ولد باسم محمد صالح أديب خندقجي، في الثاني والعشرين من كانون الأول عام1983في مدينة نابلس، بدأ دراسته في مدرسة المعري الابتدائية، ثم حصل على الثانوية العامة من مدرسة الملك طلال، التحق بجامعة النجاح الوطنية دراسة خاصة قسم العلوم السياسية ثم حول إلى قسم الصحافة والإعلام.
أثّر مشهد الطفلة إيمان حجو ابنة الأشهر الأربعة التي قتلتها قذيفة دبابة إسرائيلية في حضن والدتها في قطاع غزة، فشكل مجموعة طلائع اليساريين الأحرار، واعتُقل بتاريخ الثاني من تشرين الثاني عام 2004 على يد قوات الاحتلال بعد عملية سوق الكرمل في الأول من تشرين الثاني للعام نفسه، والتي نفذها الشهيد عامر عبد الله من كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، واتُهم باسم بأنه كان أحد أعضاء المجموعة التي خططت للعملية، فحُكم عليه بالسجن لثلاثة مؤبدات.
أصدر من سجنه ديواني شعر هما: “طقوس المرَّة الأولى” الذي تمت طباعته في الدار العربية للعلوم “ناشرون”، ونال إعجاب الكثير من القرّاء، وقامت دار النشر بطباعته مرة أخرى، الديوان الثاني صدر أيضا عن الدار العربية للعلوم ـ ناشرون، وحمل عنوان: “أنفاس قصيدة ليلية” قدمه الشاعر والإعلامي زاهي وهبي، كما أصدر رواية “مسك الكفاية”.، ورواية “خسوف بدر الدين”، ورواية “نرجس العزلة”، ورواية “أنفاس امرأة مخذولة”، وهذه الرواية التي بين أيدينا هي روايته الخامسة والموسومة ب”قناع بلون السماء” والتي سنقوم في هذه الورقة البحثية بتناولها بالدرس والتحليل.
تبدو الرواية للوهلة الأولى ثرية بالمعلومات التي قد تكون جديدة على كثير من القراء، مما يطرح تحديًا يتمثل في دمج هذه المعلومات المتنوعة (التاريخية، السياسية، الحقوقية، الدينية) في نسيج أدبي متماسك دون أن تتحول الرواية إلى مجرد نصوص تعليمية أو منبر للتعبير عن آراء شخصية. يتطلب الأمر من الكاتب مهارة عالية للتوازن بين نقل المعرفة وبناء عالم روائي متكامل.
تغوص رواية “قناع بلون السماء” في أعماق النفس البشرية وعوالمها المتشابكة، وهي رواية ولدت من رحم السجن، لكنها تتخطى حدوده الضيقة لتتناول سجونًا أوسع وأكثر قسوة. ففي عالم الرواية، تجد نفسك أمام سجن يضيق بأسئلة الهوية والوجود، سجن يفرض قناعًا على وجوه الناس ويحاول طمس معالمها الحقيقية. ذلك القناع، الذي يشبه لون السماء، متغير ومتلون، يعكس حقيقة مريرة: أن الهوية ليست ثابتة، بل قابلة للتغيير والتأثر بالعوامل الخارجية. فالشخصيات تتصارع مع أنفسها ومع المجتمع المحيط بها، تسعى جاهدة للعثور على هويتها الحقيقية وسط زوابع التغيير والاضطراب. الرواية لا تقتصر على طرح الأسئلة، بل تتعمق في البحث عن الإجابات، مستخدمة لغة شاعرية رفيعة وأسلوبًا سرديًا مبتكرًا. فكل جملة تحمل في طياتها دلالات عميقة، وكل مشهد هو لوحة فنية تتجسد فيها معاناة الإنسان وتطلعاته. إن الرواية لا تقتصر على طرح الأسئلة، بل تتعمق في البحث عن الإجابات، مستخدمة لغة شاعرية رفيعة وأسلوبًا سرديًا مبتكرًا. فكل جملة تحمل في طياتها دلالات عميقة، وكل مشهد هو لوحة فنية تتجسد فيها معاناة الإنسان وتطلعاته.
