في كل ذكرى خطاب أجدير الذي ألقاه جلالة الملك، يوم 17 أكتوبر من سنة 2001، يتأكد أن اختيار المكان لم يكن اعتباطا بل كان نتاجا لما يحمله من دلالات تاريخية وسياسية وثقافية عميقة، أجدير معلمة حضارية بامتياز، صحيح أن لهذا الخطاب أهدافا ومرام سياسية بالأساس، لكنه يحمل من القيم والمبادئ ما يسمح باعتباره قطيعة مع ماض تميز بالإقصاء والتهميش الهوياتي والتوحيد الثقافي uniformisation culturelle.
هي قيم ومبادئ ذات امتدادات نفسية عميقة، قمينة بأن تضمد جراح الهوية الثقافية الوطنية المتشظية، لتجاوز المعوقات الذاتية لإنجاز مشروعنا المجتمعي الديمقراطي الحداثي. هي معوقات ذاتية نتاج نفسية مثخن تاريخها بكل صنوف تجارب الإحباط والتهميش. من هنا تكون فرضيتنا أن روح أجدير تدخل ضمن ما أسميته بنزعة مقوّمة مقاومة une tendance de résilience تساعد الذات على الوعي بنقط نكوصها وتضميد رضوخ ماضيها لبناء مستقبلها بثبات، مستقبل ذات ثقافية تعتز بأصالتها وتفتخر بتعدد جذورها وتنوع منابعها.
وفي المقابل يكون فتور الإيمان بهذه الروح والتراخي في تفعيل المبادئ الثاوية خلف المنطوق، ضارا ليس فقط بالمسألة الثقافية والمسألة الأمازيغية على وجه الخصوص بل ببناء المجتمع الحداثي الديموقراطي المتصالح مع ذاته. في خطاب أجدير دعوة لتصحيح مسار تاريخي لثقافة الاستعلاء والتبخيس والكبت، إنه نداء من أعماق الأطلس المتوسط لتضميد جراح الهوية الثقافية الوطنية في شموليتها.
ما حرك هذه الوقفة معاينة مجموعة من التراجعات ومظاهر التراخي في تفعيل مبادئ ومقتضيات الخطاب. هذا ما حدا بي لاختيار هذا العنوان، «روح أجدير بين إحباطات الماضي ورهانات المستقبل». ستكون مقاربتي لهذا الموضوع نفسية سيكولوجية بالأساس، وهي مغامرة نظرية، بحيث سأحاول أن أبرز أن التفكير والسلوك الديموقراطيين يمتحان سبل الحياة من أرضية سيكولوجية وجدانية مشبعة بقيم التسامح والاختلاف والمغايرة، فالذات المحبطة المعنفة المهمشة والمقصية كما الذات المزهوة باستعلائها وسيادتها، تولد وفق آليات سيكولوجية لاشعورية عصابات الفشل وعنفا مضادا وإقصاء للغير. سأعتمد في مقاربتي هذه معاول نظرية ومفاهيم مستوحاة من مجال العلوم الإنسانية عامة ومن مجال علم النفس المرضي والاجتماعي على وجه الخصوص. وسأنطلق بتحديدات مفاهيمية لابد منها.
وأما المفهوم الأول فهو روح أجدير وأعني به ما يوحي إليه هذا المجال الجغرافي من دلالات حضارية ثقافية وتاريخية، مجال انصهار الإنسان في الطبيعة والماشية والجياد، مجال الغبطة والاحتفال بمواسم الحصاد والزواج، مجال الشهامة وإكرام الضيف والانفتاح على المختلف والغريب. دلالات حضارية انطبعت في الوجدان بأشكال واعية أو لا واعية. بالإضافة إلى إرثه السياسي التاريخي وما شهده من أحداث وشمت تاريخ المغرب برمته. والأهم ما حمله خطاب 17 أكتوبر 2001 من قيم ومبادئ أقرها دستور 2011.
