يرتاد أنيس الرافعي كل مرة أراضي بكر، ضمن استراتيجية يمكن تسميتها سرد الدهشة. النص عنده ليس معطى جاهزا، بل يتكون خلل ممارسة سردية خلاقة تكتب/ تنكتب، وهنا بالذات يجدر بنا الحديث عن إنتاج النص. كل قصة قصيرة عالم قائم بذاته مكتف بها، مثل قنفذ سعدي يوسف الملموم على ذاته، ماحل من حبوته، بدءا من العنوان وحتى آخر سطر، آخر كلمة. ضمن هذا المنحى تندرج قصة (راكب الهواء) عن بهلوان استثنائي يركب خيطا مشدودا في الهواء، يمتد كخط مستقيم فيه تنكتب نقط حياته ونقطة موته، وما بينها تنعلن ألاعيبه، حركاته ومجازفاته البهلوانية. شخصية البهلوان كونية وموضوع إبداعي بامتياز اشتغل عليه رسامون، شاغال، بيكاسو وغيرهما، وكتاب مثل جان جوني، وفلاسفة مثل نيتشه، مرة أخرى يعلن أنيس الرافعي انتسابه للأقلية المنشغلة بالكائنات والهوامش والملحقات المضيئة، يشتغل كموجد لكون ملموس Démiurge، لركح وجودي مادي، يؤثث الركح: (أفتح دليل تلفون قديم،… أختار اسما لشخص لا تربطني به أي علاقة، يدعي عبد القادر السوسي … أفتح مطوية خريطة ورقية … أنتقي منها … بلدة لم يسبق لي أن زرتها، تسمى «مسكالة» تقع ضواحي إقليم مدينة الصويرة)، يؤثث الركح، لتنلعب فوقه حياة أو حيوات بهلوان، وفق تلك الألاعيب/ التمرينات المسكونة بخفة بالغة الهشاشة ومتعذرة الاحتمال. يصف تشيخوف في بداية إحدى قصصه صالونا في بيت ويذكر، هكذا، بأن هناك مسدسا معلقا على الحائط كديكور. ذكر ذلك طبعا ليس بالأمر العابر وسنعود إليه في سياق التحليل، وهنا في النص السردي يصف الرافعي السلك المعدني الذي سيركبه البهلوان ودعامتيه الحديديتين اللتين [يسندهما من إحدى الجهات حجر صلب كـ «الصخرة» الصماء]. وضع كلمة الصخرة بين قوسين ليس أيضا بالأمر العابر، كما لو أن الرافعي يقوم بالتسطير أسفل الكلمة ليثير انتباهنا لها، من حيث هي «صخرة « النص أو بؤرته. داخل هذا الفضاء المفتوح في بلدة «مسكالة « وسوقها الأسبوعي المغبر ستنلعب حياة عبد القادر السوسي البهلوان le Funambule راكب الهواء، أو مراقصه، سيقدم عرضه الفرجوي أمام قرويين بسطاء وفقراء، ولأن سرد أنيس الرافعي نوع من الاشتغال العالم الذي لا يترك أي فرصة للصدفة، بل قد يلغيها (الصدفة كما في قصيدة مالارمي)، انطلاقاً من ألخيميائه الماكرة التي تنهمر فيها الإحالات الجوانية، والنصوص المتقاطعة والمتناصة من برانية محايثة سرعان ما تصير جوانية تحيل على ذاتها وتقاطعاتها، وعلى النص المنتج لذاته. هذه الجوانية التناصية هي أحد ميكانيزمات اشتغال النص السردي عند أنيس الرافعي من حيث هو برانية متعددة ، يتحرر السرد من خطيته ويندغم في خطوط / بروق سردية متعددة وهو ما يحيل سرده على اشتغالات الساردين الكبار كما في نصوص بورخیص، خوليو كورتازار وغيرهما. لنعد إلى (الصخرة) ككلمة وكبؤرة منجبة للسرد: ( أتيت، قبل حين، على تنضيد كلمة «الصخرة» داخل نسيج الحكي المركب من استدعاءات قادرة بذاتها على تعديل تفاصيلها، لكونها عنوان قصيدة متطايرة الشهرة للشاعر «ميخائيل لير منتوف» ، ومن وحيها – حسب تخريجات بعض نقاد الأدب الرومانتيكي ومفسريه – كتب الأديب « أنطون تشيخوف قصتا» المعروفة «على الطريق» ، وبإلهام منهما معا – أي من خيمياء القصيدة والقصة – وضع الموسيقار «سيرجي رحما نينوف» قطعته الأوكسترالية طنانة الصيت «الصخرة»). هكذا يسافر السرد عبر إحالاته المتقاطعة داخل جوانيته المتعددة الشاسعة، نوع من الجوانية الكونية الهائلة ، تبني تضاريس السرد وطبقاته الجيولوجية عالما مفترضا فيه ستقع الأحداث من حيث هي حزمة ممكنات سردية.
