حوارات ولقاءات مع بيير بورديو 27 – ضد الآفة النيو ليبيرالية 12/30

n نلاحظ بدءا، ومنذ مطلع التسعينيات، أنكم إلى جانب أعمالكم الكلاسيكية «الخاضعة للمراقبة المنهجية»، تُصدرون «دوافع للتصرف»، من خلال نصوص فعلية، «حول التلفزة «مثلا و، اليوم، «نيران مضادة». كيف بلغتم هذا الحد؟
pp إن المداخلات التي قدمتها في الفاضاء السياسي قديمة أكثر، إلا أنها بارزة أقل، لأنني أنا نفسي كنت بارزا أقل وقتها. أفكر هنا في المداخلات حول بولونيا مع ميشيل فوكو، سنة 1982، لكن أيضا في اتخاذ مواقف ثابتة حول الجزائر، البلد الذي عرفته معرفة جيدة لأنني أجريت به تحقيقات لمدة طويلة. بناء على ذلك، منذ قرابة عشر سنوات، ناضلت بوجه الخصوص لخلق « مثقف جماعي «. قبل عشر سنوات، بالمعرض الدولي للكتاب في ميلانو، نظمت لقاء قرابة خمسين مثقفا أوروبيا لمحاولة تشكيل هيئة دولية قادرة على اتخاذ مواقف بشكل منتظم حول القضايا السياسية التي تهم المثقفين. دعوت إلى خلق المثقف الجماعي في كل مكان تقريبا، عبر مجلة « ليبر « بوجه خاص. من بين مشاكل هذه اليوطوبيا، مشكل ولوج وسائل الإعلام. كانت رغبتي أن أمنح المثقفين من جديد وسائل نشرهم الخاصة بهم، السماح لهم بالكلام عوض أن تتكلم عنهم وسائل الإعلام. للأسف، فوسائل الإعلام لا ترغب في معرفة الكتاب إلا كفرديات وتجعل من الصعب، أو العبث، أي مجهود للحديث الجماعي، أقدم أمثلة على ذلك في كتابي.
n لهذا السبب خلقتم، قبل سنتين، داركم الخاصة للنشر(1)؟
pp إن المجموعة نتاج عمل جماعي حقيقي لباحثين، مؤرخين، رجال اقتصاد، سوسيولوجيين، كما أن المنظمة التعاونية « جمعية التفكير في التعليم العالي و البحث « التي اقترحت مؤخرا وصفا إكلنيكيا، رهيبا إلى حد ما، للجامعة الفرنسية. يتعلق الأمر بدار مستقلة للنشر، توفر منبرا يساعد في الإفلات من اللوبي المنهِك الضروري لنشر بعض الصفحات في وسائل الإعلام. وقد حققت الكتب الصغيرة التي نُصدرها، بالنسبة لاثنين من بينها، أزيد من مائة ألف نسخة. بذلك أصبحنا نتحكم كلية في كلمتنا، بعيدا عن أية رقابة. تذكروا كتاب سيرج حليمي حول صحافة التبجيل، « كلاب الحراسة الجديدة «. من المؤكد جدا أنه ما كان ليجد له ناشرا…
n تندرج دار نشركم ضمن روح « المقاومة «، فالكلمة تتردد كثيرا.
pp نعم. إننا نرغب في ممارسة قوة سلبية، أي، قبل أي شيء آخر، مقاومة وسائل الإعلام الأكثر قوة، مثلا « لوموند «، حتى لا أذكر اسمه، الذي يُهوﱠن الخطاب النيو ليبيرالي حول العالم الاجتماعي. نجاح المبيعات مهم إذن، لأنه يُجبر وسائل الإعلام على أن تأخذ ما نقوله بعين الاعتبار. اليوم، للأسف، تُقاس قوة الأفكار بقوة العدد. إنه فكر معدل المشاهدة. و نحن نطمح، من خلال كتبنا، إلى أن نحفظ بعض القواعد أو أن ندفع، على الأقل، إلى احترامها. من هنا عنوان كتابي « نيران مضادة «. إن الصحافيين الكبار، الذين يمتلكون اليوم سلطة واسعة، يسعون أحيانا إلى جعلنا نعتقد أن المثقفين يسعون إلى احتلال سلطة إرهابية على النمط الستاليني. لا يسعى المثقفون، في الحقيقة، إلى السلطة؛ إنهم يطمحون إلى سلطة مضادة، فعالة، يطمحون إلى سلطة أن يقولوا « لا «.
