حوارات في الدين والحداثة والعلمانية -26- المؤرخ الفرنسي جاك بوشيباداس

فكر ما بعد الاستعمار تيار نقدي وليس درساً أكاديميا

ما هي الرهانات والحدود التي تدور مدار فكر ما بعد الاستعمار؟ هذا السؤال المحوري شكل فضاء هذا الحوار مع المؤرخ الفرنسي جاك بوشيباداس حيث يذكرّ بان دراسات ما بعد الاستعمار، ليست مادة دراسة مخصوصة، وإنما هي تيار فكري نقدي، داعياً التاريخ، ألا يحتفل بأوديسة التقدم الغربي عبر العالم. والمعروف عن جاك بوشيباداس أنه مؤرخ الهند الحديثة. فهو خبير في المركز الوطني في للأبحاث العلمية، وعمل بشكل أساسي في وسط مركز دراسات الهند، وآسيا وجنوب آسيا لمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية. أما أبحاثه الأولية عن الفلاحين ومعركة الاستقلال في الهند المستعمرة، فقد وضعته منذ نهاية السبعينيات في علاقة تبادل ودية ونقدية، في آن، مع مؤرخين من المجموعة المؤسسة للدراسات الهامشية Subaltern Studies. حول دراسات ما بعد الاستعمار، كان معه هذا الحوار:

 

o ماذا نعني بدراسات ما بعد الاستعمار؟

n دراسات ما بعد الاستعمار، هي حقل من الفكر النقدي، ولد في الجامعات الأنكلوسكسونية خلال الثمانينات، وخصوصا في الولايات المتحدة. نشأ من كتاب مهم ومشهور، نشره إدوارد سعيد سنة 1978 بعنوان الاستشراق، وكان هدفه دراسة ونقد خطاب الغرب عن العالم الإسلامي. الفترة الزمنية التي درسها إدوارد سعيد في هذا المؤلَّف، تخص كل مرحلة علاقة الغرب الاستعمارية، مع سائر العالم وخصوصاً الفترة الثانية، من الانتشار الأوروبي للقرن الثامن عشر، حتى منتصف القرن العشرين. استوحى إدوارد سعيد في هذا المشروع فكر ميشال فوكو. اهتم بدراسته بمجمل الإنتاج العلمي والأدبي، وخصوصاً الروائي الغربي، الذي يتناول الشرق، وافترض مبدئياً أنّ مجموع هذه الكتابات، كانت تشكل أو بالأحرى تمثّل ما كان ميشال فوكو قد أسماه صياغةً استدلالية، أيْ نوعاً من العالم الذهني والثقافي، الذي يجد تعبيره في التناصّ الشامل للمرحلة. هذا التركيز على الخصائص الأساسية للنصوص، الذي، من البديهي، كان له علاقة مع ما نسميه المنعطف اللساني، هو ثورة أساسية في الحياة الفكرية، لهذه السنوات. وقد كان بالتالي لهذا السبب منتقدا بشدة بالطريقة نفسها، التي انتقدت بها، مرحلة ما بعد الحداثة على نحو قليل، في كل أنحاء العالم، وخصوصاً في فرنسا. وقامت استشراقية أدوار سعيد بتجديد شامل في الخطاب العلمي، حول الغرب و «آخريه ses autres. وقد أخذ عدد كبير من المثقفين يعملون في الوجهة نفسها. وكان هؤلاء بشكل أساسي، يتحدرون من البلدان التي كانت تسمى في تلك المرحلة بالعالم الثالث، أو بالأحرى، بلدان الجنوب كما يقال اليوم، وكانوا ملتحقين بالجامعات الأنكلوسكسونية، وخصوصا في الولايات المتحدة. وكان هؤلاء المفكرون، بسبب الجو الثقافي، الذي كانوا يعيشون ويعملون داخله، مهيئين لتبني موقف العودة النقدية هذه، حول الخصائص الأساسية للنصوص، التي تتناول الاستعمار. وعلى نقيض المعاداة التقليدية للاستعمار، التي تصدر بالحري عن النقد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فقد تجاوز إلى نقد أكثر معرفية épistemique ، نقد كان يتخذ أساسه من مجمل نصوص المرحلة الاستعمارية. إن هذه النصوص التي كان ينطلق منها، هي التي أعطت ما أصبح يطلق عليه مُذَّاك فكر ما بعد الاستعمار كما ينمو الآن، في الجامعات الأنكلوساكسونية والأميركية وقليلا أيضا في كل أنحاء العالم.

