حوارات في الدين والحداثة والعلمانية -28- المؤرخ الفرنسي جاك بوشيباداس

حقيقة التاريخ هو أنه بذاته حقيقة 2/2

ما هي الرهانات والحدود التي تدور مدار فكر ما بعد الاستعمار؟ هذا السؤال المحوري شكل فضاء هذا الحوار مع المؤرخ الفرنسي جاك بوشيباداس حيث يذكرّ بان دراسات ما بعد الاستعمار، ليست مادة دراسة مخصوصة، وإنما هي تيار فكري نقدي، داعياً التاريخ، ألا يحتفل بأوديسة التقدم الغربي عبر العالم. والمعروف عن جاك بوشيباداس أنه مؤرخ الهند الحديثة. فهو خبير في المركز الوطني في للأبحاث العلمية، وعمل بشكل أساسي في وسط مركز دراسات الهند، وآسيا وجنوب آسيا لمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية. أما أبحاثه الأولية عن الفلاحين ومعركة الاستقلال في الهند المستعمرة، فقد وضعته منذ نهاية السبعينيات في علاقة تبادل ودية ونقدية، في آن، مع مؤرخين من المجموعة المؤسسة للدراسات الهامشية Subaltern Studies. حول دراسات ما بعد الاستعمار، كان معه هذا الحوار:

إن ما فتح الباب في فرنسا أمام مرحلة ما بعد الاستعمار، هي أزمة النموذج الفرنسي، في الاندماج، الذي انفجر في الفضاء العام في العام 2005 في لحظة أزمة الضواحي الشهيرة. وقد تسبب آنذاك عدد من المبادرات التشريعية للحكومة، باضطرابات حقيقية، حول مسألة ذاكرة الاستعمار، تصريحات ممثلي الجمعية التي أصبحت لاحقاً حزبّاً سياسيًّا باسم «مواطنو الجمهورية» الأصليين Indigène de la République، الذين أخذوا يتكلمون عن دراسات ما بعد الاستعمار في فرنسا، في وقت لم تكن فيه الظروف مهيأة لنقاش هادئ، ولتفكير عقلاني. ولقد تم الاستيلاء على وسْم label ما بعد الاستعمار، على نحو عجول، وفي أغلب الأحيان، دون أي صفة. أقول أن ذلك كان على وجه الخصوص، حالة فئتين من الأشخاص. من ناحية، ممثلو الحركات المطلبية لما نسميه، بمجاز فرنسي النموذج، «الاختلاف»، الذين هم ممثلون ل «أقليات واضحة»، أعلنوا أنهم ما بعد استعماريين قائلين: «إن ما نعيشه اليوم هو الإرث المباشر للاستعمار، إن عيشنا في الغيتوات، والتمييز الذي نحن ضحاياه، يعيد إنتاج ما كان قد حصل في الفترة الاستعمارية». لا يقرّ أي مؤرخ، وعلى نحو منصف، هذا الاستخدام. كان في ذلك استغلال لأفكار ما بعد الاستعمار، من قبل أقليات تعيش بالتأكيد، ضمن شروط صعبة جدا، وهم مواطنون فرنسيون، وليسوا تابعين، من بلاد مستعمرة سابقا، إنهم يستخدمون على نحو شرعي تماماً رأسمالاً رمزيّاً، كضحايا، للدفاع عن مكانهم، في الجدل الديمقراطي، ولكننا هنا في وضعية لا علاقة لها إطلاقاً مع ما هي عليه وضعية ما بعد الاستعمارية. هذه، على العكس، عرفت نقاشات، امتدت طويلا جدا، حول معنى الـ «ما بعد post «في عنوانها حيث تبين أن الـ «ما بعد post» المقصودة ليست «بعد après» كتسلسل تاريخي ولكن هي بالأحرى ما بعد au_dèlaمعرفي. إن المقصود بالذات هو نقد ما تبقى اليوم، من طرق الرؤية والتفكير، خلال المرحلة الاستعمارية، في العلوم الاجتماعية وربما في بعض المواقف المشتركة، في طرق النظر، إلى الناس الذين يأتون من مكان آخر. ولكننا نكون، إذّاك في نظرية المعرفة épistemologie لا في علم اجتماع اليوم.
إن «القرصنة» الأخرى، إذا أمكن القول لوسْم label ما بعد الاستعمار، هي صنيع مؤرخي الاستعمار، الذين أعلنوا، أنهم ما بعد استعماريين، ليقدموا مظهراً جديداً لما ليس هو، في الحقيقة، سوى التاريخ القديم، ليسار الاستعمار. وهذه طريقة محترمة تماماً، وأوافقها إلى حد بعيد، في رؤية تاريخ التوسع الفرنسي وهو نمط تاريخ يظل غالبا، في سجل الإدانة والفضيحة والجرم، وعلى مسافة سنين ضوئية، من استبانات دقيقة للغاية، ومتطورة لدراسات ما بعد الاستعمار.
إذاً، هل يمكن لدراسات ما بعد الاستعمار، أن تحمل شيئا للنقاش الفرنسي؟ أنا مقتنع بذلك، أعتقد أننا بحاجة في فرنسا لتفكير معمّق يهدف إلى إعادة تأسيس عقدنا الاجتماعي، وأن نتفحّص ما إذا كان في المجتمع الفرنسي لا مفكرٌ فيه استعماري، ينخر فيه من الداخل. نحن بحاجة إلى هذا النوع من النقاش، إلى هذه الدقة النظرية. فالتجربة الكبيرة لدراسات ما بعد الاستعمار، في نقاش هذه المسائل، يمكن أن تقدم بعض المساعدة. كان علينا أن نتجنب، مهما كان الثمن، تبسيطها أو اختصارها أو أن نجعل منها أدوات في نقاشات، لا تحمل لها شيئاً، كما فعلنا غالباً حتى الآن.

