حول اللغة والإيديولوجيا والترجمة عبد الحي المودن: الوعي بسطوة اللغة وتاريخ الأفكار بلغ ذروته في لحظة الربيع العربي

في سياق يتجدد فيه سؤال اللغة بوصفها شرطا للفهم وفضاء للصراع في آن واحد، جاءت محاضرة عبد الحي مودن، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط، لتعيد فتح المثلث المراوغ: اللغة والإيديولوجيا والترجمة، حيث انطلق من فكرة محورية مفادها أن كل كتابة عن السياسة إنما هي ترجمة للسياسة، لأن السياسة فعل سابق على اللغة، وممارسة لا تستقيم إلا حين تعاد صياغتها في شكل نصوص مكتوبة أو صور أو تمثيلات.
وأشار الدكتور عبد الحي المودن، في اللقاء الذي نظمته الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة يوم الأربعاء 02 دجنبر 2025 بالرباط، الى أنه لا توجد لغة واحدة تُجسِّد السياسة كما هي، بل توجد دائما ترجمة ما، واختيار دلالي ما، وتأويل ما. هنا تصبح كل مقاربة سياسية، حتى تلك التي تزعم الموضوعية، متورطة في فعل ترجمـي يعيد تشكيل الواقع وفق نظام لغوي ورمزي محدد، خاصة أن المفهوم يخضع لسجالات ذات طبيعة نظرية وإيديولوجية، يمكن حصرها ما بين اعتبار السياسة سلوكا متميزا عن غيره من السلوك البشري، واعتبارها إفرازا لبنيات سوسيو- اقتصادية، أو بكونها محصورة في مؤسسات الدولة وقوانينها ونظامها ونخبها، أو شاملة لكل أفراد المجتمع وشرائحه. وهذا ما قاده إلى تحديد تعريف جامع لمفهوم السياسة، باعتباره مرتبطًا بالسلطة وممارستها ومقاومتها.
المودن أضاف أن المعرفة الأكاديمية تختلف عن غيرها بكونها تعطي الأولوية لفهم السياسة، وليس لتبرير ممارستها، وتعمل على دراسة السياسة كموضوع خاضع لمناهج تتبنى الموضوعية أو تطمح إلى تحقيقها، وبكونها تتأسس على التراكم المعرفي بشأنها، وعلى ما يعرفه هذا التراكم من تطور في البراديغمات والمقاربات المعتمدة في الأبحاث العلمية.
هذا التأطير المنهجي قاد المودن إلى إعادة التفكير في مفهوم السياسة نفسه، ليقترح تبني تعريف يُرجع جوهر السياسة إلى علاقتها بالسلطة. وهنا تظهر اللغة مرة أخرى بوصفها جزءا من اللعبة؛ فالتعريف ذاته يترجم اختيارا معرفيا وإيديولوجيا يحسم طبيعة ما نعتبره سياسيا وما نستبعده من دائرة السياسة.
ومع الانتقال إلى سياق ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية، تتخذ اللغة، حسب المحاضر، موقعا أكثر خطورة. فالمعارف التي نستهلكها عن السياسة، رغم ادعائها الكونية، ليست سوى معارف محلية نشأت في سياقات ثقافية خاصة بأوروبا، وفرضت هيمنتها عبر اللغات المركزية، خصوصا الإنجليزية والفرنسية. هذا الاحتكار اللغوي جعل الخطابات القادمة من الهوامش تبدو مجرد «تذييل» أو «شرح». لذلك تصبح الترجمة، في هذا المستوى، فعل مقاومة لاحتكار المركز للمعنى، ومحاولة لإعادة صياغة ما يسمى بالمعرفة السياسية الكونية عبر تعدد الأصوات واللغات والتجارب.
في هذا السياق، تبدو المقاربة الأكاديمية للمفهوم في العالم الثالث، بما فيه العالم العربي والمغرب على وجه الخصوص، جزءا من هذه المعادلة الصراعية. فالكتابات التي حاولت اعتماد الخيار العقلاني في العلوم السياسية ظلت محدودة في البداية، رغم الترجمات العديدة لأعمال كبار المنظّرين.