وأما ثانيا، فيتعلق الأمر بمفهوم الهوية Identité. يحيل هذا المفهوم في دلالته المنطقية على مجموع الخصائص والسمات الثابتة والمميزة لشيء ما والتي تجعله مطابقا لذاته. وهو بذلك يدل على ما يفصل الشيء عن غيره. بهذا المعنى تكون الهوية كوحدة جوهرها الفرادة unicité. غالبا ما يعبر عن الهوية بالصيغة المنطقية، ألف هو ألف ولا يمكن لألف أن يكون غير ألف. إذا كان الأمر كذلك فهل تدل الهوية الثقافية على الفرادة والتميز المطلقين عن غيرها؟ هل تكون ثقافة جماعة ما هي ما يميزها ويفصلها عن غيرها؟ وبصيغة أخرى هل يمكن لجماعة ما، بفعل هويتها الخاصة، أن تكون مطابقة لذاتها ومتميزة بإطلاق عن غيرها من الجماعات؟
وأما مفهوم الثقافة الاجتماعية فأعني به، مجموع المعارف والفنون والقوانين والعادات والتقاليد والقيم التي يكتسبها الفرد عبر كل أشكال التنشئة الاجتماعية. وتكون بذلك منظومة ونسقا يحدد سلوكات الأفراد والجماعات. يعلمنا علم النفس الاجتماعي أن هناك ارتباطا وثيقا بين الثقافة والسلوك فما يطرأ على الثقافة المجتمعية من تحولات تؤثر ايجاباً أو سلباً على سلوكات الأفراد والجماعات. كما أبرزت الدراسات في مجال العلوم الإنسانية أن هناك آليات وميكانزمات عامة تحكم وتنظم اشتغال كل الثقافات.
فكل الثقافات تكون بالضرورة ذات طبيعة معيارية Normativeفهي تقوم على نسق من المعايير والقيم التي تضمن تماسكها وتناغم مختلف تجلياتها المادية والسلوكية. فطرق اللباس مثلا هي تجليات مادية لقيم أخلاقية وروحية تحكم الميولات الوجدانية وأنماط السلوك الفردي والجماعي. ومن جهة أخرى تسمح الطبيعة المعيارية للثقافة باندماج الثقافات الفرعية في الثقافة العامة للمجتمع. إلا أن ما طرح ويطرح إشكالا هو طبيعة العلاقة بين الثقافة العامة والثقافات الخاصة بالجماعات المكونة للمجتمع. فيكون هذا الاندماج مبنيا على التبادل والتقبل والتفهم، تارة، بحيث تدمج القيم الثقافية الفرعية في الثقافة العامة دون إنكار خصوصيتها ودون طمس هويتها وتفردها، وتارة أخرى تقوم العلاقة على الصراع بحيث يفضي إلى كبت تجليات وتعابير الثقافات الفرعية وطمس خصوصياتها ونبذ اختلافاتها.
ومن آليات الحفاظ على نسقية منظومة القيم الثقافية العنف. فلا غرابة في الأمر، ففي اللغة العربية تدل الدلالة المباشرة للكلمة على السيف، والثقاف هي الآلة التي تُسوَّى بها الرماح. وعموما وبما أن الثقافات هي ذات طبيعة معيارية فمن البديهي أن تعمد إلى فرض قيمها ومعاييرها بالعنف. لكن للعنف الثقافي أشكال متعددة. فقد يكون مؤسسيا يعتمد القهر في صيغة قوانين تفرض المؤسسات القمعية احترامه والخضوع لمقتضياته. وقد يكون رمزيا، يتجلى في مختلف صيغ الاستصغار والاستهزاء والذم والإنكار وغيرها كثير. كما قد يكون إيديولوجيا يقوم على الإقناع وتتولى أمره المؤسسات الإيديولوجية للدولة كالمدرسة والأسرة ووسائل الإعلام وغيرها من المؤسسات الإيديولوجية. عموما تعلي الثقافات وتثمن العنف لأن له قيمة تكييفية تفرض الخضوع للمعايير السائدة اجتماعيا.
