برزت في الآونة الأخيرة على السوشل ميديا تقليعة عولمية ملهمة وبديعة، يتعلق الأمر بصناعة محتوى فيه نوع من الابتكارية والإبداع في الاشتغال على الصورة الفوتوغرافية. إنها تركيب الصور الفوتوغرافية قديمها مع جديدها. وليس أي صور، بل صور المدن القديمة الموغلة في التاريخ. وصور الأشخاص في بداية شبابهم ومع تقدمهم في السن. لكن مع فارق الزمن. ولنا أن نتصور حجم الدهشة في مشهد طبيعي تم تصويره في بداية القرن الثامن عشر من طرف مستعمر فرنسي، يتم إعادة تصوير المشهد نفسه من نفس المكان ونفس الزاوية بعد مرور عشرات السنين من طرف شاب متخصص في تدوير الفوتوغرافيا. ونتخيل مقدار الذهول أمام صورة. ذلك أن تركيب صورتين بانوراميتين لمدينة تازة من نفس الزاوية في حقبتين متباعدتين بأكثر من قرن من الزمن، يظهر فرقا خرافيا بين ماضي المدينة وحاضرها. حيث تختفي الغابات ليبقى الإسمنت سيد الأزمنة. نفس الدهشة تصنعها صورة عروسين شابين في العشرينيات مع ابتسامة ليلة الدخلة، والعروسان بنفس الابتسامة بعد مرور 60 سنة على الزواج. بنفس اللباس وفي نفس المكان. يتم ذلك الآن وهنا بعين مبدعة وعدسة احترافية من طرف مصور معاصر بعد مرور أكثر من قرن من الزمن. إنها صناعة أخرى للدهشة، ومحتوى جديد يمنح العين والخيال منسوبا مرتفعا من الذهول والانخطاف.
رشيد اليدماني مصور يطرق باب الاحتراف في مجال تدوير الفوتوغرافيا. رآكم تجربة مهمة في تركيب الصور التاريخية لمدينته تازة. سيتحدث للاتحاد الاشتراكي عن تجربته في تركيب الصور التاريخية. وذلك على هامش تحضيره لمعرض فردي لتدوير الفوتوغرافيا فكان الحوار التالي:
p في البداية ما علاقة رشيد اليدماني بالصورة الفوتوغرافية عموما وتدويرها زمنيا على نحو خاص؟
n دعني أشكر أولا جريدة الاتحاد الاشتراكي على الاستضافة. الحقيقة أن علاقتي بالصورة قديمة لكنها توطدت مع هامش الحرية العريض اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي التي تضج بقاعدة بيانات ضخمة متاحة على شبكة الانترنيت. بات معها زخم المعلومات والصور الفوتوغرافية القادمة من كل الحقب والأزمنة يطرق مستفزا باب الباحث المتخصص. وأصبح أرشيف الصور القديمة للفضاءات والأمكنة، كما للأشخاص مثل شلالات نياغارا لا تتوقف عن الدفقان على مدار الوقت، لا سيما مع جنون الذكاء الاصطناعي. الأمر الذي حفز ومجانية ساعد وألهم العديد من الشغوفين على الاهتمام بهذا الفن المبتكر الجميل. كما أن وفرة ومجانية التطبيقات التقنية والبرامج الموضوعاتية مكنت من استقطاب العديد من الشباب المتحمس. وألهبت مشاعرهم وفجرت طاقات الابداع لديهم. وأنا واحد ممن امتطوا موجة التركيب والتدوير الفوتوغرافي على نحو يراه البعض إبداعيا مبهرا.
p حدثنا عن البدايات، وبمن وكيف تأثرت في عشق الصورة الفوتوغرافية؟
n بالنسبة للبدايات، أعتقد أن ذلك يعود لمرحلة الطفولة. فمنذ الصغر تولد لدي حب الصورة والتصوير الفوتوغرافي عامة، لكن الإمكانيات لحظتها لم تكن متوفرة لاقتناء آلة تصوير لكن الفضل كل الفضل يعود لملهمي الأول أخي الدكتور مصطفى اليدماني الذي كان عاشقا ومحبا لمهنة التصوير. وأذكر أنه لم يكن يبخل على بالدعم والتشجيع ماديا ومعنويا. لقد كان بدوره متيما ومهتما بالصور التاريخية للمدينة. حيث كنا نبحث عن « الكارتبوسطال « الصور القديمة لمدينة تازة. وبين الحين والآخر كان يقتني صورة من الماضي الاستعماري لتازة من استديو للتصوير. ومنذ تلك اللحظات بدأ شغفي بالصور القديمة يتقوى. وبالطبع مع مجيء الأنترنت زاد هذا الشغف وأصبح شغلا وملاذا وفنا وسفرا عاشقا في حقب الزمان وتفاصيل الأمكنة.