يهيمن شعوران، في كتابكم، من جهة « الغضب الشديد « اتجاه عالم اقتصادي جائر، ومن جهة أخرى الثناء على « معجزة « اجتماعية، المقاومة العفوية التي يواجهه بها العاطلون و المضربون في فرنسا. مع ذلك، يحصل لدينا الانطباع، ونحن نقرأ الكتاب، أن التشاؤم يتغلب…
هناك يأس بخصوص مآل المجتمعات الأوروبية، وهناك أيضا غضب شديد يثيره المثقفون الذين يتحولون إلى متواطئين مع القوى التجارية. يمكن القول إن ما يُولّد الغضب هو الخفة الباريسية، تلك النبرة المألوفة التي نُلزم أنفسنا بالحديث بها ونحن نتناول أشياء جدية، ما يساعد على كل أصناف الردة وعلى جميع المتسويات. إن الخفة الباريسية تقتل القناعة. لحسن الحظ أنني أجريت تجارب أخرى، إضافة إلى مساهمتي في حركات اليسار الجديد، أقصد يسار اليسار، ما جعلني أكتشف، بخلاف ما سبق لي وصفه، مناضلين نزيهين، يمارسون، على نحو ما، الفن لأجل فن السياسة. إنهم ينفلتون من البديل المزيف، بديل التفاؤل أو التشاؤم؛ قد يكون ميؤوسا من معركتهم، لكنهم يفعلون ما ينبغي فعله. من هنا إعجابي بحركة المعطلين التي أفلحت في أن تكون بفرنسا، بل إنها امتدت إلى ألمانيتا. هذه الحركة التي كانت بعيدة الاحتمال إلى حد كبير، درجة أن الاشتراكيين أنفسهم تسرعوا و انتقدوها، الحركة التي لم تكن مدعومة في الغالب من قِبل وسائل الإعلام، تمكنت من تجاوز الحدود!
n بمجرد أن ينتقل السوسيولوجي من الدراسة التي تُضفي الموضوعية على النص الملتزم، يتمكن الغموض: هل « يكشف « الميكانيزمات المخبأة أم أنه « يُدينها « ؟ هنا يكمن مصدر ردود الفعل الأولية ضد « حول التلفزة «. كيف تصفون الهدف من عملكم؟
يكمن هنا مشكل الاختلاف بين أن نصف و أن نوصي، في العلوم الإنسانية. لدينا مثال ميلتون فيرييدمان، رجل الاقتصاد المعروف جدا من مدرسة شيكاغو. عمل فرييدمان مستشارا اقتصاديا لبينوشي، في الشيلي، في سياسته الليبيرالية المتطرفة. هل يتعلق الأمر باقتصاد وصفي؟ أنا نفسي، كنت ضحية انسجام الحياد مع المُثل الأخلاقية العليا، عدم الانخراط العلمي. كنت أمنع نفسي إذن، عن خطأ، من استخلاص بعض الاستنتاجات البديهية من عمل التحقيق الذي كنت أمارسه. بدافع الضمانة التي يوفرها السن، بدافع الاعتراف أيضا، وتحت ضغط ما أعتبره نوعا من الملحاحية السياسية الحقيقية، دُفعت إلى التدخل في الميدان الذي يطلق عليه ميدان السياسة. كما لو كان بإمكاننا الحديث عن العالم الاجتماعي دون ممارسة السياسة ! نستطيع القول بأن السوسيولوجي يمارس السياسة بمقدار اعتقاده أنه لا يمارسها.
n إنكم تحذرون من « تدهور الفضيلة المدنية « في الديمقراطيات المعاصرة. تكاد تكون تجربة رجل أخلاق. ما قصدكم بذلك؟
pp قد يبدو التعبير معياريا جدا. الحال أن هناك سلوكات كونية أكثر من أخرى، حسب الاختبار الكانطي للعالمية. تقوم « الفضيلة المدنية « في فعل الوعي بأننا متضامنون موضوعيا، وبأن لأعمال البعض عواقب على البعض الآخر. إن مجموعة من مكتسبات الصيرورة التاريخية التي خلقت الدولة الديمقراطية ( الضمان الاجتماعي، الذي يسعى البعض إلى تعويضه بتأمينات، إلخ ) يتهددها الفكر الليبيرالي.
n إن الدولة الاجتاعية فتح تاريخي يفترض فيه ضمان الصالح العام، كما تُذكرون بذلك. إنها مهددة اليوم ايضا من طرف النيو ليبيرالية التي تُحفّزها كما لو كانت جهازا بيروقراطيا، يتشكل من مظاهر، إلخ.
