حوار حول رواية «نقطة الانحدار» لفاتحة مرشيد

تراجيديا الهجرة والوهم الأمريكي

لا يمكنك أن تقرأ نصا سرديا للمبدعة فاتحة مرشيد دون أن تجد نفسك مورطا في علاقة مع شخصياتها والعوالم التي تنسج فيها الحكاية. لكن في نصها «نقطة الانحدار» وجدتني أتقمص شخصية « الغالي»، ليس بسبب التقاطع الممكن في تجربة حياة المهجر، وإنما في البعد الأنطلوجي الذي تطرحه هذه الشخصية باعتبارها «قضية» تدعونا إلى التأمل في الكثير من علاقاتنا، بدءا بذواتنا وانتهاء بالمصير الذي نواجهه.
إذا كانت الهجرة مسألة تكاد تكون عادية في تاريخ المجتمعات، فإنها اليوم تمتاز بما تكتسيه من خصائص لها صلة بالقلق الوجودي العميق.. وكيف تتحول (الهجرة)، من أمل في تحقيق الحلم الفردي (أو الجماعي)، إلى منفى يجعل من حياة الفرد جحيما يستحيل التخلص منه.
تصور لنا “نقطة الانحدار” إحدى التراجيديات المعاصرة التي لا تنتهي. ففي اللحظة التي يعتقد فيها الفرد المهاجر أنه “حقق حلمه المادي”، يكتشف أن الرفاه والحداثة الغربية وقيمها ومنتجاتها ليست سوى وهم مدمر يحمل أعنف أدوات الاضطراب التي تصير سبب دماره ومأساته. ومن هنا تبدأ مشاعر العزلة والاغتراب في النمو وتزيد من تعميق الإحساس بالمنفى، خصوصا حين يتعلق الأمر بالسياق الأمريكي الذي تدور فيه أحداث الرواية.
يحوي السياق الأمريكي كل المفارقات. تجد الشيء ونقضيه، ويحيا المرء تجربة «الفقْد» لكل شيء، ويضيع بين التناقضات التي لا حصر لها.. الغنى الفاحش والفقر والضياع والعزلة والتشرد.. الدفء الإنساني والبرود في العلاقات..
هكذا نكتشف أن الحداثة التي أتت مبشرة بمركزية «الإنسان» مقابل موت «الإله»، تحمل في داخلها كل ما يمكن أن يؤدي إلى سحق الإنسان وتدميره وإهدار إنسانيته.
فالغالي يدفعنا إلى التفكير في واقع يجعل من وجودنا كله مجرد استعارة أو مجاز. إنه واقع يُصَيِّرُ حياة المهاجر إلى حالة طارئة.. حالة لغوية.. حالة زمنية غريبة تفقدك إرادتك في أن تكون ما تريد، كما توهمك الآلة الدعائية الرأسمالية!
وعليه فإن الغالي لم يهاجر مكانيا، بقدر ما كانت هجرته في الزمن، لتصبح (هذه الهجرة) نفيا للذات وتشظية لها.. فهو يوجد بين «الهنا» و «الهناك».. وكل صيغ مقاومته للاغتراب كانت لا تزيد إلا من تعميق الألم، لأن المنفى الأمريكي، تحديدا، يدفع المهاجر إلى مقايضة الحاضر بالماضي، ويصير المستقبل مجرد محاولات فاشلة للترتيب للاعودة بالتفكير الدائم في العودة.
المنفى حكاية غير مكتملة لها دائما جاذبية نحو السقوط..
في هذا الحوار ، على هامش صدور روايتها الأخيرة «نقطة الانحدار»، تكشف لنا فاتحة مرشيد عن أكبر الأوهام التي تملأ عالم اليوم.. وهم اسمه الحلم الأمريكي.. الذي سلطت عليه الأضواء من خلال الغوص في عمق الواقع الأمريكي، لنكتشف أن أمريكا «أكبر دولة في العالم الثالث»، وأن النظام الرأسمالي الذي يروج لقيم المساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية، ليس في الواقع سوى آلة جهنمية لا تعرف الرحمة.

