مشكلة الغرب الكبرى في خوائه الميتافزيقي
المعروف أنّ المفكر الفرنسي الراحل كريستيان بونو حائز على شهادة الدكتوراه في حقل العرفان الإسلامي من جامعة «السوربون» الفرنسية، وله مؤلّفات فكرية في الإسلاميات، مثل: (التصوّف والعرفان الإسلامي)، و(الإلهيات في الآثار الفلسفية والعرفانية للإمام الخميني)، (تأليف وترجمة وتفسير القرآن الكريم باللغة الفرنسية) ولم يكتمل بعد. الحوار الذي أجراه معه الدكتور أمير عباس الصالحي تركَّز حول هذين البعدين معاً وإن كان المنطلق هو الوقوف على رؤيته حيال غربٍ آيلٍ الى الاضمحلال والتهافت.
o ما رؤيتكم إلى البنية المعاصرة للحضارة الغربية من الناحيتين المعرفية والاجتماعية؟ وما هيالمقدمات التي يجب التركيز عليها من أجل الوقوف على أهم مشكلاتها البنيوية؟
n هذا السؤال واسع جداً، ويمكن للجواب عنه أن يؤدّي بنا إلى تأليف كتاب من مجلدات عدَّة. ولكني سأكتفي ببعض المقدمات الهامّة في هذا الشأن:
المقدمة الأولى: علينا الفصل بين الانتقاد والاقتراح. ففي الاتجاه النقدي يعمل الفرد على مراجعة الكتب والأعمال المعنية، ثم يعمل على نقدها من زاوية خاصة. وهنا لا يتمّ اقتراح طريق للحل بالضرورة، ويمكن للنقد أن يكون صائباً، ولكن لا يشار فيه إلى الحلول. يمكن لهذه الانتقادات أن تنتظم ضمن خلفيات متنوّعة، من قبيل: نقد الماركسية، ونقد البيئة، ونقد الاقتصاد وما إلى ذلك. وهي في الحقيقة ترد من زوايا مختلفة.
المقدمة الثانية: إن أكثر وأهم الانتقادات القوية والدقيقة والنافعة يمكن العثور عليها في التحقيقات الغربية، وفي المقابل نجد الانتقادات المطروحة في الشرق ضعيفة، وأكثرها غير مستدل؛ بمعنى أن أغلبها عاطفي أو سطحي، وهذا بدوره أمر طبيعي أيضاً؛ إذ عندما يُسأل: من الذي يمكنه أن ينتقد الوضع في إيران بشكل أفضل وأدق؟ من الطبيعي أن يكون الجواب هو: إنهم الإيرانيون أنفسهم؛ وذلك لأن الانتقاد الصادر منهم في الأعم الأغلب دقيق ومستدل، فيما الانتقاد الصادر من الأجانب بشكل عام لن يكون دقيقاً. وعليه، فإن المواطنين في كل بلد يمكن لهم انتقاد بلدهم بشكل أفضل من المواطنين في البلدان الأخرى، شريطة أن يكونوا مؤهلين لإبداء النقد حول شؤون أوطانهم.
وبغض النظر عن هاتين المقدمتين، فإن الاتجاه التخصصي الذي يتعرّض إلى مسألة انهيار الغرب، يُعدّ من المسائل الهامة. يطرح أحد المفكرين الذي يتحدث عن هذا الانهيار هذا المثال القائل: «لدينا بحيرة وقد غطت الزنابق سطحها، وفي كل ليلة يزداد عدد هذه الزنابق بمقدار الضعف. واليوم قد غطت الزنابق نصف حجم البحيرة، ولم يبق أمامنا سوى ليلة واحدة حتى تغطي الزنابق جميع سطح البحيرة». لا يبعد أن تكون مسألة انهيار الحضارة الغربية شيئاً من هذا القبيل، ولكن لا تزال بداية هذا الانهيار غير محددة. فهل سيبدأ الانهيار من مشاكل تتعلق بالبيئة، من قبيل: ارتفاع حرارة الأرض، أو شحّ أو فقدان مصادر الغاز والطاقة؟ أم بسبب المشاكل الاقتصادية والأنظمة المالية؟ هذا ما لم يتضح بعد بشكل جيّد.