pp إن هدف السياسة الليبيرالية، المبنية على نظرة ضيقة للاقتصاد، هو تدمير التنظيمات الجماعية كلها (الدولة، الجمعيات، الأسر، إلخ )، كل فرامل السوق الخالصة، لمساعدة القوات لكي تُمارس ذاتها بكل حرية. إن هدفها نفي النظام الاجتماعي الذي كنت تحدثت عنه؛ تفكيك الدولة الاجتماعية، في الوقت الراهن، من خلال الاتفاق العسكري حول الاستثمار مثلا، من تدابيرأخرى، الذي يُحطم العديد من البنيات الأساسية. بذلك، نعلم كون المهيمن عليهم يدعمون الدولة الاجتماعية. لكي نطرح مثالا دقيقا، كلما هزلت الدولة الاجتماعية، كلما تزايدت هشاشة مناصب الشغل النسائية. لماذا؟ ما يتم إضعافه هو ما أسميه « اليد اليسرى « للدولة ( المستشفيات، الخدمات الاجتماعية )، المهيمن عليهم في الخدمة العمومية، وهنا تكون النساء ممثلات أكثر… من هنا، فإن « اليد اليمنى « للدولة من جهتها ( الموظفون الكبار، خريجو المدرسة الوطنية للإدارة، إلخ ) يدعون ( الآخرين ) إلى المبادئ النيو لبيرالية ويفرضونها عليهم.
n تنتقدون بوجه خاص دور وسائل الإعلام في هذه الصيرورة.
pp نعم، لأن هؤلاء يساهمون بنصيب من الخفة، بعدم الاكتراث، بالجهل كذلك، في المُواء النيو ليبيرالي. دون اعتبار أولئك الذين يواصلون إلقاء الخطب السياسية المحافظة، أولئك الذين يتم تقديمهم كما لو كانوا حداثيين… كما هم الكذابون الجيدون كلهم، يكذبون جيدا لأنهم هم أنفسهم خُدعوا.
n بمهاجمتكم لكتاب أمثال فيليب سولرس أو بيرنار – هنري ليفي، تظهرون كذلك إلى أي حد يمكن أن تكون للمنطق النيو ليبيرالي آثار مشؤومة في العوالم الفنية. هل بإمكانكم إعطاءنا أمثلة بهذا الخصوص؟
pp سأتناول مثال سوق النشر، الذي نجري بخصوصه الآن تحقيقا كبيرا. إننا نقف على ما أسميه « الثورة المحافظة « في ميادين الإنتاج الثقافي، لدى الفنانين وعلى مستوى المؤسسات أيضا. هناك التقاء ومصادفة بين مصالح الكتاب، الوقحة إلى حد ما، الذين يقدمون الخضوع للأحكام التجارية كما لو كان ثورة أدبية ( كذلك ما نقرأه حول « الجيل الجديد « الروائي، « العودة إلى الواقعي «، « نهاية الشكلانية « ) ومن جهة أخرى، تجميع متزايد للنشر. هذا التجميع الملحوظ في الصحافة الكبيرة كما في النشر الأدبي، يصاحبة نصر معمم للمنطق التجاري؟ كما كان يقول لي حِرفي من عالم التحرير، يخضع النشر بشكل متزايد لتسيير أناس لا يقراون الكتب، بل قوائم المبيعات… لذلك أهاجم الدعابات السخيفة للكتاب الذين بمزاحهم حول هذه القضايا، يقطعون الغصن الذي يجلسون عليه.
لنبق في السياق نفسه، كيف تفسرون كوننا نسجل، في الصحافة الكبيرة، رواج « مواضيع المجتمع «، التي يرافقها احتقار الصحافيين المعلن ل « السوسيولوجيين «؟
تتمتع السوسولوجيا بامتياز إنتاج إجماع سلبي، تحقيق إجماع الصحافيين، الفنانين وغيرهم ضدها، لأنها تقول بخصوصهم أشياء سماعها مؤلم. أما العلماء الفيزيائيون مثلا، فليس لديهم عموما أي مشكل معها. لكي يصنع الفرد من نفسه كاتبا، مثلا، من المتداول أن يعلن احتقاره للسوسيولوجيا. كما أن الفلاسفة نادرا ما يحبون السوسيولوجيا، لكن لأسباب أخرى عرضتها في « تأملات باسكالية «: لأنها تسائل وجهة نظرهم المتلاعبة، ومن هنا نعتهم بالملاحظ الأسمى و الأعلى. عموما، الأكثر شراسة اتجاه السوسيولوجيا هم، على نحو غريب، أولئك الذين لا يعرفون أبجداياتها… أما فيما يتعلق بالصحافيين، فقد جعلهم « بؤس العالم « يكتشفون أن أولئك الناس الذين يجعلونهم يتحدثون عادة ( أتحدث عن الصحافة المكتوبة ) أو الذين يُخرسونهم ( أتحدث هنا عن الصحافة المرئية و المسموعة ) لديهم أشياء رائعة يمكنهم التعبير عنها، إذا أُحسن الاستماع إليهم. عدد كبير من الصحافيين لا زالول يعرفون ذلك، لكنهم يجدون، هم أنفسهم، صعوبة متزايدة في إسماع صوتهم… إن إثارة « المجتمع « و ترسيخه هي بالفعل المضاد الدقيق للسوسيولوجيا.

1 – Edition Liber – Raisons d’agir.
Le Temps – 28 – 29 Mars 1998 Mars 1998