 

 

p هيمن على الخطاب الإبداعي العربي، الذي أنتج حول الغرب، الاهتمام بمواطن التمدن والتحضر والحداثة المفتقدة في واقعنا العربي. لكن مؤخرا بدأ هناك تحول مع بعض التجارب الإبداعية، خاصة من لدن المقيمين في أوروبا من الشباب. في هذا السياق العام تأتي «نقطة الانحدار» لتغوص في العوالم السفلية والهامشية في أمريكا (نقصد الولايات المتحدة) لماذا الكتابة عن هذه الهوامش؟ 

n اعتدت في رواياتي أن أتوقف عند الوجه غير الإنساني في حضارتنا، لأننا بشر، وعندما نفقد الجانب الإنساني نصبح أقل من الآلات التي نصنعها.. وكذا لإيماني الراسخ بأن الأدب يمكنه أن يساعدنا على القبض على الأسئلة المثيرة للقلق إلى درجة عميقة، وأن على الكاتب أن يعري ويسلط الضوء على المخفي والقبيح في مجتمعاتنا.
وإن كان الخطاب الإبداعي العربي قد تحرر من عقدة الغرب، فذاك لأن الغرب لم يعد يبهرنا كما كان.. بل إن السؤال الأكبر، كما طرحه أمين معلوف في كتابه «اختلال العالم»، هو: هل وصلت هذه الحضارة إلى حدودها؟
جحافل المشردين في شوارع أكبر بلد في العالم وأغناه تنذر ببداية انحدار. إنه ناقوس خطر على البشرية أن تأخذه بعين الاعتبار.

p هناك صورة هوليودية تروجها الآلة الإعلامية الأمريكية عن واقع أمريكي لا-أرضي، غارق في التقدم والحداثة والرفاه، فهل «نقطة الانحدار» أتت لإعادة كتابة أمريكا خارج «الصورة» المروجة؟ وإلى أي حد يمكن الحديث عن مفارقة بين الواقع الواقعي، والواقع الهوليودي؟
كان ريجن يقول إن «أمريكا فكرة وليست جغرافيا»، فهل النص محاولة لإعادة صياغة هذا الفهم بتعديلها؟

n أحداث الرواية تمر خلال حقبة رئاسة ترامب.. وصعود نجمه، كما يقول تشومسكي، يعود بصورة كبيرة إلى انهيار المجتمع الأمريكي.. وقد جذب ترامب هؤلاء الذين يشعرون بانهيار المجتمع ويعانون منه.. أولئك الذين لديهم مشاعر عميقة مكسوة بالغضب والخوف والإحباط واليأس.. وطبعا لاشيء يوحد أكثر من الكراهية.
النظام الاقتصادي الليبرالي الجديد بأمريكا قد يبهر ظاهريا بما يمنح من الشهرة والربح السريع المريع – وهذا لا يتحقق إلا للأقلية – لكنه يسحق كينونة الأغلبية.. ويعمق التفاوت الإجتماعي.. وهناك حقا مفارقة بين الواقع الواقعي، كما قلت، والواقع الهوليودي، بحيث يستحيل «الحلم الأمريكي»، عند الكثيرين، مجرد حلم إن لم يتحول إلى كابوس..
وأمريكا صارت «فكرة» تستوجب إعادة فهمها وإدراكها.. لكن هل النص محاولة لإعادة صياغة هذا الفهم؟
أعتقد أن الرواية تبقى نصا أدبيا أساسا، وليس علينا أن نحملها أكثر من طاقتها.. توغلها في عالم الهامش فرضته وقائع الحكاية وديناميتها.. وإن كنت مع الأدب الذي يساهم في رفع مستوى الوعي بطرحه للأسئلة المستفزة.

p هناك مقالات وكتب عديدة، صادرة في أمريكا تعتبر «كاليفورنيا أكبر دولة في العالم الثالث»، علما أن السيليكون فالي تعتبر عنوانا للتقنيات المتقدمة ورمزا للقوة الاقتصادية. وفي «نقطة الانحدار» نجد أن الشخصيات تتنقل عبر نيويورك وسان فرانسيسكو ولوس أنجلس.. لماذا هذا الانتقاء؟ وهل هذه المدن تمثل صورة للتناقضات والمفارقات التي تحملها «الحداثة» الغربية بكل أزماتها الأخلاقية والفلسفية والاجتماعية؟