o ما هي العلاقة التي يمكن أن نعقدها بين دراسات ما بعد الاستعمار والدراسات الهامشية؟

n إن الدراسات الهامشية، هي بكل دقة عنوان سلسلة من الأعمال التي ظهرت في الهند، منذ العام 1982 وقد ظهر العمل الثاني عشر والأخير منها، في 2005 . كانت هذه الأعمال بمبادرات جماعية، مجموعة من المقالات، أدارتها مجموعة من المؤرخين الشباب، الذين كانوا ضموا إليهم مؤرخين آخرين، يعملون بمقتضى رؤيتهم، بإدارة مؤرخ ماركسي بنغالي، يكبرهم سنا بكثير، وكان مستقرا في إنكلترا، ويدعى راجانيت جحا. كانت رؤية جحا ومرافقيه الشباب تستلهم التاريخ، تاريخ الطبقة الدنيا من المؤرخين المدعوين بالراديكاليين، الذين يهتمون بالشعب أكثر من اهتمامهم بالنخب، وما كان قد أراده جحا وأتباعه: تغيير النظرة المهيمنة على تاريخ الهند الاستعماري، وكتابة تاريخ الهند من تحت. وكان هذا التاريخ الذي واجهه جحا، ينتظم بقطاعين.
كان ثمة من ناحية، التاريخ الاستعماري بالمعنى التقليدي للكلمة، تاريخ إنكليزي إلى حد بعيد، قام من جهة على كتابة تاريخ الإنكليز في الهند، بدلا من كتابة تاريخ الهند في المرحلة الاستعمارية، ومن جهة أخرى، ما يمكن أن نسميه الرواية الرسمية لتكوّن الأمة الهندية، كما توجد في كل كتب التعليم الجامعي. كانوا يمجدون فيها مسار نخب الهند الوطنية، خلال معركة الاستقلال ويظهرون كيف تحركت الجماهير الهندية وراءهم، وانتزعت في النهاية الاستقلال، باتباع توجيهاتهم بدلا من أن يكون ذلك بمبادرة الجماهير الخاصة.
رؤية جحا وأقرانه كانت مختلفة كلياً. لقد كانوا يقصدون أن يستعيدوا، في آن، كرامة الشعب الهندي، وقدرته على المبادرة والفعل، واستقلاله الذاتي حيال النخب، ليبرهنوا، أنّه في الحقيقة، كان يعود للشعب، الفضل في إخراج الإنكليز من الهند. والنخب التي كانت مضطرة، للسير خلف الشعب، استولت على السلطة في النهاية، وحرمته من مكتسبات انتصاره. كان في هذا المسار، أخطاء في المنهج، أو على الأقل، مواقف يصعب الدفاع عنها، وقد وُجّه إليها النقد سريعاً: من جهة، حقيقة أن الشعب ككيان تم النظر إليه، بتعميم من خلال خصائص عامة، حالت دون التمييز حتى داخل الجماهير الشعبية الهندية، ومن جهة أخرى، وكان هذا هو على الأخص، نقد اليسار حقيقة أن الدراسات الهامشية، كانت تسند إلى الشعب المبادرة بكاملها، دون الاعتراف أنه لم يكن بإمكانه، أن يفعل شيئاً دون نخبة، دون طليعة لها تنظيمها وتوجّهاتها. كان ذلك بوضوح نقداً صادماً. من هنا فإن الدراسات الهامشية، أو بالأحرى المجموعة التي تكونها غيّت قليلاً توجّهاتها.
وبدلاً من الاستمرار في اتّجاه الدفاع عن الشعب، انتقلت إلى انتقاد خطاب النخبة الاستعمارية والهندية. وهكذا قامت، انطلاقاً من هذه اللّحظة، بإنشاء تاريخ ينتقد خصائص المرحلة. وفي فعلهم هذا وجد الهامشيون أنفسهم على أرضية دراسات ما بعد الاستعمار، التي كانت حينذاك في أوج انطلاقها. وقد اتفق فضلاً عن ذلك، أن هؤلاء المؤرّخين الهامشيين كان عددٌ منهم لامعاً، وقد توظّفوا في الجامعات الأمريكية، ووجدوا أنفسهم في المكان نفسه، الذي ولدت فيه، دراسات ما بعد الاستعمار. وقد تم نوع من الترابط بين الاثنين، وكفّت الدراسات الهامشية، عن الظهور سنة 2005 ، كمؤسسة نشر مميزة، إذ ذابت في ركام ثقافة ما بعد الاستعمار. وقد انضم عدد آخر إلى مجموعة الدراسات الهامشية، وأصبحوا نجوم فكر ما بعد الاستعمار: مثل، غياتري سبيفاك وديبيش شاكرا باتري وبعض الآخرين. وهكذا، سوف تمثل دراسات التابع ربما مرحلة ما قبل التاريخ للدراسات ما بعد الاستعمارية، ولكن في كل الحالات هي تمثل تاريخها الأوّلي.

