لا يجب وضع الخبراء والاختصاصيين في خدمة محترفي السياسة
آلى الفيلسوف اليوناني المعاصر كورنيليوس كاستورياديس على نفسه أن يظلّ طيلة حياته مفارقاً للإيديولوجيات الشائعة في القرن العشرين، ولا سيما الإيديولوجيا الماركسية الرسمية.دأب كاستورياديس على السير عكس التيار في الفكر والسياسة. إلا أنه بقي على عقيدته الانتقادية، وفي المقابل كان ناقداً جذرياً للرأسمالية الليبرالية ولديمقراطيتها الزائفة، أما موقفه من الإيديولوجيا فقد ظهر في خطابه الجذري ضد تحيزاتها سواء في الفكر الاشتراكي أو الفكر الليبرالي وكان له في كل ذلك مواقف راحت تشكّل مع الزمن تياراً نقدياً صارماً عابراً للحدود. هذا الحوار الذي أجراه معه دانيال ميرميه قبل وفاته سنة عام 1996، يتضمن رؤية إجمالية لأفكاره النقدية حيال الإيديولوجيات.
دانيال ميرميه: لماذا لا يوجد معارضة لتلك الليبراليّة؟
كورنيليوس كاستورياديس: لست أدري، هذا أمرٌ غريب. ورد الحديث عن ضرْبٍ من إرهاب الفكر الوحيد، أي عن لا فكر. هو وحيد بمعنى أنّ الفكر الأوّل هو. لا فكر كامل وحيد ليبراليّ لا يجرؤ أحدٌ على معارضته. كيف كانت الإيديولوجيا الليبراليّة في عصرها الذهبيّ؟ حوالى عام 1850 ، كانت إيديولوجيا كبيرة لأنهم كانوا يعتقدون بالتطوّر. أولئك الليبراليّون كانوا يعتقدون بأن التطوّر سيُحدث الرغد الاقتصاديّ. ولكن حتّى عندما لا نغتني، في الطبقات المستغلَّة، سنتّجه نحو عملٍ أقلّ، نحو أعمال أقل مشقّةً، سيقلّ غباء الناس الناتج عن الصناعة: كان ذلك هو المبحث الأبرز لذلك العصر.لقد قالها بنجامين كونستان: إن العمال لا يمكنهم الاقتراع لأنهم أغبياء بتأثير الصناعة )لقد قالها صراحة، كان الناس نزيهين وقتها)، وبالتالي يجب أن يختصّ الاقتراع بدافعي الضرائب (نظام سياسيّ يقضي بأن يكون المواطنُ دافعَ ضريبة ليحقَّ له الاقتراع). ولكن في ما بعد تدنّت ساعات دوام العمل، شاعَ محو الأمّيةّ، ووُجدت التعليم، وأصبح هنالك أنواع من الأنوار التي ليست أنوار القرن الثامن عشر الانقلابية، ولكنّها مع ذلك أنوار تنتشر في المجتمع. العلم يتطوّر والإنسانيّة تتأنسن، والمجتمعات تتحضّ شيئاً فشيئاً، بشكل متقارب، سنصل إلى مجتمع لا يوجد فيه استغلال فعليّ، حيث ستتجه الديمقراطيّة التمثيليّة لتصبح ديمقراطيّة حقيقيّة.
دانيال ميرميه: لا بأس؟
كورنيليوس كاستورياديس: لا بأس. إلّ أنّ ذلك لم ينجح! الباقي تحقّقَ ولكنّ الناس لم يتأنسنوا، والمجتمع مع ذلك لم يتحضّ، والرأسماليّون لم يلينوا، إننا اليوم نشاهد هذا الأمر. ما حصل هو أنّ الناس لم يعودوا يؤمنون بهذه الفكرة في أعماقهم. إنّ ما يهيمن الآن هو الخنوع حتّى لدى ممثّلي الليبراليّة. ما هي الحجّة الدامغة في هذه المرحلة؟ قد تكون سيّئة ولكن المصطلح البديل الآخر كان أسوأ. هذا يُختصر بهذا. وصحيح أنّ هذا الأمر أرعبَ الناسَ. إنهم يحدّثون أنفسهم: هذا ما يكمن خلف هذا الجفاف )النضوب( الإيديولوجي لعصرنا، وأعتقد أننا لن نخرج من هذه الحالة إلا إذا، حقيقةً، كان هناك … يجب أن ننتظر، يجب أن نأمل، يجب أن نعمل من أجل انبعاثٍ جديدٍ لنقد قويّ للمنظومةSysteme ، وأيضاً من أجل عودة نشاط الناس ومشاركتهم.