لكن قد يكون للعنف الثقافي آثار مدمرة حينما يكون دغمائيا، أي حينما يتأسس على اعتقاد راسخ بامتلاك اليقين المطلق. هذا المعتقد dogme الرافض لكل يقين مخالف هو نوع من الحمق، حمق معياري قيمي يحاكم كل مغايرة انطلاقا من معاييره الخاصة. والأدهى من ذلك حينما يصبح هذا المعتقد إيديولوجيا مسيطرة تتبناها مؤسسات الدولة تسيطر على الجماعة، آنذاك يصبح حمقا اجتماعيا. والحمق المنحدر من معيارية مفروضة على الجميع Normativité imposéeيعيق التعبير ويعيق الإبداع لأنه يهاب التنوع ويحارب الاختلاف وكل ما يحيد عن الدوكسا والقيم المؤسسة لها.
إن الحمق الاجتماعي، بهذا المعنى، هو نتاج نوع من القلق إن لم أقل نوع من الفوبيا. فهو قلق تختلف حدته وتجلياته باختلاف الثقافات والجماعات. لكن القلق في مجتمعنا يتخذ في الغالب الأعم شكل فوبيا اجتماعية، لأن تاريخنا الفكري والسياسي يزكي هذه المخاوف لأنه أعلى من قيمة الوحدة بل التوحيد والنمذجةuniformisation إلى مستوى العقيدة المطلقة dogme وحدة القبيلة وحدة الأمة ذم الأحزاب … وهي العقيدة التي تشربتها ذواتنا حتى أصبحت المغايرة والاختلاف مثار مخاوفنا وحذرنا بل مثار استهزائنا وسخريتنا ولعل «نكتنا» خير دليل على هذا فما يضحك فيها هو الاختلاف ذاته.
بناء على كل ما سبق، أعتبر أن روح أجدير هو مصل ثقافة المقاومة. وأشير في هذا المقام إلى أنني لا أبغي من خلال استعمال مفهوم المقاومة دلالته السياسية كترجمة للكلمة الفرنسية résistance.تعني المقاومة تلك القدرة التي تمتلكها الذات الفردية والجماعية على مواجهة تجاربها الحياتية وعلى رفض وضعية الضحية المهادنة. المقاومة هي القدرة على البناء وعلى تحويل الإقصاء والتهميش إلى إرادة جامحة في الحياة. يحمل مفهوم المقاومة إذن، معنى نفسيا سيكولوجيا كترجمة للكلمة الفرنسية résilience.
ومن هذا المنطلق أعتبر أن خطاب أجدير يتضمن تصحيحا تاريخيا للتعامل التقليدي للدولة وللثقافة المسيطرة اجتماعيا مع الثقافات والذوات المسودة، من جهة، ويكون بذلك تقعيدا لثقافة الاختلاف والمغايرة، التي لا محيد عنها لبناء المجتمع الديموقراطي.إن الثقافة المغربية متعددة وهويتنا الثقافية الوطنية تشكلت من روافد متعددة، وهو إقرار من أعلى سلطة في البلاد وهذا ليس بالأمر الهين. لكن ومن نافلة القول التذكير كذلك بأن الاعتراف بالتعدد وبالاختلاف، وإن أصبح خطابا رسميا، لم تستمرئه الثقافة المسيطرة سياسيا واقتصاديا.
فلا يتوقف إرساء ثقافة الاختلاف والمغايرة على قوانين ومراسيم تخط على الورق. إنه مسلسل عسير للتطهير، تقوم من خلاله الذوات بإعادة قراءة ماضيها وإرساء تفاعلاتها وعلاقاتها على أسس مغايرة، لصد تمثلات الإحباط والتثبيط التي تبرر انسياقها عن وعي أو بشكل لاشعوري نحو العطالة والاستسلام. لقد تلقت «الثقافات المهمشة»، والأمازيغية منها على وجه الخصوص، عبر تاريخ المغرب كل أنواع التبخيس وزكت السلط السياسية المتعاقبة ذلك خوفا من الاعتراف بالتعدد، فحرصت على طمس الاختلاف معتقدة أن ذلك هو الطريق الملكي لبناء ثقافة موحِّدة، قادرة على بناء مناعة الصرح الاجتماعي. يخبرنا العلم، أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعيش الصدمات على مستويين. على مستوى واقعه المعيش وعلى مستوى التمثلات التي يبنيها عن تجاربه تلك. وقد يكون أثر التمثل أكثر وشما للذات.