n بما أن خلف كل حكاية نكتبها، حكاية كتابتها.. دعني أحدثك عن حكاية الحكاية.
فكرة رواية «نقطة الانحدار» انبثقت من شعور بالحزن والقلق العميقين اجتاحني وأنا أشاهد جحافل المشردين بولاية كاليفورنيا.. كانت صدمة بالنسبة لي كإنسانة أولا ولذاتي المبدعة التي هاجمتها انفعالات مبهمة وأسئلة محيرة.. وليس هناك أفضل من فعل الكتابة لفهم الأشياء وفهم شعورنا نحوها.
وحتى أقرب القارئ من الرواية سألخصها بعجالة كالتالي: «الراوي يسرد حكاية اكتشافه للولايات المتحدة الأمريكية حيث سافر بحثا عن صديقه الغالي الذي انقطعت أخباره منذ ثلاث سنوات.. محترما وعدا قطعه على والد هذا الأخير ساعة احتضاره. هنا سيعيش سلسلة أحداث ومفاجآت ستغير فكرته عن «الحلم الأمريكي». وسيعرف، بالمناسبة، السر الذي جعل الغالي- وهو المهاجر الذي صنع له اسما يحسب له ألف حساب في وول ستريت- يقطع كل صلة بأسرته. ويتعرف على الوجه المعتم لأمريكا.»
انتقاء الأماكن لم يكن عفويا. نيويورك لأن الغالي كان يعمل بمعبد البورصة وول ستريت، وانتقاله إلى كاليفورنيا جاء بعد انحداره نحو الحضيض، فهو، كمعظم المتشردين، رحل إلى كاليفورنيا بحثا عن الطقس الدافء. ولوس أنجلوس تعتبر عاصمة الهوملس بالولايات المتحدة الأمريكية. حيث يتجاور هوليوود وحي سكيدرو الذي يشبه إلى حد كبير مزبلة بشرية.
الغريب في الأمر أن هذه التناقضات والتفاوتات الاجتماعية الصارخة لا تبدو مزعجة للمواطنين هناك، لأن مبدأ المساواة هو أمر متجاوز.. إنها الداروينية الاجتماعية التي تحقق التطور عن طريق الاصطفاء الطبيعي للبشر.

p لإدوار سعيد، الذي خبِر المنفى؛ بمعناه الأنطولوجي، عبارة مفادها أن «السعادة والمنفى لا يلتقيان»! فهل مصير «الغالي» محكوم بالتعاسة، ولن يكون إلا ما كان؟

n بالنسبة لإدوارد سعيد، يمكننا فهم عبارته «السعادة والمنفى لا يلتقيان» لأن النفي شيء قاهر وقد اعتُبر عند الإغريق من أشد العقوبات التي كانت تطبق على السياسيين.. وهو خبر المنفى القسري بكل أبعاده، الفعلية والأنطولوجية، كفلسطيني سلبت أرضه ووجد نفسه يتنقل بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية حاملا جرح اللاّمكان وجرح القضية.. ورغم إنجازاته العظيمة كمثقف ومفكر فقد ظل الإحساس بالفقد ملازما له كما عبر عن ذلك في سيرته الذاتية.. لأن المنفيّ يعيش الاندماج أو النجاح في بلد غير بلده الأصلي كنوع من الخيانة.. خيانة القضية.
أما الغالي في الرواية فهو من اختار الهجرة.. وفرق بين أن تكون الهجرة اختيارية أو قسرية. وحتى في حالة ما إذا كانت اختيارية، هنالك فرق كذلك بين أن يكون المهاجر حاملا لمشروع يسعى إلى تحقيقه أوأنه فقط هارب من قهر.. والغالي كان له مشروع واضح وطموح عال.. ولا أخاله كان يعتبر نفسه تعيسا قبل المأساة التي جعلته يخبر الانحدار في أبشع وجوهه.. هو كان ضحية نظام لا أحد فيه محصن ضد السقوط.. والسقوط لا يُغتفر. أمريكا لا تقبل المهزومين وحدهم الفائزون لهم مكان فيها.

p أليست الهجرة، ولو الاختيارية، وجها من وجوه المنفى؟

n قد تكون الهجرة الاختيارية وجها من وجوه المنفى عندما يشعر المهاجر بأنه في شراك، لا هوقادرعلى العودة إلى حضن الوطن ولا هو قادر على الشعور بانتماء إلى بلد المهجر.. كما يمكن أن يعيشه المرء كإحساس داخلي باغتراب وهو في بلده الأم.. للمنفى وجوه كما للوطن أقنعة.

p يحضر «الموت» كمصير حتمي في كل أعمالك، ونحن نعرف أن الموت في المنفى يكون أعمق وأشد وقعا على الفرد، خصوصا أننا نتعلم كيف نعيش ولا نتعلم كيف نموت -في ثقافاتنا العربية- ترى لماذا كان على الغالي أن يواجه هذا القدر رغم أنه «كان أقرب إلى فهم الكون لأنه يفهم لغته» ورغم استعداده للعودة؟

