حوار بين سيوران وفرناندو سفاتر 2-2: أنا في حاجة إلى لغة متوحشة وهامشيتي جوهرية اليوتوبيا هي هشاشة التاريخ الكبرى، ولكن أيضا قوته العظمى

نواصل هنا نشر الجزء الثاني من الحوار المترجم بين إميل سيوران وفرناندو سفاتر، والمنشور بجريدة الباييس الاسبانية في 23 أكتوبر 1977 تحت عنوان(Escribirpara despertar)، ونقله من اللغة الإسبانية الى الفرنسية غابريال لاكولي.

 

– فرناندو سفاتر:ماذا تقولون عن «الفلسفة الجديدة» الفرنسية، حرب كلامية جنينية يومية ؟
– سيوران: حسنا، لا أستطيع القول إني أعرفهم جيدا، لكن عموما، أعتقد أن الأمر يتعلق بأشخاص يسعون إلى الخروج من حلمهم الدوغمائي …

– فرناندوسفاتر : لقد كتبتم واحدا من أروع كتبكم حول موضوعة اليوتوبيا .
– سيوران : أتذكر جيدا كيف أثير اهتمامي أثناء نقاش بمقهى باريس بصحبة ماريا زامبرانو (Maria Zambrano) في الخمسينات. قررت آنئذ كتابة شيء ما حول اليوتوبيا. شرعت في قراءة اليتوبيين: طوماس مور، فورييه، كابي، كامبانيلا Campanella)( … بداية بغبطة مفتونة، وفي ما بعد بضجر، وانتهاء بسأم قاتل. إن السحر الذي يمارسه اليتوبيون على العقول الكبيرة شيء لا يصدق: فقد قرأ دوستويفسكي، على سبيل المثال، كابي Cabet)( بإعجاب . كابي الذي كان غبيا تماما ، مادون فورييه Fourier)( ! كلهم كانوا يؤمنون بقدوم الألفية؛ بضع سنوات، عقد، كحد أقصى …كان تفاؤلهم مُحبطا ، رؤيتهم الوردية المفرطة ، نساء فورييه اللواتي كن يرقصن أثناء عملهن في ورشات العمل … لقد كان هذا التفاؤل اليوتوبي بصريح العبارة قاسيا جدا. أتذكر، على سبيل المثال، لقاء جمعني بتيلار دو شاردان Teilhard de Chardin)( : كان الرجل يطيل الحديث بحرارة حول تطور الكون صوب المسيح، النقطة أوميغا ، إلخ. آنئذ سألته كيف كان يرى الألم البشري . « يعتبر الألم والمعاناة، قال لي، حادثا بسيطا للتطور. « تركته مستاء، رافضا الحديث مع هذا المعتوه ذهنيا. أعتقد أن اليوتوبيا واليوتوبيين لديهم مظهر إيجابي، في القرن التاسع عشر، بتسليط الضوء على الفوارق الاجتماعية وعلاج ذلك بشكل مستعجل. لا ننسى أن الاشتراكية هي في آخر المطاف ابنة لليوتوبيين. إلا أنهم يستندون على فكرة مغلوطة، هي فكرة الكمال اللامحدود للإنسان. تبدو لي نظرية الخطيئة الأصلية أكثر ملاءمة، بمجرد تجريدها من إيحاءاتها الدينية، على المستوى الأنثربولوجي تماما. ثمة سقوط لا يمكن علاجه، فقدان ما من شيء يمكن تعويضه. وفي الواقع فإني أعتقد أن ما جعلني أنأى بنفسي تماما عن الإغراء اليوتوبي، هو ميلي للتاريخ؛ إذ إن التاريخ هو ترياق اليوتوبيا على الرغم من أن ممارسة التاريخ تعتبر قطعا مضادة. ومما لا شك فيه أن اليوتوبيا تعمل على السير قدما بالتاريخ، تحفزه. نحن لا نتصرف إلا من خلال افتتان المستحيل، مما يعني أن مجتمعا ما عاجز عن ابتكار يوتوبيا والتمسك بها، هو مجتمع مهدد بالتصلب والانهيار. إن اليوتوبيا، بناء الأنساق الاجتماعية المثالية، هو وهن فرنسي بامتياز؛ فما يعوز الفرنسي في الخيال الميتافيزيقي يتم تعويضه بالخيال السياسي. إنه يبتكر أنساقا اجتماعية مثالية، لكن من دون أن يأخذ في حسبانه الواقع. إنها نقيصة وطنية: لقد شكل ماي 68، على سبيل المثال، إنتاجا دائما لأنساق من كل الأصناف، أكثر ألمعية وغير قابلة للتحقيق بعضها بعضا.