فمسلسل التدجين الثقافي والإذلال الاقتصادي، استبطنته الذوات المَسُودة، وتشربت الدونية، كما استبطنته الذوات المسيطرة واستطابت الاستعلاء. فأصبح إقصاء الذات قبل الآخر رد فعل لاشعوري معتاد. إن ثقافة القهر هذه كان من اللازم، إن عاجلا أو آجلا، أن تنتج نقيضها. بهذا المعنى، وفي هذا السياق تكون المبادئ المؤثثة لخطاب أجدير والقيم الثاوية فيه مصل شفاء من ثقافة الاستعلاء والإقصاء والتهميش، شريطة أن تستمرئها الذوات وتتشبع بها وتعمل على تفعيلها.
يصرح خطاب أجدير بمجموعة من المبادئ والقيم التي كانت في الماضي القريب قبل البعيد من الممنوعات الثقافية ومن المحظورات الرسمية. فقد يستفاد من تحديده للهوية الثقافية الوطنية أنها بناء تاريخي مستمر، ترتج حدوده وتتغير بفعل دينامية العلاقات التي تبنيها الذوات مع أغيارها وعوالمها. إن الهوية إذن هي انبناء دائم وعدم استقرار مستمر فلا يبقى هناك من معنى للفرادة والصفاء المطلق والتميز التام عن غيرها. فالهوية الثقافية الوطنية تشكلت من روافد متعددة انصهرت لتشكل تاريخ الحضارة المغربية.
إن الوجود الواقعي للذوات يعضد هذا المنحى فالذات الوحديةsolipsiste هي محض وهم ففي إنتاجها لما تنتج انفتاح على الآخر والحوار يفتح بالضرورة الذات على آخرها. ولا ينبغي للحوار بين الثقافات أن يكون عموديا بل أفقيا، تكون فيه العلاقات متكافئة لا سيد ولا مسود فيه، لا شيخ ولا مريد. أثبت العلم أن المحاوَر منتج مشارك في إنتاج الخطاب Co-auteur وبصيغة أوضح إن طبيعة الخطاب ودلالاته تتحدد بطبيعة علاقة الذات المنتجة بالذات المتلقية.
فإذا أرسى المجتمع حقيقة ثقافية وحيدة تقصي المغاير والمختلف ففي أحسن الأحوال يؤدي ذلك إلى انغلاق الذوات في وحدتها النرجسية وكبت الإبداع والخلق. ينبغي، إذن، أن يستبطن الخطاب السياسي روح أجدير ليكون أداة للمقاومة outil de résilience وظيفته رفض السكوت عن الخصوصية، وإدانة كبت المشاعر والإرادات. يستهدف تقويم الذوات السائدة قبل المسودة وتطهير النفوس لبناء ذوات قادرة على تخطي إحباطاتها لتثبت أقدامها على درب بناء المجتمع الحداثي بثبات. وبالمثل تكون للإبداع الثقافي المنفتح قيمة علاجية يخلص الذوات المسودة من عقد الدونية والذوات السائدة من عقد الاستعلاء. إبداع يعبر عن الذات الاجتماعية في تعددها إبداع لا يقصي التعدد ولا يكبت الاختلاف بل إبداع يتغنى بآمال الذوات ويعلي من قيم الاختلاف ويفتحها على المغاير وعلى معانقة القيم الإنسانية في شموليتها.
بهذا تكون روح أجدير، لما تحتضنه رمزيته من دعامات حقيقية، أساسا لحوار اجتماعي حضاري وثقافي مرتكز على التسامح والسلام والتعايش. ويكون لبنة لبناء مجتمع ديموقراطي منفتح، وأساسا للإقلاع التنموي بالأطلس المتوسط والمناطق الجبلية عامة.
(*) فاعل مدني وتربوي بخنيفرة