n لنقف قليلا عند العنوان: «نقطة الانحدار». الانحدار موضوع يخاطبنا جميعا لأنه كما يقول سيوران: «أن تعيش يعني أن تتقهقر».
الموت وجه من وجوه هذا الانحدار.. نهايته.. لاشيء أكثر حتمية من الموت ومع ذلك لا شيء يفاجئنا حدوثه أكثر.. وللانحدار كما للموت وجوه متعددة.
هذا هو التحدي الذي وضعتني أمامه الرواية.. ملامسة حتمية انحدارنا يوما كبشر وتقبله والتعبير عنه. فحياتنا فصول تتعاقب قبل أن نسقط كأوراق الخريف.. وتقدم البشرية لايحصنها من النهايات بل يبدو أنها تزداد ضياعا كلما ازدادت تقدما.
حكاية الغالي هي مرآة لحكاية البشرية ولتاريخ الحضارات.. تطرح بقوة سؤال حتمية الانحدار الذي يعقب بلوغ القمة.. وكيف أن كل صعود يحمل في طياته أسباب النزول.

p هناك مفهوم «العودة» التي لم تتحقق بالنسبة للغالي، والعودة «قضية» عند المهاجر… لماذا «مات» «الغالي» ولم يعد؟ هل مصير «المهاجر» هو هذه الرغبة في العودة التي تصبح «اللاعودة»؟

n أنت عندما تعود من المنفى إلى بلدك أو ما كان بلدك.. تجد الصدمة في انتظارك تقول لك لست وحدك من غيّره الزمن والمسافات لا ترحم أحدا.
تبحث في المكان عن شيء يشبه ذكرياتك.. لكن الذاكرة نفسها، على غرار المكان، تغيرت. فلا شيء في الحاضر يشبه ماضيك.. لا شيء ظل مستقرا في انتظارك.. وأنت لم تعد أنت ولا نظرتك احتفظت ببراءة صباك.
نهر الزمن يجرف كل شيء في طريقه وأنت لن تعبره مرتين.
بهذا المفهوم تصبح فعلا «العودة» / «اللا عودة».. ولهذا بدت لي النهاية حتمية فهي تحمل عمق المأساة عند المهاجر الذي حلم بالرحيل يوما وعندما تحقق له أصبح حلمه هو العودة.. لكن قلب المشكلة هو أنك ترحل في الزمن كذلك.. والعودة إن تحققت فهي رحيل آخر.. هجرة أخرى.

p تصور الرواية الواقع الأمريكي مثل حبل السيرك يمكن الوقوع منه في أية لحظة، وهو مصير «مظلم ومخيف» ويتهدد الفرد. كيف يمكن فهم هذا «السقوط» ؟

n الانحدار الذي عرفه الغالي ليس حكرا على المهاجرين في أمريكا، بل إنه الوجه المظلم لنظام غرق في حب المظاهر والاستهلاك وأصبحت فيه المادة هي المدخل الأساسي للإحترام والحب الذي يسعى إليه الجميع.. الأغلبية فيه ضحية لقوى جبارة ليس بإمكانها لا فهمها ولا التأثير فيها.
أنت في مجتمع المال فيه هو القيمة الكبرى لأنه لا يميز بين الناس على أساس ديني أو عرقي أو جنسي، بل حسب كفاءتك في الحصول عليه والثروة التي تستطيع أن تكونها.. لم يعد يقتصر الحلم على أن تكون ثريا بل أن تنضم إلى قائمة أغنى واحد في المائة عالميا، وهذا يخلق الإحباط حتى عند أصحاب الثروات الضخمة.
المجتمع يقول لك إن كل شيء ممكن.. وهذا في حد ذاته محفز. وكل واحد في استطاعته تحقيق النجاح.. لكن مفهوم النجاح مرتبط بالمال أساسا.. والفشل غير مسموح به.. هو لا يغفر للفاشلين إذ كيف تفشل وكل الفرص متاحة.
المجتمع يقول لك الفرد مسؤول عن حياته وعن الوضعية التي يعيشها.. لأن كل شيء يعتمد على إرادة الفرد. هذا صحيح إلى حد ما لأننا لسنا متساوون عندما نولد. كل منا يبدأ حياته برصيد معين حسب البيئة التي ولد فيها.. وإمكانياتها المادية والمعنوية.. ثم إمكانياته التي منحته الطبيعة إياها من ذكاء وجينات قد تؤهله لبعض الأمراض.. إلخ.
الصورة النمطية التي تقول بأن الهوملس هو شخص مدمن، تافه وكسول لا يريد أن يشتغل، خاطئة.. فمنهم من ليس مدمنا، ومنهم من هو مريض أو معاق ومنهم من أصابه حادث حياة مثل طرده من عمله أو الطلاق.. أو إنهاك من جراء الإفراط في العمل يضطره للتوقف فيصبح عاجزا عن دفع ثمن الإيجار فيطرد من بيته لينضاف إلى من هم بدون مأوى.. والحالات كثيرة ومتعددة الأسباب.
المجتمع يضعك في دوامة الاستهلاك، ويسهل عليك كل السبل المؤدية إليه من قروض وغيرها. فأنت تعيش اليوم دون احتساب للغد. أنت تعيش في توازن هش لأنه يتوقف على الجانب المادي فحسب. فعندما تتعرض لحادثة حياة من نوع طرد من العمل، أو طلاق، أو كلاهما أو مرض عضوي أو نفسي أو فقدان قدرة من قدراتك أو.. أدنى أزمة قد تخل بهذا التوازن.. فتجد نفسك عاجزا عن تسديد القروض التي منحت لك على طبق من ذهب. هنا تبدأ في فقدان ما راكمت من أشياء، بما في ذلك البيت الذي تعيش فيه لتنتقل إلى العيش في سيارتك..
على حد قول مورين في الرواية «أمريكا لا تقبل المهزومين.. وحدهم الفائزون لهم مكان في هذه القارة. والقروض لا ترحم إنها تلقيك بضربة على مؤخرتك خارج بيتك أو ما كان بيتك. أما عن الأصدقاء؟ فيمكن أن تجد صديقا يأويك لبضعة أيام فقط.. هو وضع مؤقت. وعموما كل شيء يصبح مؤقتا إلى أن تجد نفسك في الوضع الدائم.. أعني الشارع. بعدها لو عندك سيارة فأنت من المحظوظين. وهذا مؤقت أيضا.. إلى أن تتخلى عنك هي الأخرى وتعجز عن أداء ثمن إصلاحها فتبيعها.. وفي جميع الأحوال أنت في ردهة الحياة.. لا أنت داخلها كليا ولا خارجها كليا.