o هل لدراسات ما بعد الاستعمار مستقبل بعد مضي خمسين عاما على نهاية الامبراطوريات؟

n إذا أقررنا أن دراسات ما بعد الاستعمار هي: مرتبطة بدقة، بواقعة تاريخية محددة، أي الماضي الاستعماري للعالم الغربي، فلن يكون بوضوح مستقبل لدراسات ما بعد الاستعمار. وبالمقابل إذا رأينا أنها حقًّا حجة فرعية، لنقد استبانات العلوم الاجتماعية الإنسانية، إذا رأينا بشكل خاص، إلى أي درجة لا تني تتجدد، بمقتضى عقل الزمن أو المسائل التي تنشأ، آنذاك، أعتقد أن الإجابة ستختلف. فإحدى النقاشات الضخمة التي دارت داخل وحول دراسات ما بعد الاستعمار، في البلدان الأنكلوسكسونية ،خلال العقد الأول من هذا القرن، كانت لمعرفة إذا ما كانت الإمكانات النقدية والمردود الفكري لدراسات ما بعد الاستعمار، تستطيع أن تحافظ على بقائها مع العولمة، ومع التغييرات الكبيرة، لتوازن القوى في العالم، بحيث يبدو أن التوازن الاستعماري لم يعد من مكوّنات الواقع، إذ أن عددا من مفكري مرحلة ما بعد الاستعمار لاحظوا ذلك بأنفسهم وتوقعوا أن تكون استبانات ما بعد الاستعمار، في طريقها إلى الاختفاء، وأنها ستخلي مكانها، قريبا،ً لشيء آخر. ينبغي أن نرى جيدا، من هذا الموقع، أن ثمة فكرة ما نسميه العولمة، التي هي ظاهرة جذرية بجدتها. وعليه فإن النقاش حول هذه المسألة، أبعد من أن يقفل. فالقرابة بين الاستعمار أو بالحري مرحلة السيطرة الاستعمارية، وعولمة اليوم قد أوضحها عدد كبير من المحللين. والعولمة-أستخدم الكلمة الإنكليزية – globilisation – ليست سوى التمدد الأقصى لما كانت عليه إمبريالية المرحلة الاستعمارية. وبالتأكيد لا يزال هناك الكثير، مما ينبغي فعله لنفهم العالم، الذي نعيش فيه اليوم، بالأدوات التي كانت بحوزتنا لشرح نظام العالم منذ قرن. ولكن هذا النقاش لم يقفل مرة أخرى، فدراسات ما بعد الاستعمار، هي بصدد دمج عدد كبير من الأبحاث) هي في الحقيقة مرتبطة بعمق بما كانت عليه في البداية (التي تأخذ في الحسبان ظاهرات معاصرة جدّاً. إذ أن عدداً من فروع دراسات ما بعد الاستعمار، غيّت اسمها من «ما بعد الاستعمار» poscolonial ليصير «عابر للاستعمار transcolonial» متمحورة حول مسألة الهيمنة، باتجاه استبانات تتناول أكثر حقائق التنقل، التبادل، التعايش وتدفق المهاجرين. إننا نسير باتجاه إندماج fusion هذين الحقلين: دراسات ما بعد الاستعمار ودراسات العولمة. ويمكن أن نفكّر في هذا الوضع المتحرك، أن دراسات ما بعد الاستعمار، في طريقها إلى التحوّل باتجاهٍ يعطيها عقد إيجار غير محدود، أو على أيّ حال، بأفق بعيد جدّاً. والمسألة بعد ذلك هي في معرفة إذا ما لا زلنا نستطيع تحديد حقل دراسات متقلّب، إلى هذا الحد. والصحيح أن دراسات ما بعد الاستعمار، تتطور منذ البداية في مناخ متعدد الاختصاصات transdisaplinaire وفي جوّ جدل مستمر، وكانت تطمح لأن تكون محل استبانات متقاطعة، ذات نزعةٍ لاستثمار حقول الدراسات من الداخل، ولفتحها وخلع إطاراتها. ثمة شيء متكافئ مع الدراسات من النوع نفسه.


الكاتب : حاوره: جول نودت

  

بتاريخ : 27/04/2023