العدالة، بالنسبة إليّ شيء مُرتبط بالحساب والمعرفة
تبدأ هذه الحوارية مع الفيلسوف إيمانويل ليفيناس من واحدة من أبرز إشكاليات البحث في الغيرية، عنينا بها إشكالية الوجه على أنه معيار جوهري للتعرف إلى الآخر. ثم تمضي هذه المحاورة إلى مقاربة الكائن الإنساني بوصفه كائناً أخلاقياً. وهو ما يميزه بالفعل من سائر الكائنات، وتبعاً لهذا الحقل الإشكالي سوف نقرأ المزيد من التداعيات التكفيرية التي تأسست عليها قيم الغيريّة عند ليفيناس.وفي ما يلي نص المحاورة:
o الوجه، هل هوظاهرة بسيطة أومعقّدة؟ هل من الممكن تعريفه بأنّه ذلك الجانب من الكائن البشري، الذي يتجاوز كل جهد للفهم وللتجميع totalisation، أو أنّ هناك ميزات أخرى لهذه الظاهرة ينبغي إدخالها في كل تعريف أووصف للوجه؟
n الوجه هو حدث أساسي. من بين الطرق العديدة للاقتراب من الكائن، وللارتباط به، يُعدّ فعل الوجه خاصًّا، وفي هذا النطاق، من الصعب إعطاء وصف دقيق، على الصعيد الفينومولوجي، للوجه. إنّ فينومولوجيا الوجه هي، غالبًا، سلبية.
إنّ ما يبدو بالنسبة لي جوهريًّا هو، مثلً، الطريقة التي فهم بها هايدغر الأداةzeug ما يقع تحت اليد، الأداة، الشيء. لقد فهم هايدغر الأداة بوصفها مثالا ًprototype غير قابل للاختزال. أمّا الوجه فإنّه قابل للمقارنة من جهة كونه ليس تصوّرًا البتّة، وليس أحدَ معطيات المعرفة؛ ولكنه ليس أيضا ما يقع تحت اليد. إنّ الوجه طريق ولوج غير قابل للاختزال، ولا يمكن الحديث عنه إلا بلغة أخلاقية. لقد قلتُ، بحسب تحليلي للوجه، هذا الأخير يلتمس :implore إنّه يلتمس، إنّه ليس سؤالً. إنّ الوجه يد تلتمس، يد مفتوحة. علينا أن نفهم أن الوجه بحاجة لشيء ما، وأنه يطلب منك شيئاً ما. لا أعرف إذا ما كان يمكن القول إنه بسيط أومعقّد. مهما يكن من أمر، توجد هنا طريقة جديدة للحديث عن الوجه.
عندما قلتُ إنّ الوجه يُثّل سلطة، وإن السلطة توجد في الوجه، فذلك يمكن، دون ريب، أن يبدوَ مُتناقضًا: إنّه يلتمس ويُثّل سلطة في آن. لديكم، بناءً على ذلك، سؤالٌ آخرُ وهوأنه كيف يمكن مخالفة هذا النظام في حال كان الوجه يأمر. الوجه ليس قوة؛ إنه سلطة. غالبًا لا تملك السلطة قوة.
يبدو أن سؤالك مُرتكز على فكرة أن لله يأمر ويفرض، وأنه قويّ إلى أقصى درجة؛ وأنه إذا ما حاولتم عدم تنفيذ ما يقوله لكم، فإنه سيعاقبكم. ثمّة هنا مفهوم حديث جداً! على العكس من ذلك، إنّ الشكل الأصلي، الشكل الذي لا يمكن نسيانه بالنسبة لي، هوأنه، في آخر المطاف، لا يمكنه فعل أيّ شيء، فهوليس بقوة، بل هوسلطة.
o لكن، هل يوجد في الوجه البشري شيءٌ ما يَيزه من وجه الحيوان مثلً؟
n لا يمكننا أن نرفض تمامًا الوجه بالنسبة للحيوان. فمن خلال الوجه يمكن أنْ نفهم كلبًا مثلً. لكن ما هو في المقام الأول هنا ليس الحيوان بل الوجه البشري. إننا نفهم الحيوان، وجه الحيوان بحسب ما يفترضه الدازين. Dasein لا تكمن ظاهرة الوجه، بشكلها الأصفى، في الكلب. في الكلب، في الحيوان، توجد ظواهر أخرى: مثلً قوة الطبيعة هي حيوية محضة؛ ذلك هوما يَيز الكلب. لكنّ له وجهاً أيضًا.