p يضعنا «الغالي» في مأزق أنطولوجي كبير، إنه المراوحة بين «زمنين» و «مكانين» و»وطنين»، فيصبح في «اللامكان» وهو محنة المهاجر.. هل تعتقدين أنه لم يكن للغالي من مصير سوى هذا؟

n المأزق كائن بدون شك..
أنت داخل متاهة تبحث عن منفذ.. لا يمكنك العودة إلى الوراء.. المنفذ أمامك.. عليك إذن أن تتقدم وأن تنفض عنك غبار الماضي.. لا منفذ خلفك. لكنك تتشبث أكثر بالماضي مخافة أن تفقد هويتك..
إلا أنك تخضع بالضرورة لتأثيرات المحيط الجغرافي الذي تعيش فيه، وتكتسب مع الوقت أشياء وتفقد أخرى. أعتقد أنه للخروج من المأزق يجب إدراك أن الهوية ليست شيئا قارا.. فهي تتغير كذلك.. ويمكنك اختيار هوية تناسبك أكثر.

p في أعمالك ندرك أن «الحب» قضية كبرى في هذا العالم، وكأنه المخلص الوحيد من واقع عنيف يهددنا جميعا بالدمار، في أية لحظة… فـ»في الرياضيات هناك حل واحد لمسألة واحدة، أما في الحب فهناك حلول شتى وأحيانا لا حلول البتة.. وتمنيت لو كان الكون كتب بلغة الحب»؛ أليس هذا «الحب» هو نفسه مصدر مأساة المهاجر؟ أليس هذا الحب هو الذي يمنعه من «العيش مع الأرض لا عليها -بتعبير سعيد»؟

n أعتقد أن الحب المروّج له عبر وسائل الإعلام والتواصل هو «فانتاسما» وسلعة في أغلب الأوقات.. هو إدمان عاطفي واحتياج يفتقد إلى نبل وإلى إنسانية.. وهو مصدر مأساة الجميع.
الحب هو هذه اليد التي تمتد نحوك ساعة وجع تربت على كتفيك وتمسح دموعك دون أن تطالبك بالبوح بأدنى شيء، إذ ليس من الضروري أن نعرف عن الآخر كل شيء لكي نحبه.. الحب هو أن تعرف أن الآخر سيكون دائما موجودا بجانبك ساعة قهر وأنك لن تتردد في الاتصال به في الساعات المتأخرة من الليل.. وأنه لن يحكم عليك أو يتخلى عنك إن أنت أخطأت لأنه يحب الإنسان فيك والخطأ من طبيعة البشر.
هذا هو الحب الذي أشرت إليه في الرواية والذي عبر عنه جوردن.. والذي يفتقد إليه المجتمع الذي جعل من المال قيمته العليا التي تنتفي خلفها قيمة الإنسان.