o إذا أردنا أن نحلل هذه الانتقادات بشكل منهجي، وملاحظة ذلك ضمن مشروع بعنوان «الاستغراب الانتقادي»، فما هو، من وجهة نظركم، المسار الذي يجب أن نتخذه أولاً، وكيف ترون طريقة التقدّم به؟ بعبارة أخرى: كيف ندير هذا المشروع كي نطوي هذا المسار المنطقي ونصل إلى النتائج المطلوبة؟
n لقد أجبت عن السؤال الأول من الناحية المعرفية والاجتماعية؛ ولكني أرى أن أفضل طريق إلى الدخول في هذه المسألة يكمن في الناحية الأساسية والجذرية، أي من الزاوية الميتافيزيقية. في كتاب بعنوان «القرن التاسع عشر قرن الغباء»، تم وصف هذا القرن بأنه يمثل مرحلة تقوم الحضارة فيه على التقنية، والتقنية تقوم على الإبداع، والإبداع بدوره يقوم على الخواء والفراغ الميتافيزيقي. ومن هذه الناحية، فإن الأسلوب الميتافيزيقي يعتبر اتجاهاً توصيفياً / تحليلياً، وفي المقابل، تمثِّل الأساليب التوصيفية البحتة نظيراً للنزعة التاريخية. من ذلك مثلاً أن قيام الرأسمالية على الروح البروتستانتية يُعدُّ توصيفاً. إلا أن الافتقار إلى المسألة الميتافيزيقية أدى إلى عدم تحقق هذه المسألة بشكل مبكر. إن المراد من الميتافيزيقا، هي ميتافيزيقا اللاهوت بصفة عامة وليس اللاهوت بالمعنى الأخص. إن هذا التقرير يثبت أنه غير مشروط بالرؤية اللاهوتية. من هنا، فإن هذه الرؤية أو الفرضية يمكن أن تكون بمنزلة التنمية اللامتناهية في عالم محدود. والواقع أن هذا التناقض الميتافيزيقي يقع في الأمور العامة، وهو بطبيعة الحال تناقض منطقي. هذا التناقض الأساسي والمنطقي لا يمكن له أن يحقق التنمية المطلقة في عالم محدود. فحتى لو كان الشخص مؤمناً بشدة، ولكنه يفتقر إلى الأساس الميتافيزيقي، فإنه سيصل لا محالة إلى مثل هذه النتيجة التي وصلت لها الحضارة الغربية. ولهذا السبب تغدو التنمية المطلقة في العالم المحدود ضرباً من المحال. وتبقى هذه الاستحالة قائمة حتى إذا كانت الحضارة حضارة إسلامية؛ وذلك بسبب غياب الأرضية الميتافيزيقية. والمراد من الميتافيزيق هنا هو الأصول والقواعد العقلية. في ضوء هذا المعنى، يمكن متابعة البحث في جميع مظاهر الحضارة الغربية أو ما وجد على المستوى البنائي في الغرب، بوصفها معرفة ميتافيزيقية، والوصول إلى أصولها. عندما يتحدث «هنري كوربان» عن مشكلة الفكر الغربي الشائع ويقول إنها بدأت في الحد الأدنى من القرن الثاني عشر للميلاد، وأدت إلى ثنائية الذهن والعقل وتقسيم العالم إلى بعدين، فإن هذه المشكلة بدورها تعود إلى المسألة الميتافيزيقية أيضاً، وهذه المسألة بدورها تعود إلى القرون الوسطى. إذ لو لم نلاحظ أي صلة بين المادة والأمر المجرّد، ولم نأخذ بنظر الاعتبار إمكانية الأشرف والأخص، فإن الكثير من المسائل لا محالة لن تكون قابلة للإدراك. وعلى هذا الأساس، فإن التعاطي مع الطبيعة يقوم بدوره على أساس ميتافيزيقي أيضاً. من ذلك مثلاً هل يُسمح للإنسان بوصفه أشرف المخلوقات، أن يقوم بكل ما يحلو له؟ لماذا يتم تصوّر الإنسان بوصفه كائناً في قبال الطبيعة، في حين أنه جزء من الطبيعة؟ وعلى يتمّ تصوّره في قبال الطبيعة؛ وذلك لأنه إلى جانب سائر المخلوقات الأخرى، يعدّ واحداً من هذه المخلوقات. وعليه، فإن هذا الأصل الجوهري والأساسي يقوم بدوره على عدم الإشراف على المسائل المعنوية والحقيقية. ثم إن حصر المادة في المحسوس بمنزلة الفهم المخالف للعقل؛ لأن العقل يحكم بأن المعقولات بدورها جزء من الحقائق والواقعيات. من هنا، فإن قانون العلية جزء من المعقولات أيضاً؛ إذ لا يمكن استنباط أي محسوس من أصل العلية. وعلى هذا الأساس فإن المسألة الأصلية تكمن في المعقول والعقلانية.