ثمّة شيئان غريبان في الوجه: هشاشته القصوى كونه مُجرَّدًا démuni ومن جهة أخرى، سلطته. الأمر كما لوأن لله يتكلم من خلال الوجه.
o هل من الضروري للوجه امتلاك قابليّة اللغة ليكون وجهًا بالمعنى الأخلاقي للفظة؟
n أرى أن بداية اللغة هي الوجه. في حدود مُعيّنة، إنّ الوجه، في صمتِه نفسِه، يُناديك.
إنّ ردّ فعلك إزاء الوجه هو إجابة. لا مجرّد إجابة وحسب، بل مسؤولية. إنّ اللغة لا تبدأ بالعلامات التي تُعطى، مع الكلمات. اللغة هي، علاوة على ذلك، كونك تخاطب… ما يعني القول le Dire، أكثر مما يعني المَقول le Dit.
ندرك من كلمة «فهم»: compréhension «أن نأخذ prendre» و«أن نفهم comprendre»، أيْ «أن نضمّ englober» و«أن نتملّك s’approprier». نُلفي هذه العناصر في كل معرفة connaissance، وكل فهم compréhension؛ دائمًا يفعل المرء شيئًا ما لأجل ذاته. لكنّ ثمة شيئاً ما يبقى خارجًا، إنه الغيرية. الغيريّة لا تعني البتّة الاختلاف أي إن الذي أمامي هو إنسان له أنف مختلف عن أنفي، وعينان بلون مختلف، وله سلوك مختلف. هذا ليس اختلافًا، إنّه غيرية!
الغيرية: إنّها تعني أمرًا غيرَ قابل للمقارَنة، مُتعالِيًا transcendant. أنتَ لستَ مُتعاليًا من خلال بعض الملامح المُختلفة.
يمكن المضيّ في التحليل. أنا لا أدّعي أنّ التحليل كامل. إن الفكرة التي تُعَدّ بالنسبة إليّ بالغة الأهمية هي فكرة الضّعف faiblesse. فكرة أن يكون المرء، بوجهٍ ما، أقل بكثير من شيء. يمكن للمرء أن يَقتل، وأنْ يُبيد anéantir؛ إنّ إبادة الآخر أسهل من امتلاكه.
بنظري، إن هذين المنُطلقَيْ جوهرياّن: فكرة الضعف الأقصى، فكرة الالتماس، فكرة أنّ الآخر هوالفقير. إن هذا أخطر من الضعف، إنّه الضعف إلى أبعد حدّ؛ إن الفقير ضعيف إلى درجة أنْ يلتمسimplore. لا ريب في أن هذا ليس سوى بداية التحليل، فالطريقة التي نتصرّف بها بشكل ملموس مختلفة؛ إنها أعقَدُ. لأننا بخاصّة وهذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة إليّ لسنا ببساطة اثنين في العالم، بل كلّ شيء يبدأ كما لو أننا كُنّا، في حقيقة الأمر، اثنين فقط. من الضروري الإقرار بأن فكرة العدالة تفترض أنّ ثمة آخر. لكن، بدءًا، ومن حيث الأساس، أنا مُهتمّ بالعدالة لأن الآخر يملك وجهًا.
o أي دور تؤدّيه الطريقة الفينومونولوجية في مفهوم الوجه كما يظهر في كتابك الكلّ واللانهائي Totalité et Infini؟ هل الفينومونولوجيا، من خلال بنية مُفصّلة لمختلف جوانب الظاهرة، تُشكّل لنا دليلً هاديًا إلى مفهوم جديد للوجه؟ أليست فينومونولوجيا الوجه ما هي إلا وصف منهجيّ systématique لِما يُكشف دائمًا النقابُ عنه حين سنلتقي الآخر؟
n إنّ الكلّ واللانهائي هوكتابي الأول. أرى أنه من الصعب جدًّا أن أقول لكم بعدّة كلمات فيما يختلف الكتاب عما قلتُه بعد ذلك. هناك الاصطلاح الأنطولوجي: لقد تكلّمتُ هنا عن الكينونة. منذ ذلك الحين، حاولتُ التخلّي عن هذه اللغة. حين أتكلّم في كتاب الكلّ واللانهائي عن الكينونة، ما يجب إبقاؤه في الذاكرة هو أن التحليل، في نهاية المطاف، يجب ألّ يؤخَذ بمعنى نفسانيّ psychologique. إنّ ما يوصَف في الأفعال الإنسانية ليس ببساطة تجريبيًّا، بل هو بنية جوهريّة. وفي كلمة «جوهريّ» توجد كلمة esse، أيْ كينونة être؛ كما لوأنه توجد بنية أنطولوجية.
