يمكن العثور عليه إلّ في العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى relation hétérosexuelle؟ بمعنى آخر، هل يوجد نوع من الخصوبة لا تَربطه صلة بالبيولوجيا؟

ليفيناس: إنّ علاقة أب ابن، مثلً، لا ينبغي تصوّره من جهة بيولوجية على وجه الدقّة. إنّ هذه العلاقة يمكن أن تُوجد بين كائنات ليسوا، بيولوجيًّا، آباء وأبناء. الأبوّة والبنوّة: أيْ الشعور بأنّ الآخر ليس مجرّد شخص التقيتُه، وإنما بوجه ما أنّه امتداد لي، لـِ أناي mon ego، وأنّ إمكانيّاته هي إمكانيّاتي إنّ فكرة المسؤولية بالنسبة للآخر يمكن أن تمتدّ إلى هناك.
إنما خصوبة الأنا هو تعاليها نفسه. إن الأصل البيولوجي لهذا المفهوم لا يجعل على الحياد، بأي نحو، المفارقة الخاصّة بدلالته، ويُبرز البنية التي تتجاوز السلطة البيولوجية.


الكاتب : حاوره: تامرا رايت، بيتر هيوز، وأليسون آيْنْلي

  

بتاريخ : 20/04/2023