p تجربة المهجر قاسية، ويزداد الفرد اغترابا مع مرور الوقت، بل في اللحظة التي يعتقد المرء أنه حقق أحلامه -على المستوى المادي- حينها تتعاظم لديه مشاعر القلق والإحساس العنيف بالاغتراب والفقد، أليست تلك هي بداية «نقطة الانحدار»؟

n من طبيعة الإنسان الرحيل بحثا عن حياة أفضل.. وإن كان في هذا انشطار موجع. ما دام الكائن قد انفصل عن الرحم الأم ليكبر، فباستطاعته الانفصال عن الرحم الوطن ليكبر كذلك.. معرفيا ومهنيا وحسيا.. أن يكبر إنسانيا. وليس هذا حكرا على الوطن العربي.. فكل وطن يخنق حرية الفرد أو لا يُؤمن له العيش الكريم، يرحل عنه أولاده. كما يقول المثل المغربي «حتى مش ما كيهرب من دار العرس».
المهاجر في رواية نقطة الانحدار، لم يكن يعاني من فقر ولا عوز، بل كان له ذكاء ثاقب وطموح كبير لا يمكنه أن يتحقق في المغرب.. فهو أراد أن يكون في معبد البورصة بوول ستريت. لكنه سيكتشف أن هذا البلد الذي يمنح فرص النجاح لا أحد فيه محصن ضد الفشل والانحدار.. حادثة ابنته كانت هذه النقطة التي عجلت بانحداره.

p يقول الجاحظ في «رسالة حب الأوطان»: «إذا كنت في غير أهلك فلا تنس نصيبك من الذل»، والواقع أن السياق الأمريكي يكون محرجا بالنسبة للمهاجر، مهما كان مستواه التعليمي أو الفكري، فهل هذا ما يترجمه كلام الغالي حين قال: «من الأسهل على المرء أن يعاني الحرمان خارج بلده على أن يعانيه وسط أهله؟» (ص.143) وما دواعي هذا الإحساس؟ أذاك راجع إلى الاستعداد المسبق لتحمل كل أنواع الذل خارج الوطن، ثم لماذا هذا الهروب العنيف من الوطن مهما كانت التكلفة؟

n مقولة الجاحظ «إذا كنت في غير أهلك فلا تنس نصيبك من الذل» تذكرني بالمثل المغربي الذي يقول «قطران بلادي ولا عسل البلدان»، وهو يرمز لارتباط المغربي بالوطن. وأذكر جليا جيل السبعينات (الذي أنتمي إليه) كيف كان الطلبة الذين درسوا في الخارج يرفضون طلب الجنسية ويعتبرونها خيانة.. وهذا راجع لكون ذاك الجيل كان يحمل مشروعا يود تحقيقه في بلده ويناضل من أجله. لكن الجيل تغير وأصبحت الهجرة حلم الكثيرين الذين لا يرون في آفاق بلدهم ما يشدهم إليه وقد فقدوا كل ثقة في المستقبل.. وثقافيا هناك فعلا استعداد لتحمل الذل خارج الوطن.. يكفي أن نرى نوعية الأشغال التي يقبل بها المهاجر في بلدان المهجر والتي يمتنع عن القيام بها داخل بلده. لأن ما يبحث عنه أكثر هي نظرة الفخر والاعتزاز من طرف أهله ومن يهمه أمرهم. أما الغريب فلا يعنيه. ولهذا تجدهم يكافحون ويتعبون ويتحملون كل أنواع الذل من أجل لحظة زيارتهم السنوية للمغرب، حيث يُقبلون محملين بما لديهم، وما ليس في مقدورهم اقتناؤه، حفاظا على كرامتهم وسط أهلهم وأسطورة المهاجر الناجح..
لهذا، فحتى بالنسبة لمن أصيب بالخيبة في المهجر، وهم كثر، فالعودة إلى الوطن تعتبر فشلا ذريعا، إلا لمن عاد بثروة تشفع له، وهذا استثناء يؤكد القاعدة.

p تصور لنا شخصية الغالي ملامح المأساة التي يعيشها المهاجر، وهي «اليتم»، إنه فقد أمه في الصغر، وفقد الأرض في كبره. هل الهجرة هي رديف اليتم الأنطولوجي الساحق؟

n الغالي فقد أمه وهو صغير بطريقة مأساوية أزّمت علاقته بوالده، فلم يعد هناك شيء يربطه ببلده.. الغربة في المهجر، بالنسبة إليه، أهون من الغربة التي كان يعيشها وسط أسرته. ولهذا كان الرحيل حلمه.