السلطة هي الشر

– فرناندو سفاتر: إن اليوتوبيا، إن جاز التعبير، هي قضية سلطة مجانية وليست متعالية عن المجتمع. ما هي السلطة، سيوران ؟
– سيوران: أعتقد أن السلطة سيئة أكثر سوءا. إنني مستسلم وقدري أمام حقيقة وجودها، لكني أعتقد أنها مصيبة. اسمع، لقد تعرفت أشخاصا تمكنوا من السلطة، ثم إن ذلك شيء رهيب. شيء رهيب مثل كاتب يصبح شهيرا. أشبه بارتداء زي رسمي؛ فعندما يرتدي المرء لباسا رسميا، لن يعود هو نفسه: حسنا، إن بلوغ السلطة هو ارتداء زي رسمي غير مرئي، يكون على الدوام هو هو. أتساءل: لماذا يقبل شخص ما أو يبدو أنه كذلك السلطة، يقبل أن يعيش منشغلا من الصباح إلى المساء، إلخ؟ بالتأكيد لأن السلطة تعتبر رغبة، نقيصة. فلهذا السبب لا وجود بشكل عملي لأي حالة مستبد أو قائد شمولي يتخلى عن السلطة طواعية: وحدها حالة سولا Sylla هي التي أتذكرها.السلطة شيطانية: لم يكن الشيطان سوى ملك لديه طموح من أجل السلطة. إن الرغبة في السلطة هي أكبر لعنة للبشرية.

– فرناندوسفاتر: نعود إلى اليوتوبيا…
-: إن مطلب اليوتوبيا هو مطلب ديني، رغبة في المطلق. اليوتوبيا هي هشاشة التاريخ الكبرى، لكن أيضا قوته العظمى. إن اليوتوبيا هي التي تفتدي التاريخ بمعنى من المعاني. خذ في اعتبارك الجملة الانتخابية بفرنسا، مثلا: لولا عنصرها الطوباوي لكان شجار بين أصحاب المتاجر …اسمع ، لا أريد أن أكون سياسيا لأني أومن بالكارثة. وبالنسبة لي، إني على يقين تام بأن التاريخ ليس هو السبيل إلى الفردوس . ومع ذلك، فإذا كنت شكوكيا حقيقيا، فإني لا أستطيع أن أكون على يقين من الكارثة حتَّى … دعونا نقول إنني على يقين تام ! فلهذا السبب أجدني منفصلا عن كل بلد، كل جماعة. إني ميتافيزيقي عديم الجنسية، إلى حد ما مثل رواقيي نهاية الإمبراطورية الرومانية الذين كانوا يعتبرون أنفسهم من «مواطني العالم»، وهي طريقة في القول بأنهم لم يكونوا مواطنين في أي مكان.

– فرناندوسفاتر: أنت لم تهجر وطنك فقط، لكن أيضا، والشيء الأكثر أهمية، فقد هجرت لغتك .