يرجع المودن هذا التردد إلى حضور قوي للمرجعيات الاشتراكية والتضامنية، وإلى الحساسية تجاه الطابع الامبريالي الذي ألصقته السياقات التاريخية بكل ما هو نفعي أو ليبرالي. لكن مع انهيار المعسكر الشرقي، بدأ التحول يحدث ببطء؛ فقد ترسخت لغة الاقتصاد التي يتم تحريرها بـ»اللغة الفرنسية» ليتأكد استمرار المشروع المعرفي المرتبط بالمركز الأوروبي، قبل أن تمتد إلى العلوم السياسية بفعل التحولات الجيوسياسية التي شهدها العالم، وخصوصا الموجة الثالثة للديمقراطية.
هذا الوعي بسطوة اللغة وتاريخ الأفكار بلغ ذروته في لحظة الربيع العربي، إذ يرى المودن أن المعرفة السياسية قد أبانَت عن عولمة المصطلحات والأطروحات النظرية التي تُقارَبُ من خلالها الاحتجاجات عبر العالم، حيث بدت المفاهيم تتنقّل عالميا بسرعة غير مسبوقة عبر الوسائط الرقمية، إلى درجة بدا معها وكأن الاحتجاجات في تونس ومصر والمغرب وسائر الدول تُقرأ بذات الأدوات النظرية التي تُقرأ بها احتجاجات أوروبا أو أمريكا اللاتينية، وكأن اللغة الأكاديمية المهيمنة (خاصة اللغة الإنجليزية) استطاعت أن تُوحِّد التحليل. بيد أن هذا التوحيد الظاهري في اللغة يخفي تباينات عميقة، لأن الظواهر لم تتجانس رغم تجانس المفاهيم المتداولة حولها. وهكذا ظهر أن العولمة اللغوية للمعرفة السياسية لا تعني عولمة السياسة ذاتها، ولا تصنع واقعا موحدا، بل تكشف هشاشة مقولات الكونية نفسها.
هكذا يتضح أن الهيمنة اللغوية لم تُخْفِ التمايز الحاصل في المرجعيات النظرية للظواهر السياسية ومناهج تحليلها، بما فيها الاحتجاجات التي لم تدخلها عولمة المعرفة السياسية. ليصل في خاتمة محاضرته، إلى ضرورة ووجوب الاعتراف بأن عوالم المعرفة وعوالم السياسة مجالات مختلفة، وهذا ما لا يدع مجالا لنتوقع أن المعرفة قادرة على سد الهوة بينهما؛ حتى عندما تحمل هذه المعرفة قيمة عملية ذات بال، فلا يكون ذلك إلا في وقت متأخر. وأضاف المودن أن المسؤولية الرئيسية تبقى، رغم كل ذلك، مُلقاة على المعرفة، بما فيها المعرفة عن السياسة على خلاف غيرها من مقاربة السياسة: هي السعي الدؤوب للبحث عن حقيقة، حتى ولو كانت مؤقتة، لكي تحافظ الإنسانية على إنسانيتها، رغم مخاطر الظلم والطغيان والتلاعب التي ظلت تواجهها ولا تزال.
وخلص المودن إلى أن المعرفة السياسية معرفة محلية تهدف من خلال دعم أطروحات ما بعد الاستعمار (أو إزالة الاستعمار)، إلى إزالة الصبغة الكونية عن المعارف التي تعتبر نفسها كونية، وإغنائها بمعارف محلية متعددة حتى تتحول بالفعل إلى معارف كونية أكثر شمولية.
في ختام محاضرته، وضع مودن مسافة ضرورية بين المعرفة والممارسة، مؤكدا أن الهوة بينهما لا تُردَم؛ فالمعرفة، مهما بلغت موضوعيتها أو صرامتها، لا تغيّر السياسة في لحظتها، بل قد تحتاج إلى مسافة زمنية لتنعكس على الواقع. بيد أن هذا التأخر لا يرفع عنها المسؤولية؛ فالمعرفة، ولا سيما المعرفة السياسية، مطالبة بمطاردة الحقيقة الممكنة، حتى لو كانت مؤقتة وهشة، لأن هذا البحث هو ما يسمح للإنسانية بالحفاظ على إنسانيتها في مواجهة الطغيان والتلاعب وتزييف الوعي.


الكاتب : المحرر الثقافي

  

بتاريخ : 12/12/2025