في كتابي الكلّ واللانهاية استعملْتُ كلمة عدالة justice فيما يخصّ الأخلاق éthique، للإشارة إلى العلاقة بين شخصين. لقد تكلّمتُ عن العدالة، حتى ولو أنّ العدالة، بالنسبة إليّ، شيء مُرتبط بالحساب والمعرفة، ويفترض suppose السياسة. إنّها شيء مُلازمٌ لِلسياسة. العدالة هي شيء ما أميزه من الأخلاق، التي هي في المقام الأول. لكنّ كلمتيْ أخلاق éthique وعادل juste في كتاب الكلّ واللانهاية هما الكلمة ذاتها، والقضية عينها، واللغة نفسها. حين أستعمل كلمة عدالة ليست، بمعنى تقني، شيئاً ما مُناقِضاً ومُختلفاً عن الأخلاقيّات morale.
إنّ الوجهَ أساسٌ. ليس له أيُّ طابع نَسَقيّ. إنّه مفهوم يأتي إليّ، وفقه، رجلٌ من خلال فعلٍ إنسانيٍّ مُختلِفٍ عن فعل المعرفة.
o هل ترى أنّ هناك موقعًا لفينومونولوجيا الوجه نُدركه في معنى واسع؟ هل توجد ميزات مهمة لهذه الظاهرة لم تأخذها بعين الاعتبار في كتاب الكلّ واللانهاية؟
n لستُ مُتأكّدًا من أن الوجه يُثّل ظاهرة. الظاهرة phénomène هي ما يظهر apparaît؛ إنّ الظهور apparaître لا يعني جنس كينونة mode d’être الوجه. الوجه هو، منذ البداية، الالتماس الذي تكلّمتُ عليه. إنّه ضعف من هو بحاجة إليك ويعتمد عليك. هنا منشأ فكرة اللاتماثل asymétrie التي أعدُّها بالغة الأهمية: فاللاتماثل لا يعني أنّ هناك ذاتًا تُواجه موضوعًا؛ إنّه، على العكس، يعني أنني قويّ وأنّك ضعيف؛ أنّني عبدٌ لك وأنّك السيد. بالتالي، لستُ مرتعبًا من فكرة أن الذي يملك القدرة هوالسيد لا، أنا لا أستخدم هذه الألفاظ بهذا المعنى.
o بحسب تحليلك، إن الوصيّة «لا تقتُل» تنكشف من خلال الوجه الإنسانيّ؛ لكنْ، ألا يُعبَّ عن هذه الوصيّة أيضًا من خلال وجه الحيوان؟ هل يمكن النظر إلى حيوان ما بوصفه هذا الآخر الذي ينبغي استقباله؟ وهل يجب عليه أن يمتلك قابلية اللغة ليكون وجهًا بمعنًى أخلاقيٍّ؟
n لا أستطيع تحديد الوقت الذي يحقّ لك فيه أن تُسمّى وجهًا. إنّ الوجه الإنسانيّ مُختلف تمامًا، ونحن لا نكتشف وجه حيوان ما إلا بعد انقضاء الأمر. لا أعلم ما إذا كان للأفعى وجه؛ لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال، فهويستلزم تحليلً خاصًّا.
لكنّ ثمّة شيئاً ما يُشكّل أساس انجذابنا للحيوان… إنّ ما نحبّه في الكلب مثلا ربما يكون طابعَه المُشابه لطابع الطفل: لكأنه قوي وسعيد ومقتدر ومُفعَم بالحياة. وثمّة أيضًا، حتى فيما يتعلّق بالحيوان، الشفقة. فالكلب هو بمنزلة ذئب لا يعضّ؛ في الكلب، ثمةَ أثرٌ من الذئب. مهما يكن من أمر، أرى هنا إمكانية تحليلٍ فينومونولوجيٍّ… نحبّ غالبًا الأطفال لِحيوانيّتهم animalité. فالطفل لا يُنسب إليه أيُّ شيء؛ هو يقفز ويمشي ويركض ويعضّ إنّه رائع.