ورد في النص : [لتكن حركات شخصية عبد القادر السوسي الجمبازية على هدي الشعر والقصة والموسيقى المعاندة جميعا لأية نزعة رومانتيكية]، من ( لتكن) التي ستتكرر كلازمة ثلاث مرات، ينعلن فضاء الممكنات التي تحدثنا عنها، الأمر يبدو كرهان على لعب سردي سيحول الوجود (وجود عبد القادر السوسي) إلى مصير. مع ( لتكن) تصير الأحداث قيد الإمكان، [حركات البهلوان على هدى الشعر والقصة والموسيقى] ليندعم عبد القادر السوسي راكب الهواء في سوق الخميس مسكالة، في كونيته ذات المرجعية الروسية، ثم [التلاقي الفاسد بين وحدانية راقص السلك المعدني وصخب الحشد، والصخرة الحانية]. عزلة راكب الهواء وسط الصخب، تلك العزلة التي سرعان ما ستندلق في وزر هاوية غياب لا مرد له، كل هذا يحدث داخل ما يمكن تسميته العود الأبدي للمثيل، ثعبان كويتز الكواتل الأزتيكي الذي يعض ذيله، زمن حتمي لا شفاء من متاهته، [ليس في ذاكرة دائرة المتاهة نقطة بداية، أو بارقة خاتمة]، le début est la fin، أو كما قالت رابعة العدوية في إحدى قصائدها [أول الطريق هو منتهاه]، تقول القصة القصيرة بأن [ما حدث سيحدث مرارا كثيرة إلى ما لا نهاية، لكون الزمان يعيد اختلاق الوقائع، ولأن مصير رجل واحد معوز عاش ومات بوصفه بهلوانيا لا غير، هو في الواقع، مصير على الورى في عرف عجلة الوجود الدوارة كماكينة مجنونة للمحق والمحو]. هذا الزمن هو الأيون Aion كل ذرة فيه تختزل الوقائع كلها، هو جماع الأزمنة، ولأنه كذلك فهو يوجد قبلنا، نولد نحيا نموت داخله، الزمن-الضام le temps englobant الذي داخله تصير حيواتنا مجرد ذرات متناثرة في الفضاء، هو زمن يختصر الكينونة كلها، هو [مصير كل الورى في عرف عجلة الوجود]. هذه العجلة بالذات يدفعني سرد أنيس الرافعي لتخيلها كتلك العجلة التي تدور ما تني تدور لينلعب فيها يانصيب الوجود، الفرق الوحيد هو أن عجلة اليانصيب في السيرك قد تربح فيها شيئاً، أما هذه فهي [ماكينة مجنونة للمحق والمحو]، شبيهة بلعبة الروليت الروسية. يحيل هذا الزمن على الفهم الرواقي للوجود، حيث يتم القبول بالمصير المهيأ سلفا. كأني بعبد القادر السوسي الأمازيغي راكب الهواء يردد مع الشاعر الفرنسي جوبوسكي [ جرحي ولد قبلي…]. وجود يسير/ يتراقص / يجازف فوق حبل هوائي، وفق إيقاع أو تيمة موسيقية نجدها في السمفونيات (كريشندو)، وهي تيمة تصعد فيها موسيقى الجوقة عاليا، عكس تيمة Moderato أو أليغرو. ليس ركوب الهواء بالأمر الهين ولا محل الراحة. يقدم البهلوان فرجة للحشد من الناس مسكونة بالمخاطرة، لا يركب الهواء بل يركب العابر، ضمن كوريغرافيا يتواتر فيها الترنح والتوازن. يلاعب السوسي الأشيب الحشد من المتفرجين، ضمن الفرجة – المخاطرة لكنه في الحقيقة لا يلاعب سوى ذاته، حياته، مصيره، يقيم على حافة الخطر فهل تراه يرى علامات النجاة؟. يبدو أن وجود السوسي منذور للمخاطرة، للمحو، والكارثة. كل مجد السوسي كامن في ركوب الهواء والاضطلاع بالخطر، مثل بهلوان جان جوني في مسرحتيه بنفس العنوان، الذي تتأرجح هوتيه وهو فوق الحبل بين الظهور والكمون. كل حياته متعلقة بعصا التوازن، يظل في وضعية كريشندو، لربما تكمن هشاشة البهلوان في الأعلى مرتبطة بالهندسة المتغيرة للحشد من رواد الفرجة