دانيال ميرميه: نخبة سياسيّة مصغّرة قد تقزّمت إلى مستوى خادم ذليل للشركة العالمية، مثقّفون كلاب حراسة، وسائل إعلام قد خانت دورها كمعارض للسلطة، هذه بعض الأسباب وبعض المظاهر لـ «ارتقاء التفاهة» هذا.
كورنيليوس كاستورياديس: ولكن في الوقت الراهن، نشعر بارتعاش لعودة نشاط مدنيّ. «هنا وهناك، بدأنا نفهم أنّ «الأزمة » ليست حتميّة الحداثة التي يجب الخضوع لها، «أن تتأقلم » خشية أن تُتهم باتباع التقليد القديم. بالتالي تطرح مسألةُ دور المواطنين نفسَها وكذلك مسألة كفاءة كلِّ شخص في ممارسة الحقوق والواجبات الديمقراطيّة بهدف الخروج من الامتثاليّة المعمّمة إنها يوتوبيا لطيفة وجميلة!.
دانيال ميرميه: زميلك ورفيقك إدغار موران يتحدّث عن الخبير العامّ Generaliste والخبير الاختصاصيّ Spécialiste. السياسةُ تتطلّب الأمرين. العام الذي يعرف تقريباً لا شيء عن كل شيء، والاختصاصي الذي يعرف كل شيء عن شيء واحد دون غيره. كيف نُعدُّ مواطناً صالحاً؟
كورنيليوس كاستورياديس: هذه الثنائية طُرحت منذ أفلاطون الذي يقول أنّ الفلاسفة يجب أن يحكموا، فإنهم أعلى من المتخصّصين ولديهم رؤية حول كلّ شيء. كان العنصر الثاني من الثنائية هو الديمقراطية الأثينيّة. ماذا كان يفعل الأثينيّون؟ ثمّة هنا شيء مثير جدّاً للاهتمام. الإغريق هم الذين اخترعوا الانتخابات. هذه حقيقة تاريخيّة مُثبتة. ربّا أخطأوا، ولكن هم الذين ابتكروا الانتخابات! من كان ينتخبُ الناس في أثينا لم يكونوا ينتخبون القضاة! القضاة كان جرى تعيينهم عن طريق السحب بالقرعة أو بالتناوب. بالنسبة لأرسطو، المواطن هو ذلك بأن يَحكم وأن يُحكم. وبما أنّ الجميع جديرون بأن يحكموا يجب أن نسحب القرعة. لماذا؟ لأنّ السياسة ليست مسألة اختصاصِّ. ليس هنالك علمٌ للسياسة. هنالك رأي، دوكسا] Doxa لدى اليونانيّين، وليس هنالك معرفة .[ Epistémè أريدك أن تلاحظ أنّ فكرة عدم وجود متخصّص في السياسة وبأنّ الآراء تتساوى، هي التبرير الوحيد المعقول لمبدأ الأغلبيّة. إذاً لدى اليونانيّين الشعب هو الذي يقرّر والقضاة يُسحبون بالقرعة أو يُعيَّنون بالتناوب. توجد نشاطات متخصّصة لأنّ الأثينيّين لم يكونوا مجانين، مع ذلك قاموا بأمور معتبرة بعض الشيء، بنوا معبدَ البارثينُون وغيره…بالنسبة إلى هذه النشاطات المتخصّصة، كبناء وُرَش السفن وبناء المعابد والتعامل مع الحرب، هي أمور تتطلّب اختصاصيين. إذاً أولئك، كانوا يُنتَخبونَ. إنّه الانتخاب. لأنّ الانتخاب يعني انتخاب مَن هم الأفضل. على ماذا نعتمد لانتخاب الأفضل؟ حسناً، هنا تتدخّل تربية الشعب لأنّه قدْ أُقنِعَ بالاختيار. نقوم بانتخاب أوّل. نُخطئ. نلاحظ مثلاً أنّ بريكليس هو قاضٍ ضعيف جدّاً deplorable Stralege، لا ننتخبه مرة أخرى أو pjn نعزله. ولكنّ هذه الدوكسا، هذا الرأي الذي يمكن أن يُصادَر بالادّعاء بأنّه مقسَّمٌ بالتساوي، هي بالتأكيد مصادرةٌ نظريّةٌ تماماً. كي يكون هنالك القليل من اللحم يجب أن رعاية هذه الدوكسا. وكيف يمكن رعاية دوكسا تتعلّق بالحكومة؟ حسناً، بأن نحكم من خلال الحكم. بالتالي الديمقراطيّة وهذا هو المهمّ هي مسألة تربويّة للمواطنين، وهذا ما لا يوجد البتّة اليوم.