– سيوران : إنه أكبر حادث يمكن أن يحل بكاتب ما، الأكثر مأساوية. إن الكوارث التاريخية لا تعتبر شيئا مقارنة بذلك . لقد كتبت باللغة الرومانية حتى سنة 1947؛ فهذه السنة بالذات ، كنت مستقرا بمنزل بالقرب من مقاطعة دياب Dieppe)(، وقمت بترجمة ملارميه إلى الرومانية، وفجأة قلت في نفسي: «أي سخافة هذه ! ما الفائدة من ترجمة ملارميه إلى لغة لا أحد كان يجيدها؟ « لذلك تخليت عن لغتي، وشرعت في الكتابة بالفرنسية، وكان ذلك في غاية الصعوبة، لأن اللغة الفرنسية، مزاجيا، لا تناسبني: أنا في حاجة إلى لغة متوحشة، لغة سكير. لقد شكلت الفرنسية، بالنسبة لي، سترة مجانين. إن الكتابة في لغة مغايرة هي تجربة مرعبة. يتم التفكير في الكلمات، حول الكتابة. لما كنت أكتب بالرومانية فإني قمت بذلك دون إدراك مني، كنت أكتب بكل بساطة. لم تكن الكلمات مستقلة آنئذ عني. عندما شرعت في الكتابة بالفرنسية، فقد فرضت كافة الكلمات نفسها على وعيي؛ كانت ماثلة أمامي، خارجا عني، في خلاياها، ثم كنت أسعى في البحث عنها: « أنت، الآن، والآن، أنت» إنها تجربة مماثلة لأخرى، عشتها لما حللت بباريس. نزلت بفندق صغير بالحي اللاتيني، وفي اليوم الأول حينما نزلت للمهاتفة في الاستقبال، وجدت موظف الفندق، زوجته وابنه، بصدد تحضير قائمة الوجبات: كانوا يهيئونها كما لو كان يتعلق الأمر بخطة معركة ! بقيت مندهشا: ففي رومانيا، كنت أتغذى مثل حيوان، أعني بالقول ، دون توخي الحذر، لاشعوريا، معنى ما أتناوله. وفي باريس، أدركت أن الأكل طقس، سلوك حضاري، أشبه باتخاذ موقف فلسفي … وعلى نحو مماثل، فقد توقفت الكتابة بالفرنسية عن أن تكون سلوكا غريزيا، كما كان الحال لما كنت أكتب باللغة الرومانية، ثم إنها اكتسبت بعدا متعمدا، تماما كما لو إني كففت عن تناول الطعام ببراءة … فبتغييري اللغة، تخلصت على الفور من الماضي: لقد غيرت حياتي تماما. وحتى في الوقت الراهن، يبدو لي إنني أكتب بلغة لا ترتبط بأي شيء، لا جذور لها، لغة مستنبت زجاجي.

– فرناندوسفاتر: سيوران، لطالما تكلمت عن السأم. ما هو الدور الذي يلعبه السأم والاشمئزاز في حياتكم ؟
– سيوران: يمكنني القول بأن حياتي هيمنت عليها تجربة السأم. لقد عرفت هذا الإحساس منذ الطفولة. لا يتعلق الأمر بسأم يمكن للمرء محاربته عبر الترفيه، الحوار أو المتع، بل بسأم، يمكن القول إنه سأم جوهري؛ والذي يكمن في هذا مفاجئ إلى حد ما لدى الذات أو لدى الآخرين، أو أمام منظر جميل جدا، كل شيء يُفرغ من مضمونه ومعناه. يوجد الخواء في الذات وخارج الذات. يظل الكون بكامله متأثرا بالتفاهة. ولاشيء يثير انتباهنا، لا شيء جدير باهتمامنا. يعتبر السأم دوارا، لكن دوارا هادئا، رتيبا؛ إنه الكشف عن التفاهة الكونية، إنه اليقين الذي يتم الدفع به إلى حدود الذهول أو حتى الاستبصار الأسمى، حيث ليس بإمكان المرء، لا ينبغي عليه فعل أي شيء في هذا العالم ولا في هذا العالم ولا في ذاك، إذ لاشيء موجود في العالم يمكنه أن يناسبنا أو يرضينا. بسبب تلك التجربة ـ التي ليست دائمة، بل متكررة، لأن السأم يحدث بشكل متقطع، لكنه يدوم كثيرا لفترة زمنية طويلة مثل حمى ـ لا قدرة لي على أن أكون جديا في حياتي.
حتى أقول الحقيقة، فقد عشت بشكل أكثر عمقا ، لكن من دون الاندماج في الوجود. إن هامشيتي ليست عرضية، بل جوهرية. فإذا كان الإله مصابا بالملل، فلن يكون أقل من إله، بل إله هامشي. لنترك الإله وشأنه. لفترة طويلة كان حلمي عديم الجدوى، وغير قابل للاستعمال. فبفضل الملل، حققت هذا الحلم. ثمة تفصيل يفرض نفسه: ليست التجربة التي سأقوم بتوصيفها محبطة بالضرورة، لأنها تكون متبوعة أحيانا بغبطة تحول الفراغ إلى حريق، إلى جحيم مرغوب فيه …
وحينما كنت أهم بالخروج، ألح سيوران: «لا تنس أن تقول لهم بأني لست هامشيا، إنني أكتب من أجل الإيقاظ. كرر قول ذلك: إن كتبي تطمح إلى الإيقاظ . «

مصدر النص :

Cioran Entretiens , Gallimard,1995 .
فرناندو سفاتر Fernando Savater)(( 21 يونيو 1947) ولد بسانت سيباستيان، فيلسوف، ناشط، كاتب مقالات، روائي، كاتب مسرحي، مترجم، صحافي إسباني .


الكاتب : ترجمة: الحسن علاج

  

بتاريخ : 21/09/2024