p قال الغالي في (ص.148) «ربحث كثيرا وأخيرا خسرت كل شيء؟ لم يعد يستهويني اللعب.. تعبت». أعتقد أن المهاجر في رحلته و»لعبته» مع الحياة في المهجر يفقد/يخسر كل شيء، بدءا من رغبته في الحياة وانتهاء بالعودة إلى وطنه الأم.. فهل يعني أن الهجرة والحلم الأمريكي -خصوصا- ليس سوى وهم من الأوهام؟

n الهجرة وهم، أينما كانت الوجهة، لمن ينتظر منها أن ترمم كل شروخه.. الهجرة/الهروب وهم حقيقي، لأنك عندما ترحل تحمل معك ذاكرتك وتاريخك وجروحك النازفة.. تحمل معك سبب هروبك. والغالي كان يهرب من ذاته في اللعب بـ»الأموال»، في الركض وراء «النجاح» ليُرضي والده الذي لم يرض عنه يوما.. لقد ظل الغالي ذاك الطفل الذي رأى جثة والدته ملقاة على الرصيف، والذي ما زال ينتظر نظرة حب وفخر من أب كان أسير حزنه على زوجته وإحساسه بالذنب تجاهها.. خسارة الغالي توجد داخله وليس بإمكان العالم الخارجي، كيفما كانت نوعيته، أن ينقذه.

p أكان من اللازم أن يكون مصير ابنة الغالي بسبب تهور رفيقها الزنجي الأمريكي؟ ألا يطرح هذا قضية الصورة النمطية التي يعاني منها المجتمع الأمريكي؟ خصوصا أننا نعلم أن هناك دعاوى ترفع هنا وهناك بسبب تدريس نصوص تنمتي للأدب الأمريكي، وآخرها كان بسبب تدريس نص لمارك تواين لتلاميذ الأقسام الإعدادية في إحدى مدارس بوسطن، فقط لأن النص ترد فيه لفظة الزنجي Nigger ؟

n مصير سارة ابنة الغالي يطرح إشكالية مهمة وانشطارا يعيشه المهاجر ألا وهو تربية الأطفال.. طبيعة العمل واليومي في بلد المهجر لا تترك حيزا للسؤال عن الهوية أو الاختلاف.. بل على العكس يصبح المهاجر أكثر ارتباطا بالمكان الذي تركه خلفه، وأكثر تشبثا بهويته، ولهذا فهو لا يستطيع أن يرى العالم إلا من خلال التراث الذي يعرفه والذي جلبه معه.. والذي إن كان يشكل له مأوى فهو يعزله في نفس الوقت .. هو يعيش انشطارا بين ماض يفتقده وحاضر يصعب الشعور فيه بانتماء.
وعندما ينجب أطفالا، فهم لا يعرفون شيئا عن جذورهم وهم طبعا ينتمون إلى البلد الذي خلقوا فيه.. لكنه هو يريد أن يربيهم طبقا للنموذج الذي يعرفه هو بمعنى على طريقة والديه وأجداده.. والقطيعة تبدأ من اللغة فهؤلاء لا يتحدثون لغة والدهم وهو يريدهم طبعا أن يستفيدوا من كل ما يمنحه هذا المجتمع بل وغالبا ما يهاجر البعض لهذا السبب: منح أبنائهم تعليما أفضل يمكن من مستقبل مختلف.. لكن دون فقدان التراث العربي (بكل ما تعنيه كلمة تراث من فكر وثقافة وأدب وفن وعادات وتقاليد..) كيف يمكن ذلك وأهم مرتكزات هذا التراث هي اللغة؟ هنا تتسع المسافة بينهما وتتعمق الهوة. والأمثلة كثيرة ومحزنة على ضياع أبناء وتدمير أسر.
بالنسبة للغالي فهو عندما دخلت ابنته في علاقة مع شاب أمريكي (وهي أمريكية المنشأ وأمها أمريكية الأصل)، تعامل معها كما يتعامل أب مغربي مع ابنته.. بل كما تعامل والده هو مع أخته حليمة دون احتساب للتغييرات في الزمان والمكان والعقليات.. ولا أعتقد أن موقفه هذا مرتبط فقط بلون بشرة صديق ابنته. هو يعكس ذاك التراث الذي جلبه معه والذي لا وجود له على أرض واقع أمريكي. وعدم مساءلته لمفهوم التربية وعجزه عن إيجاد جسر للتواصل مع الآخر دون أن يقطع تواصله مع ذاته.