في الأسفل، وبأبصارهم الشاخصة لرقصه ومجازفاته فوق السلك المعدني. داخل هذه الهشاشة الوجودية يبدو بطلا لكنه منذور للمحو، يبدو سيد الهواء ملكا متوجا على الهواء، فوق كابل معدني، مثل الإنسان الأخير النيتشي، الإنسان الذي يجسد العدمية، والذي رأى صاحب [هكذا تكلم زرادشت] بأنه يجب تجاوزه نحو الإنسان المتفوق ubermensch. داخل تيمة الكريشندو هذه التصاعدية، المتعملقة، مثل مارش عسكري من تلك التي نجدها في سمفونيات غوستاف مالر، يصف أنيس الرافعي بدقة كل حركات وسكنات عبد القادر السوسي، الحبل أرضه، ترابه الشخصي مجرته، وفوق كابله المعدني، تصير له السيادة المطلقة على المكان، إنه رجل الفرجة بامتياز، [إنها الفرجة التي لن تجدها في أي مكان يامحمااااد] يقول موجها الكلام لرواد الحلقة، سيد الرقص في الهواء، سيد الإثارة والتشويق، وسيد الكلام الطاعن «فوق السلك» بكل معاني رغد العيش المحلوم الذي تحمله الصورة، يقول ذلك محاطا بما يسميه أنيس الرافعي (مجموعة من الطيور الجارحة)، وهو توصيف له أهميته ضمن استراتيجية السرد، لأن السرد عنده مثل بازل يتم تنفيذه قطعة تلو قطعة، أو مثل خطاطة استراتيجية تخص كل نص على حدة وتخص الماكينة السردية التي يشكلها كل كتاب سردي على حدة. ما يكتب / ينكتب عند أنيس الرافعي ليس اللغة والدلالات بالرغم من أهميتها، ما ينكتب هو التنفيذ السردي agencement narratif الذي يطال المادة السردية التي عليها يشتغل، وهو تنفيذ نجده عند رايمون كارفر، كورتازار، كالفينو، تنفيذ هو صنعة السرد، وبهذا المعنى يمكن القول عنه بأنه سارد مينمالي. ينخرط راكب الهواء في حرب صامتة مع رواد حلقته، وبقدر ما تتعاظم مجازفاته وألعابه البهلوانية فوق السلك المعدني، بقدر ما تتفاقم عدوانيته المبطنة المعلن عنها عبر (كلام غامز) كما تقول القصة اتجاه هؤلاء الرواد واتجاه (حضورهم البارد إلى حلقته الحاشدة)، يستفزهم عبر الكلام مازجا الذم بالنصح، وداخل هذه الحياة الهوائية البالغة الحقة والهشاشة يظل محافظا على التركيز البالغ، يقول: [ثمة من يواظب على القدوم كل يوم أحد، على أمل أن يراني أسقط. لكن، هيهات. ليهدكم الله أيها المغاربة الأحرار، توقفوا عن «تقطير الشمع» على بعضكم البعض، توقفوا عن الحفر لبعضكم البعض، مثل العقارب السامة]. لكنه كلام يلقى في آذان صماء، لا أحد ينصت لحكمة راكب الهواء، لا أحد. ها قد تحول البهلوان إلى نوع من المصلح الاجتماعي همه رتق مزق الشخصية المغربية، رأب صدوعها وإصلاح أعطابها، لكن الملتحيين من رواد الحلقة نعتاه «بالإيخان» وقاما بشيطنته. لا يركب السوسي الهواء، بل يركب أيضا سلك أو أسلاكا معدنية تنتصب داخل جماجم متحجرة، مسكونة بالكراهية والعدوانية، منذورة لتأبيد الأعطاب. الكم الهائل من العطاء الفرجوي يقابله الجهود والنكران. لا أحد في مجتمع الفرجة يقدر مجازفاته. «غي دوبور» يقول بأنه في مجتمع الفرجة المعممة كل شيء يصير زائفا، بل إن الزائف يتحول إلى معيار للصحيح. يبدو أن مآلية عبد القادر السوسي تجعله منذورا لأن يصير الإنسان الآخر، إنسان في زمن الأنبياء الكذبة. ما الحياة غير مجازفة ومخاطرة لا مرد لها. راكب الهواء بإمكانه أن يقيس هشاشات العالم، له الهواء ولكن لا أرض