مؤخّراً نَشرت مجلّةٌ إحصائيّةً أشارت إلى أنّ 60 في المئة من النوّاب يعترفون بأنّهم لا يفهمون شيئاً في الاقتصاد. نوّابٌ في فرنسا سيتخذون القرارات، يقرِّرون كما طوال الوقت! يصوِّتون، يزيدون الضرائب، يخفّضونها، إلخ… في الحقيقة، هؤلاء النوّاب جميعهم كما الوزراء، هم أموات بأيدي التقنيّين. لديهم خبراؤهم ولكنْ لديهم أيضاً أحكامٌ مسبقة أو تفضيلات. وإذا تتبّعتَ عن قرب عمل حكومة ما، أو عمل بيروقراطيّة كبيرة أنا تابعت ذلك في ظروف أخرى فسترى أنّ أولئك الذين يديرون يثقون بالخبراء، ولكنّهم يختارون الخبراء الذين يشاركونهم آراءهم. ستجد دائماً اقتصاديّاً يقول لك: «نعم، نعم، يجب القيام بذلك ». أو ستجد خبيراً عسكريّاً يقول لك: «نعم، يجب التسلّح النووي» أو «يجب عدم التسلّح النوويّ». أي شيء. هي لعبةٌ غبيّة وبهذا الشكل نحن نُحكَم حاليّاً. وبالتالي ثنائية موران وأفلاطون صحتها اختصاصيّ أو عامّيّ. الاختصاصيّون في خدمة الناس، تلك هي المسألة. لا في خدمة بعض محترفي السياسية. والناس يتعلّمون كيف يحكمون من خلال ممارستهم للحكم.
دانيال ميرميه: تعليميٌّ، أنت قلتَ وتقول: الحال ليست كذلك اليومَ. بشكلٍ أعمَّ، أيّ نمط من للتعليم ترى؟ أيّ نمط من تقاسم المعرفة؟
كورنيليوس كاستورياديس: هنالك الكثير من الأمور التي كان يجب تغييرها قبل التمكّن من الكلام عن نشاط تربويّ حقيقيّ على المستوى السياسيّ. التعليم الأساسي في السياسة هو المشاركة النشطة في الشؤون ]العامّة[، ما يستلزم تحوّلاً في المؤسسّات يسمح بهذه المشاركة ويحثّ عليها، بينما المؤسّسات الحاليّة تُبعد الناس وتثنيهم عن المشاركة في الشؤون [العامّة].
ولكنْ هذا لا يكفي. يجب أن يُعلَّم الناسُ، وأن يُعلّموا فنَّ حُكم المجتمع، يجب أن يُعلّموا في الشأن العامّ. لكن، إذ نظرت إلى التعليم الحالي. لا علاقة له مطلقاً بذلك. نتعلّم أموراً تخصصية.
بالتاكيد نتعلم القراءة والكتابة. هذا جيّد جدّاً، يجب أن يعرف الجميعُ القراءة والكتابة، مع العلم أنّه لم يكن لدى الأثينيّين أُمّيّون. تقريباً كان الجميع يعرفون القراءة ولهذا كانوا يدوّنون القوانين على الرخام. كل الناس كان يمكنهم قراءتها ومن هنا كان للقول المأثور المشهور «يُفترض ألّ يجهل أحدٌ القانونَ»، معنًى. اليوم يمكن أن يحاكموك لأنّك قد ارتكبتَ مخالفةً بينما أنت تجهل القانون ويقولون لك: «المفترض أنّك لا تجهله». إذاً كان يجب أن يتجه التعليم أكثر نحو الشيء المشترك.
يجب فهم آليّات الاقتصاد، آليّات المجتمع، والسياسة، إلخ… لسنا قادرين على تعليم التاريخ. الأطفال يشعرون بالملل وهم يتعلّمون التاريخ في حين أنّه مشوِّق. يجب تعليمُ علمِ تحليلٍ حقيقيٍّ للمجتمع المعاصر، كيف هو، وكيف يعمل.