p أكان من اللازم أن يموت الغالي بوباء كورونا؟ هل هي المرجعية «الطبية» التي تسكنك أم إن الوباء «حقيقة» خيمت على العالم فكان من الطبيعي أن تجد لها امتدادا في هذا النص؟

n كنت قد أنتهيت تقريبا من كتابة الرواية التي كنت قد رسمت لها نهاية أخرى.. حين حلت جائحة كورونا لتفرض علينا العزلة وما يصاحبها من إعادة النظر في أولوياتنا وطرق تفكيرنا.. فلم يعد من الممكن أن أقفل باب هذه الرواية دون أن آخذ بعين الاعتبار هذا الحدث التاريخي الذي زلزل كيان العالم بأكمله.. وإن كنت أرفض أن تصبح سردا يدور حول جائحة كورونا فقد غيّرتُ الفصل الأخير المتعلق بمشروع عودة الغالي وهلاكه بسبب الجائحة، بينما احتفظتُ بالقصة ونسيجها كما هو.. لأن الموضوع الذي حركني وتفاعلت معه حد الكتابة عنه هو موضوع الانحدار..
لكن الموضوع في عمقه يبقى هو نفسه: الجائحة عرّت المستور وفضحت ضعف وهشاشة الدول الكبرى وأنظمتها السياسية ومنظوماتها الصحية.. وكشفت العيوب القاتلة لأنظمتها الاقتصادية القائمة على الربح والتنافس.. ومؤسساتها (الأمم المتحدة ومنظمة صحتها العالمية.. الاتحاد الأوروبي..).. وأوضحت أن التخلف والتقدم مسألة نسبية. ولا عجب حين نعلم أن العولمة لا تستند على قيم التعاون والتضامن وقد ارتبطت بالمصلحة فقط «مبدأ رابح رابح».
والراوي حميد الذي كان قد عاد من الولايات المتحدة الأمريكية وقد تحطمت بذهنه أسطورة الحلم الأمريكي التي طالما آمن بها، لم تفاجئه زلزلة الجائحة للكيان الأمريكي بل ما كان يرثي له هو مصير هؤلاء «الهوملس» الذين شاهدهم في شوارع نيويورك وكاليفورنيا.
من هنا كانت نهاية الغالي بسبب الجائحة أمرا بدا جد محتمل.

p ماذا تمثل الكتابة لفاتحة مرشيد؟ لماذا تكتبين؟

n سؤال لماذا لا يؤرقني.. ما يؤرقني حقا هو سؤال كيف أكتب؟ وكيف أستمر في الكتابة.. لأن الإبداع كالحياة عظيم العطاء ولا شيء فيه مضمون.
طرح عليّ هذا السؤال مرارا منذ حواراتي الأولى وأذكر كم اجتهدت في إيجاد جواب مقنع له.. وقلت الكثير.. عن المعنى الذي تمنحه الكتابة لحياتي.. وعن الحيوات التي أعيشها عبرها.. وعن الرئة الثالثة.. وعن.. وعن..كل هذه الأجوبة تبقى مجرد اجتهادات لغوية لا تخلو من وهم. لأن الكتابة إن كانت تمثل لي الكثير، فهو الكثير الذي يصعب تحديده.. لأننا في مجال يحفه الغموض.
ولأن تجاربك السابقة لا تنفع كثيرا.. مهما أنجزت من قبل تظل مبتدئا.. هذا يجعل من المغامرة شيئا استثنائيا في جاذبيته، مرعبا ومثيرا في نفس الوقت. إذ ليس فقط في كل كتاب جديد مغامرة جديدة، بل في كل ورقة بيضاء تفتحها تحد جديد.. لا شيء يكفي.. لا ذكاؤك ولا تمكنك من اللغة ولا العزلة التي تحتمي بها ولا المعرفة التي اكتسبتها ولا حدسك ولاحزنك ولافرحك.. ولا حتى ما قد يسميه البعض: موهبتك.. هناك شيء آخر، محفوف بالغموض.. شيء أكبر منك.. عندما يتيسر لك تلامس النجوم.
لذا سأردد ما قاله السارد في نهاية رواية «نقطة الانحدار»: «أتصور الحكايات مثل ذرات منثورة في فضاء الكون الفسيح.. تتقاطع أحيانا في ما بينها.. وبين الفينة والأخرى تجد لها معبرا يرويها.. يتهيأ لي أنني لم أكن سوى ذاك الجسر الذي جاءت عبره.».


الكاتب : حاورها من بوستن: خالد سليكي

  

بتاريخ : 10/06/2022