p ماهي مصادر الأرشيف الفوتوغرافي الذي تشتغل عليه وأرشيف مدينة تازة على الخصوص؟
n أعتقد أن الصورة محور اشتغالنا هي منتوج استعماري بالأساس. وبحكم تبعيتنا للاستعمار، فإن القانون الفرنسي يرتب بين نوعين من الأرشيف. الأول هو أرشيف عام، أي ما تعلق بصور ملتقطة من الجو أو ثابتة داخل المدن من دروب وأضرحة وفضاءات حانات وفنادق ومرافق إدارية وكل ما هو عمراني بالأساس. وكل ذلك كما يعلم الجميع. كان بهدف إظهار التطور الحاصل في الحياة المدنية، وتسويق فكرة التمدن للمناطق المحتلة بهدف تحسين وجه الاستعمار. وهناك أرشيف آخر تتحكم فيها فرنسا الاستعمارية وتتحفظ كثيرا في الإفراج عنه. ويتعلق بالأشخاص المقربين والمتعاونين وأذناب الاستعمار. وكذلك الجرائم المرتبطة بحقب الحماية. ونحن في إطار اهتمامنا نشتغل على الصور التاريخية المتاحة المفرج عنها والملتقطة بعدسة المستعمر نفسه بعدما سمحت بها أرشيف مخابرات الفرنسية. بمعنى آخر نحن لا يهمنا صور الأشخاص بقدر ما تهمنا مشاهد الأمكنة والفضاءات والتغييرات التي طالتها مع مرور الزمن. نشتغل على صور الأرشيف المسموح به من قبل المخابرات الفرنسية والمنشور في بعض المواقع الاستعمارية لمعمرين أو عسكريين أو مصورين محترفين ضمن أطقم الاحتلال الفرنسي كانوا يقطنون بتازة وغادروها إلى الأبد، وأصبحت الصورة بالنسبة إليهم مجرد ذكرى، قد يعود أحفادهم مستقبلا لمشاهدتها في وضع مختلف تماما ليس أكثر.
p ما هي الرسالة من وراء تصوير مكان وربطه بالماضي.؟
n نعتقد أن الصورة هي وثيقة أو نص تاريخي وشاهد من الماضي. بقدر ما هي تخليد لأثر ما، هي كذلك رسالة إلى جهة ما. وبمعنى آخر. الصورة واجهة من واجهات إثارة الانتباه لوضع ما. أي كيف كان وكيف أصبح؟ إنها دعوة للمقارنة بين حقبتين متباعدتين ليست بريئة كما يعتقد البعض. قد يسعد بها الأصدقاء وتدخل الفرحة في قلوب البعض. وقد تكون وبالا على البعض الآخر. أو سببا في إجراءات سلبية تمس شكله الاجتماعي. هي رسالة شديدة المفعول عندما تكون تحذيرا ولفت انتباه المسؤولين والأوصياء عن الشأن الاجتماعي إلى حالة تدهور ما. فعندما نقوم بتركيب صورة لمعلمة تاريخية تعود لبداية القرن التاسع عشر. ولنفترض باب الجمعة مثلا، ونركبها بصورة حديثة لنفس المعلمة مع مراعاة الدقة في هندسة الفضاء. فتبدو للناظرين وقد تأجلت جنباتها وتفككت أجزاء منها وتهاوت حوافها ومزقتها الخدوش وأصابها الخراب. فهي تسائل الأوصياء وتستفز المسؤولين. فهذا يعني أنهم لا يولون الاهتمام اللازم للمآثر التاريخية. وبالتالي دق ناقوس الخطر. فأول ما يتبادر إلى ذهن المشاهد المتلقي هي: شوف كي كيف كانت وشوف كيف أصبحت. بمعنى أن الرسالة وصلت.
p بصفتك مهتما بالبحث في أرشيف مدينة تازة ماهي وصفة التدوير الفوتوغرافي التي تستعملها إذا لم يكن هناك سر؟
n لا أسرار في ذلك. بل يتعلق الأمر بممارسة عشق قديم للصورة. ومع مرور الوقت يسهل التمكن من تفكيكها وقراءتها. ولعل أول شيء في عملية التدوير الفوتوغرافي هو قراءة الصورة التاريخية سواء من حيث الإخراج والكادراج أو وزاوية التصوير. لا سيما إذا كانت الصورة عامة لمشهد عمراني. هنا ينبغي التروي. فالمصور الفرنسي قد يكون التقط الصورة من فوق شاحنة أو فرس أو من فوق شجره. وقد يكون ارتقى سطح عربة مثلا فالزاوية تصنع الفارق. هناك أيضا مسألة تحديد المكان بدقة. واختيار وقت مناسب للتصوير. ورغم وجود تقنيات إدخال التعديلات على الصور بجودة عالية. تبقى الاضاءة الطبيعية هنا عنصرا أساسيا. ولابد من البحث عما يسميه الفرنسيون « point de repert leأي نقطة التطابق بين الصورتين. وبالتالي بين زمنين. حتى يسهل على المشاهد الاقتناع بالعمل وبالتالي الإعجاب به. ويمكن القول إن عملية التدوير الفوتوغرافي تنطلق من محاولة قراءة الصورة الأصل، واستكناه دلالاتها أبعادها الإيحائية فضائها موضوعها سياقها. ثم بعد ذلك زيارة المكان أي موقع الصورة في أوقات مختلفة. وتحديد زوايا التصوير على نحو دقيق.. بعدها تحديد نقطة التطابق وبعد أخذ صور متعددة لنفس المشهد نشرع في عملية التحقق من الصورة وتاريخها بعد مقارنتها عن طريق برمجيات متخصصة.
