حينما يصبح النهب أفقا مشتركا

من الواضح أننا لسنا بصدد إثارة إشكال ثانوي عابر، أو ظرفي، باعتبار أن ظاهرة النهب ومنذ فجر الإنسانية، اقترنت بالأفراد كما بالجماعات، حيث تعددت وتنوعت قطاعاتها وفضاءاتها ، بتعدد وتنوع مجالاتها و اختصاصاتها، فكل قطاع له أنساق نهبه الخاصة به ، مما يجعل الباب مشرعا على مصراعيه أمام الباحثين والمهتمين، كي يتوزعوا على مجموعات، تختص كل منها بقطاع من القطاعات التي يمارس فيها النهب مهامه المنوطة به، ومن خلال مراجعتنا للحقائق التي تمدنا بها الذاكرة التاريخية، سنتأكد وبالملموس، أن الأمر يتعلق بممارسات منظمة ومهيكلة على المستوى المؤسساتي، وبشبكات لها قيمها وأعرافها وتقاليدها ونصوصها ومواثيقها.إنها شبيهة بدويلات متماسكة، متلاحمة ومتكاملة، لأن النهب وبالنظر إلى استراتيجياته وآفاق عمله، يقتضي حضور بنيات مؤسساتية تتوفر على مواردها البشرية المكلفة بإدارة مراكزها وفروعها ، والشبيهة بأذرع أخطبوطية توظفها في الترحيب كما في البطش، حيث يستقل كل منها بمهامه وحيثياته وتراتبيته الخاصة به، في الإطار التنظيمي الذي ينتمي إليه، وكلها عناصر تجعل من النهب ممارسة متجذرة في الحياة العامة، وليست مجرد ظاهرة طارئة، أو حدثا جزئيا وهامشيا.
لذلك سيكون من الطبيعي أن تحظى محكياتُه وخوارقه، باهتمام مختلف المنابر الإعلامية ، بوصفها الموضوع الأكثر إغراء بالكتابة ، وبالمتابعة، إذ لا تخلو صحيفة يومية، أوأسبوعية، ورقية أو إلكترونية، من مستجدات ذات طابع غرائبي وعجائبي، حول أحداث نهب يشيب من هولها الولدان، دون أن تكون بالضرورة موضوع متابعة أو محاسبة، وهي المفارقة التي تجعلنا نميل إلى اعتماد النهب كآلية لقراءة وتفسير الكثير من الظواهر الاجتماعية والثقافية. من ذلك مثلا، موضوع الهوية ، التي جرت العادة أن يُتناول ضمن إطار القيم السامية، والمثل التي تستند عليها الشعوب في الاعتداد بمقوماتها الثقافية ، وخصوصيتها الاجتماعية والتاريخية ، مع العلم أن شطرا أساسيا من مكونات البنية الذهنية والسيكولوجية لهذه الشعوب، يظل طي الكتمان، وفي حكم المسكوت عنه، وهو المتعلق بالمسلكيات المنحرفة التي تتصف بها نسبة غير قليلة من رموزها المتحكمة في مواقع القرار، والمعروفة بمناوئتها وتصديها ، لكل تطلع حضاري وتنويري ، حيث تظل إمكانية خضوع هوية ما لتوجهات هذه المواقع المافيوزية، جد واردة ، والتي يتحول فيها النهب إلى مهيمنة حقيقية ، تحتل حيزها المركزي في صياغة الهوية، على الأقل خلال محطات معينة من تاريخ صيرورتها.
وإذا كان من الضروري أن نقدم تعريفا مكثفا، يعكس رؤيتنا الخاصة لمفهوم النهب، فسنكتفي بالقول، بأنه ذلك النوع من التوظيف المباشر لما نسميه بالدينامية العمياء، التي تلتهم نيران جشعها دواخل مجتمعات، تنعدم فيها كل شروط الحق والقانون، وهو الواقع الذي يتحول فيه النهاب عموما، إلى قدوة ، وإلى رمز نموذجي للذكاء والقوة، مع حضور انطباع خاص بغموض تموضعه الاجتماعي، حيث تتعذر على الملاحظ مهمة تصنيفه ضمن أية طبقة /شريحة معلومة.ولعل غياب الرؤية الموضوعية والمقنعة للمصدر الذي يستمد منه النهاب سلطته الرمزية، هو الذي يضفي عليه المزيد من الهيبة، كما أن تضارب الآراء، في مصدر هذه السلطة الغامضة ، هوأحد أسباب تعددها وتنوعها، كما هو أحد العوامل، المضاعِفة لمساحة نفوذها.وعلى أساس هذه الاعتبارات، يتحول النَّهَّابُ إلى أفق قابل للاستشراف من قبل الفئات التي تستأنس في نفوسها ميلها واستعدادها الفطري للتذاوت معه، وفي ظل الاتساع العشوائي لخارطة النهب ، وبتواز مع تعدد مستوياته وتنوع تقنياته، وأيضا مع تحوله إلى ظاهرة جد طبيعية، وسلوك معتاد، فإنه أمسى شأنا طبيعيا ، ولم يعد مثار انتقاد أو تساؤل، بفعل سقوط الطرف الأساسي في المعادلة وهو العقاب، الذي يؤدي حتما إلى إحداث انقلاب دلالي شامل وتام في الطرف المستبد.