حوار الحضارات.. انتصار للمشترك الإنساني ودرء لنزوعات التطرف والغلو

في عالم تحتدم فيه النزاعات المسلحة على خلفية تضارب المصالح السياسية والاقتصادية، وتتفاقم فيه نزوعات الهيمنة والاستعلاء تعصبا لمعتقدات دينية أو توجهات فكرية وثقافية، وتستفحل فيه ظواهر التطرف والغلو، تزداد الحاجة إلى تواصل هادئ وهادف وبناء يتأسس على قيم التفاهم والتسامح والسلام والتعايش بين الشعوب والأمم، انطلاقا من حوار حضاري راق يستلهم من التنوع الهوياتي والخصوصيات الثقافية قوته وتكامله، انتصارا للمشترك الإنساني ودرء لنزوعات التنافر والتباعد.
ذلك أن الحوار بين الحضارات، كمفتاح قيمي للانعتاق من حالة الشرود التي تتخبط فيها البشرية، وكسبيل للتصدي لخطاب الكراهية ونزوعات التطرف والإقصاء والتفرقة والطائفية، يبقى ضرورة حتمية ترقى إلى مقام الواجب الأخلاقي والفكري والإنساني لتحقيق التعايش بين المجتمعات، وحل ما استعصى من خلافات ونزاعات. فما أحوج عالم اليوم إلى إيمان حقيقي بجدوى إعلاء القيم والمبادئ الكونية كقاسم مشترك بين كافة الحضارات على اختلاف وتمايز روافدها.
إن تطور مسار التاريخ والتغيرات المتلاحقة التي شهدها المجتمع الدولي خلال العقود الخمسة الأخيرة، وما واكب ذلك من تطور تكنولوجي وانفتاح تواصلي، أفرز سياقا مشحونا تصدرته مواجهات فكرية وإيديولوجية بين من نظر لصدام الحضارات ومن دافع عن حتمية الحوار في ما بينها؛ باعتباره طوق نجاة من شأنه أن يجنب العالم السقوط في غياهب المجهول.
ولن يكون من باب المبالغة الجزم بأن مسار التنمية الذي تنشده الإنسانية، بل ومستقبلها، يتوقف، في ظل الظرفية الراهنة الموسومة بالحروب وظواهر الغلو والتطرف والسباق نحو التسلح، على انفتاح حضاري يسهم في تجاوز مظاهر التنافر وسوء الفهم والأحكام الجاهزة التي يتم توظيفها لتأجيج الصراع بين الشعوب وتعميق الهوة بينها.. وهو حوار تقوده، كل من موقعها، النخب الفكرية والعلمية والسياسية، والقيادات الدينية، وتنخرط فيه الدول المسؤولة أخلاقيا عن مصير الإنسانية.
كما أن ما يتربص بالإنسانية في هذه المرحلة من تحديات متعددة وأزمات متفاقمة، لعل أخطرها الصراع على التحكم في الموارد وتداعيات التغيرات المناخية والأوبئة التي تحول دون تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة وتنذر بمستقبل قاتم، تستدعي التفافا حول نقاط التلاقي، لا تعصبا لموجبات التفرقة.
وتقتضي هذه المرحلة، أيضا، وعيا عميقا بالأهمية الحيوية لتدافع سلمي يقبل بالاختلاف، ولحوار حضاري عالمي ترعاه وتؤطره، عبر منتديات وتظاهرات ومبادرات علمية، المؤسسات السياسية والمدنية والمحافل الأكاديمية.
وتكون الغاية من ذلك كله مد الجسور سعيا للتقارب والتفاهم الإنساني على قاعدة الاحترام المتبادل بين كافة الثقافات والحضارات، وإعلاء مبادئ التعددية والحق والعدل والإنصاف والخير بوصفها قيما ثابتة لا تخص حضارة دون أخرى أو دينا دون آخر.
ومن بين المنتديات العالمية التي تسعى إلى تحقيق هذا المبتغى، يبرز المنتدى العالمي لتحالف الحضارات الذي أطلقته منظمة الأمم المتحدة كفضاء محفز للحوار والتلاقح الفكري، والتواصل بين مختلف الحضارات والتفاعل الإيجابي في ما بينها في عالم ما فتئ يرتبط فيه الصراع بالمعتقد الديني.
وقد حدد المنتدى، الذي تأسس بمبادرة إسبانية-تركية سنة 2005، كهدف له تشجيع الحوار بين الحضارات والأديان لمحاربة الأفكار الجامدة والمواقف السلبية تجاه الشعوب، وإيجاد منصة للتلاقي بين الحضارات في كنف التسامح والعمل المتشرك.
كما أن “منتدى تحالف الحضارات”، باعتباره واجهة عالمية للحوار الثقافي، يقدم الدعم لإرساء السلم والتعايش العالميين ويشجع المبادرات، لا سيما ذات الصلة بالتعليم والهجرة والشباب والإعلام، والرامية إلى تشكيل وعي ثقافي وحضاري عالمي ينافح عن الحقوق التي تكفلها المواثيق الدولية والشرائع السماوية وتضمنها المبادئ الكونية.
أما والعالم يرزح تحت وطأة الحروب والنزاعات والأزمات الاقتصادية والسياسية والبيئية، فأمامه خياران لا ثالث لهما؛ إما مد جسور الحوار والارتقاء في مدارج التعايش والمحبة، وإما الانحدار إلى درك الاقتتال والغلو والفرقة، بينما تقتضي الحكمة الانتصار للقيم الكونية التي تفرضها وحدة مصير الإنسانية.


الكاتب : لمياء ضاكة

  

بتاريخ : 22/11/2022