o هل يمكن القول أن دراسات ما بعد الاستعمار هي في الحقيقة متعددة الاختصاصاتtransdisciplinaires؟

n جاك بوشيباداس: إن دراسات ما بعد الاستعمار، ليست حقل دراسة مخصوص، إنها تيار فكري نقدي، يمكن وصفه بالراديكالي، وقد تأثّر في أصوله، بالسياق الفكري الذي ظهر داخله: سياق ما بعد البنيوية، ما بعد الحداثة، وكل ما أُطلق عليه في حينه النظرية الفرنسية، لأن هذا الموقف الفلسفي كان في قسم كبير منه، ينطلق من كتابات فوكو، داريدا ودولوز إلخ. هذا الموقف النقدي، يتوجّه إلى كل الدراسات الإنسانية المخصوصة، وإلى العلوم الاجتماعية، ويدعوها إلى نوع من التميّز، إلى تحوّل في النظرة، ما ساهم كثيراً في دفعها إلى العمل على نفسها، وعلى أن تنفّك من طريقة في التفكير، تضع النموذج الأوروبي، في قلب كل شيء، وأن تعترف لطرق التفكير غير الأوروبية بجدارتها المساوية للتفكير الأوروبي. وسّعت دراسات ما بعد الاستعمار، على نحو كبير، حقل كل واحد من حقولها المخصوصة. وحقيقةً، إنها ولدت في حقل الدراسات الأدبية، وأن معظم الرواد الأوائل في تلك اللحظة، كانوا أساتذة أدب أو أساتذة أدب مقارن في الجامعات الأنكلوسكسونية. ولكن الأسئلة والتخلي عن المركزية الأوروبية، التي تقترحها، تتوجّه إلى الحقول المخصوصة وخصوصاً إلى التاريخ، الذي لم يعد ينبغي أن يكون برأيهم روايةً لأوديسة الحداثة في أرجاء العالم، ولصدمة الرأسمالية التي ولدت في الغرب، واتجهت إلى مختلف مناطق العالم، أو لمسار التاريخ المتناقض والغامض للبلدان ذات الثقافة غير الأوروبية، باتجاه نموذج التطور الغربي الذي يُعرض عليها. وعلى العكس، ينبغي للتاريخ أن يُخلي مكاناً، لكل ما يُسمى بحسب النظرة الأوروبية التقليدية، تواريخ هامشية، تاريخ الأطراف، بالتخلّ عن فكرة المركز أوالهامش. ليس ثمة سوى تواريخ ذات قيم متساوية، جدارة متساوية، وأهمية متساوية، وهي جميعاً تتبع طريقها في
ارتهان ما، نحو ظروف عالمية، ودون أن تكون منذورةً لتشبه نماذج محدّدة مسبقاً، أو أن تتوق إليها. وكذلك فإن الاتنولوجيا، الحقل المخصوص، الذي ظلّ لوقت طويل، وربما لا يزال، على شجار مع عيب ضمّه الأولي إلى مشروع الاستعمار، عليه أن يغتني بالكثير، وعلى أيّ حال، كان قد تمّ الاشتغال عليه كثيراً من خلال استبانات ما بعد المرحلة الاستعمارية. والمقصود بالنسبة له وصف الثقافة وليس التاريخ، ولكن المسألة في الحقيقة، هي، جوهريّاً، نفسها. فالدراسات الأدبية، من حيث انطلقت دراسات ما بعد الاستعمار، كانت قد اهتزّت هي نفسها بعمق. فمعيار الأعمال الكلاسيكية التي هي في قلب برامج التعليم تغيّت على نحو هائل. لقد أُدخل فيها بالطريقة نفسها الأعمال الأوروبية الكلاسيكية، وأعمال صادرة عن حقل آداب البلدان التي اُستعمرت سابقاً. إن دراسات الآداب التقليدية، قد اصطدمت بقوة بعلاقتها الجديدة كلّيّاً، بالنظرية التي بدأها النقد الأدبي، لمرحلة ما بعد الاستعمار، وبأدواتها المفهومية والمنهجية. فمعظم فروع دراسات ما بعد الاستعمار، في الجامعات الأنكلوساكسونية هي في الأساس فروع دراسات أدبية. ولكن في الحقيقة إذا نظرنا إلى برامجها التعليمية، وإلى الحقول الأصلية لطاقمها التعليمي، نتحقق أنها فروع تتمثّل فيها العلوم الاجتماعية إلى حد ما، وإن الهموم الجمالية التقليدية، تحتل أحيانا بكاملها، الدرجة الثانية. ثمة جوهريّاً ميزة تحول لحقل الدراسة المخصوص لأبحاث ما بعد الاستعمار، وهذا ما جعل لها، جزئيا المقدرة على الخلخلة والتجديد، في آن، في العلوم الاجتماعية والإنسانيات.


الكاتب : حاوره: جول نودت

  

بتاريخ : 21/04/2023