بمعنى أن النهب وبفعل حضوره القوي في عموم المنتديات السياسية والاقتصادية والثقافية ، يتخلص من دونيته في السلم التراتبي للقيم، كي يتحول إلى ممارسة مجتمعية ، قابلة للتصنيف والمناقشة والتقييم، أسوة بأي اختصاص مهني أو معرفي، يتميز بمواصفاته، من حيث مهاراته وإمكانياته اللوجيستيكية، إلى جانب ما يتوفر عليه من تقليعات، حيث يمكن الحديث عن طبقية لصوصية، يستقل فيها فضاء خاصَّتِها بوجوده عن فضاء عامتها، مما يسمح بالتنظير للحروب الطاحنة القائمة بين أثرياء النهابين ومعدميهم ، بفعل تعارض المصالح وتداخل الحدود، واختلاط المعايير، حيث يلوح ذلك الفرق الكبير، القائم بين نهب مصنَّفٍ يكون معززا بأسسه التدبيرية، وثراء ملكاته، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبين نهب عشوائي ومرتجل قابل للطعن، حيث تتجسد سمات النهاب المنتمي إلى الصنف الأول في تمكنه من أدواته ومن تقنياته، و في إلمامه الشامل بحيثيات السياق الذي يتواجد فيه ، فضلا عن تمكنه من استراتيجيات الإقبال والإدبار، وإحاطته الوافية ببروتوكولاتها، ولغاتها.لذلك سيكون من الطبيعي أن يحظى باحترام المؤسسات الرسمية والمدنية، وأن تتوافر له شعوب من الأتباع والمعجبين، مما يجعله متمتعا بنوع من الهيبة ، المنسجمة مع جاهزيته التامة للبطش بخصومه ، وعموم المناوئين له.
وبعيدا عن مدونات القيم، و ما يُتداول في مدارسها الأخلاقية، من مفاهيم، وأيضا، بعيدا عن قوانين الردع الاجتماعي، بمجموع مرجعياتها الدينية أوالعلمانية ، التقليدية ، أو الحداثية التي من شأنها توفير الحماية للمستضعفين، أفرادا كانوا أو جماعات، مع الأخذ بعين الاعتبار، المواجهات التي لا حصر لها، والمتراكمة بين أقانيم الحق والباطل، فبعيدا عن كل هذا وذاك، يمكن طرح تساؤل على درجة كبيرة من الملحاحية، برغم مما يشوبه من غرابة وطرافة، وهو المتعلق بالحديث عما يمكن تسميته بالخطة المناسبة لممارسة فعل النهب، والتي على ضوئها، يمكن تفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية، باعتبار أن النهب يستكمل مشروعيته ومصداقيته، حالما تتوافر حيثيات الخطة الملائمة لممارسة انتهاكاته، والمقصود بالخطة الملائمة، هي الظرفية التي تتحقق فيها الشروط الموضوعية والذاتية المشجعة على القيام بمبادرات نهب سياسي أو ثقافي .ففي ظل هذا الواقع ، تتسع فضاءات الشبهة، وتتعدد أقنعتها ، كما تكتمل مقومات تفسير حركية العالم ككل،على ضوء مقولات النهب .وهي رؤية /قناعة، على درجة حارقة من المأساوية والألم ، لأنها تحفزنا على إعادة النظر في مجموع الأسس التي تقوم عليها العلاقات الإنسانية ، بصرف النظر عن خصوصيتها، حيث يصبح التربص عاملا مشتركا ومركزيا في كل هذه العلاقات، لأن التربص هو الذي يسمح بضبط عناصر الخطة الملائمة للنهب ، سواء كانت معتمدة من قبل الحاكمين، أو من قبل نماذج معينة ، فلا فرق في ذلك بين التعاملات الفردية البسيطة، وبين غيرها من التعاملات ذات الأفق الدولي، حيث تتبخر القيم والأخلاق، وتتهاوى التعاقدات المجتمعية، وكل البروتوكولات السياسية المنظمة لها ، كي يكشف النهب عن حضوره القوي والمكشوف، فكل شيء قابل لأن يُؤَوَّل بمنظور الحاجة الجامحة للنهب، الأفكار، الأوطان، الأحاسيس الإنسانية، كما لو أن العالم قد خلق أساسا من أجل أن يكون موضوعا مشاعا لكل أصناف النهب، إلا ما عافت من غنائمه سباع الوقت وضباعه، وللقارئ اللبيب أن يمتحن قدرته على التذكر، كي يعيد تأويل وتفسير ما لا حصر له من الأحداث التاريخية، والشواهد الموثقة بنصوصها، على ضوء مقولة الخطة الملائمة للنهب، وعملية التأويل هاته، سوف ترتقي بالنهب من حيزه الوضيع الذي تتواجد فيه عادة شرائح اللصوص، وقطاع الطرق، إلى الفضاءات الصافية، المثالية، والخالصة، ففي قلب هذه الفضاءات، سوف تصبح الخطة الملائمة للنهب إطار عمل، يتميز بأهميته الاستثنائية، في قلب الفضاءات السياسية، الاقتصادية والثقافية، وخاصة في شقها الأكاديمي ، حيث سوف تصبح له أبعاد جديدة مبررة براغماتيا واجتماعيا، ، بعيدا عن أي تحكيم أخلاقي. إن موضوع النهب هنا، ومن هذا المنظور المعكوس، يصبح اختيارا فكريا ، ورؤية للعالم، وشكلا ملائما من أشكال الفوز المشروع، بغنائم الحياة الدنيا، التي ستظل بدونه مؤجلة وعصية على التملك، وبالتالي، إنه الانتقام المباشر والعدواني من سلطة القوانين، ومن سلطة التعاليم، ومن سلطة القيم.


الكاتب : رشيد المومني

  

بتاريخ : 03/11/2017