p هل يمكن للصورة من الأرشيف أن تساعد مثلا في تحديد خسائر الاستعمار الفرنسي او الاسباني؟
n بالطبع نعم. وهو ما انتبه اليه المستعمر في معركة أنوال التي انهزم فيها الجيش الإسباني هزيمة ثقيلة في الأرواح والعتاد. أمام المقاومة الباسلة في الريف المغربي في الشمال عام 1921- وكانت مؤسسة أرشيف المغرب تأمل إحياء هذه الذكرى باسترجاع أرشيف قائد تلك المعركة المقاوم محمد بن عبد الكريم الخطابي. وراسل فرنسا التي تحتفظ به. غير أن الجواب الفرنسي كان مخيبا للآمال.» وخلال خروج الاستعمار استولى على جميع الوثائق والصور التي تخص هذا المقاومة ونقلها إلى فرنسا» ويعتقد المتخصصون أن رفض فرنسا تسليم هذا الأرشيف يرجع إلى تخوفها من أن تغير تلك الوثائق وجهات النظر السائدة المتعلقة بتاريخ تلك المرحلة.»كما تقدر المصادر نفسها حجم الأرشيف المسترجع حتى يونيو 2022 بحوالي 3 ملايين و900 ألف وثيقة من أصل 20 مليون وثيقة»
p هل لك طقوس خاصة في معالجة الصورة وتدويرها؟
n في البداية دعني أقو لكم أن الطقوس التي أراها مناسبة لقراءة الصورة التاريخية، هي نفس الطقوس الفنية والجمالية المتعارف عليها. فالصورة شكل ولون وطعم ورسالة. في البداية كانت لدي رغبة شديدة في النظر بإمعان إلى تلك الصور بالأبيض والأسود. ومع مرور الوقت قمت بترجمة الرغبة إلى فضول معرفي. وصغت أسئلة افتراضية من قبيل كيف متى ومن أين ولماذ؟ لكن مع عشقي للصورة وفن التصوير أصبحت منشغلا بالبحث في الحيثيات والملابسات. وكل ما يتعلق بالصورة كفوتوغرافيا أو كتخليد لأثر بشري أو عمراني. قد أستغرق زمنا طويلا أمام الحاسوب، أدقق في تفاصيل الصورة ربما حتى نصف ساعة أو أكثر. ولا أخفيكم سرا. إذ في بعض الصور أنغمس عميقا كي أعيش تفاصيل التقاطها. خاصة اللحظة التي التقطت فيها. وأتخيل نفسي أنا ذلك الشخص الذي يمشي وحيدا في شارع مترب حافي الأرجل مدثر بسلهام حد الركبة. وله نظرة تهز العالم. نعم أشعر أنني شخصية من بين الشخوص الموجودة بالصورة خاصة. إذا كانت صورة خاصة بزقاق أو سوق. لكن عندما أعيش هذه اللحظة. ربما مثل شاب واقف في الزقاق أو كطفل مسخر لدارهم وأو كرجل بائع متجول أو آخر يتبضع من السويقة. هنا تكتمل الفرحة وتستلهمني جمالية الصورة. فهي تتركني في حالة سفر عبر الزمن. رغم أن هذا الزمن ماض بعيد، لكن الصورة تجعله قصير.. بل قريب جدا. بل مثل نصب تذكاري أمامك.
p ماذا عن نقطة التطابق مع التغيير الحاصل في الزمان والمكان؟
n أعتقد أن نقطة التطابق لحظة فريدة ومتميزة. فأثناء تركيب الصورتين، لابد من طقوس خاصة. فالأمر يتعلق باستحضار لحظة من تاريخ مضى قادم من زمن بعيد لم تعشه. لكنك واثق من الصورة التي تعيش حاضرها بالفعل. لذلك، أول شيء تلاحظه أن هناك تطابق في الحيز الجغرافي مع الأخذ بعين الاعتبار التغيير الحاصل على المستوى العمراني وهندسة المجال من حيث الطراز والمظهر. كذلك الأمر بالنسبة لوسائل النقل فهي نقطة تطابق مفصلية مثلها مثل الأزياء واللباس. ويمكن السلع والبضائع المعروضة بالفضاءات العامة والأسواق الداخلية وخارج المدينة العتيقة. المقاهي والعلامات التشويرية أسماء بعض الفضاءات. ونجد كذلك في الصورة القديمة بعض العادات والتقاليد التي اندثرت في وقتنا هذا. يعني من خلال هذا التركيب للصورتين. تجعلك تعيش ثقافتين. تعرف التحولات كبيرة التي عرفتها الحياة عامة لحظة التقاط الصور القديمة. والتغيرات العاملة لحظة التقاط الصورة الجديدة. والشعور في حد ذاته ارتقاء فني ممتع ولذيذ.