له، إنه مجرد جذامير هوائية مثل عشب والت ويتمان، قد يفرد/ جناحيه ويتحقق في صيرورة مغايرة لا تدركها العامة من رواد الحلقة، [كما لو كان عصفورا مقلوبا على ظهره]، وهنا لنعد إلى الكلمة / البؤرة التي نضدها أنيس الرافعي كمؤشر دال على الممكنات السردية التي يقوم بتوضيبها، صخرة ليرمنتوف وتشيخوف ورحما نينوف، ولعل عبد القادر السوسي لن يصوغ أبدا أمنية شعرية مثل تلك التي عبر عنها الشاعر الجاهلي ذو الإصبع العدواني: [ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر / تنبو الحوادث عنه وهو ملموم]، لن يتمكن من صياغتها أبدا، لاعتبارات متعددة. يمكن القول بأن السارد- الشامان أنيس الرافعي يشتغل كثيرا على المونتاج السردي، وفي هذا قد يكون سينمائيا من مريدي إيزنشتاين الذي ارتقى بالمونتاج إلى مستوى مفهوم هيجلي. لا شيء يترك للصدفة / كل شيء يترك للصدفة أو بالأحرى لمباغتة القارئ. اصاعد**** الكريشندو سقط البهلوان في [الفراغ الغادر، ليرتطم رأسه الأملط ب «الصخرة»]، هل هي شاهدة قبره المهيأة سلفا، تلك الصخرة القاتلة، مثل مسدس تشيخوف الذي أشرنا إليه آنفا والذي سترتكب به جريمة قتل. المتنبي قال: [القاتل السيف (بفتح الفاء) في جسم القتيل به / وللسيوف كما للناس آجال]. ثم تأتي La chute : [ ومن الضفتين «على الطريق» توافد الخلق، من كل حدب وصوب، لرؤية جمجمته المهشمة، وكنت واحدا منهم]، كل الاحتمالات والممكنات صارت وقائع. الصخرة السردية أنهت وجود الكائن السردي الذي انعلن وجوده كبازل شيد قطعة تلو قطعة، الصخرة مؤشر دال انطلاقا منه تناسلت ممكنات السرد، وهنا نستحضر راكب هواء آخر ذي منحى نيتشي ذكره نيتشه في برولوغ (هكذا تكلم زرادشت)، فحين نزل زرادشت من الجبل بعد سنوات من العزلة وجد الحشد من الناس، رواد حلقة أخرى ليست في مسكالة، متحلقين للفرجة على بهلوان يرمز للإنسان الأخير، قال زرادشت [الإنسان حبل مشدود بين الحيوان والإنسان المتفوق le surhumain-حبل فوق هاوية. عبور الهاوية خطر- سلوك هذه الطريق خطر – الرؤية للوراء خطر – الشعور بالخوف والرعب والتوقف المباغت خطر. عظمة الإنسان هو أنه جسر لا نقطة نهاية، ما يمكن أن نحبه في الإنسان هو كونه مرحله انتقالية وفقدان. أحب أولئك الذين لا يعرفون كيف يعيشون إلا شريطة فقدان ذواتهم، لأنهم حين يضيعون يتجاوزون أنفسهم]. يقول أنيس الرافعي في نهاية النص القصصي بأن الناس تحلقوا حول جثة عبد القادر السوسي البهلوان الذي سقط وتهشمت جمجمته على الصخرة، ويقول […وكنت واحدا منهم]. سار البهلوان أو راكب الهواء النيتشي في برولوغ زرادشت على الحبل وسط صياح الجمهور وصراخه المرعب وشتائمه، فقد البهلوان الاتزان [رمى بغتة عصاه التي تحفظ توازنه، وسقط بسرعة في الفراغ، (…) كانت الساحة والجمهور يشبهان بحرا اجتاحته العاصفة، هرب المتفرجون في كل الاتجاهات، … ابتعدوا خصوصا عن المكان الذي انسحق فيه الجسد الساقط(…)]، حمل زرادشت الجثة على عاتقه واجترح طريقه، التقى عند باب المدينة حفاري القبور ونعتوا البهلوان بالكلب النافق.. زرادشت أيضا كان هناك، لكنه ترك الجثة وتابع طريقة دون تعليق…
حول قصة أنيس الرافعي القصيرة «راكب الهواء»

الكاتب : مصطفى الحسناوي
بتاريخ : 02/05/2025