“قناع بلون السماء” ليست مجرد رواية، بل هي تجربة قراءة فريدة من نوعها. فهي تدعوك للتأمل في واقعنا المعاصر، وتسألك عن هويتك الخاصة، وعن دورك في صنع المستقبل. إنها رواية عن الصراع، عن الأمل، وعن الإنسان في مواجهة الظلم والقهر.إنها رواية تستحق القراءة لكل من يبحث عن رواية تتجاوز حدود الأدب التقليدي، وتغوص في أعماق النفس البشرية، وتطرح أسئلة جوهرية عن الوجود والمعنى.
يبدأ خندقجي في رسم مسار رحلة بطله، “نور المشهدي”، الباحث الفلسطيني اللاجئ، الذي أوقعته مصادفات القدر في مواجهة حافلة بالتحديات مع بحثه التاريخي عن “مريم المجدلية”، الشخصية الغامضة التي لا تزال أسرارها مغلّفة بستار الزمن. تصطدم محاولاته بتعقيدات وموانع، يتقدمها غياب شبه تام للمجدلية في التاريخ الرسمي، وأيضًا في التاريخ الذي يبقى صامتًا عن بعض الحقائق.
ولمواجهة هذا الفشل، وبعيدًا عن الرواية الشهيرة “شيفرة دافنشي” لدان براون، يتخذ نور قرارًا شجاعًا؛ يريد أن ينقّب عن أسرار المجدلية بنفسه ويكشف ما خبأته الأزمان. لكن قيود الاحتلال وقوانين الفصل العنصري تجعل تحركاته محدودة، تعيقه عن البحث في المدينة التي يُعتقد أن المجدلية عاشت فيها.وفي ظل هذا الواقع، لا يبقى أمامه سوى التخيّل وسيلةً للكتابة؛ إذ أنه يدرك، كما يقول، أن “التاريخ في جوهره ليس إلا خيالًا ممزوجًا بالعقل”. لكن حتى الخيال يبدو ميدانًا شائكًا لنور، فيسأل نفسه بأسى: “كيف أكتب الرواية؟ وما الأسلوب الذي يجب أن أتّبعه للوصول إلى الحقيقة؟”
في رواية خندقجي، نجد أنفسنا أمام لعبة أدبية متداخلة. فبطله، وهو كاتب بحد ذاته، يشرع في كتابة رواية عن كاتب آخر. هذه الحركة الدائرية تثير أسئلة حول طبيعة الإبداع وعلاقته بالواقع. البطل، في هذه الرواية، لا يكتفي ببساطة بسرد قصته، بل يكشف لنا عن أدواته الإبداعية، مثل تسجيلات الموبايل التي تعمل بمثابة بوصلة تحدد مسار روايته. هذه التقنية الروائية تمنح القارئ نظرة ثاقبة على عملية الكتابة نفسها، وتدعوه إلى التفكير في العلاقة المعقدة بين الخيال والحياة.
في البداية، نغوص في عالم الرواية من خلال منظور “نور” نفسه. يسرد لنا أفكاره حول الكتابة، ما يراه صحيحًا وما يرفضه، وكيف يتلاعب بأدوات السرد. يتنقل بين الأفكار والأساليب، وكأننا نشهد عملية ولادة النص أمامه. لكن خندقجي، بصفته صانع هذا العالم، لا يتركنا طويلًا في هذا المنظور الضيق. سرعان ما يسحبنا إلى عالم أوسع، حيث يظهر راوٍ عالم بكل شيء، قادر على التحكم في مصائر الشخصيات وتوجيه الأحداث. هذا الراوي العليم هو من يمنح نور القدرة على التنقل بحرية في القدس، وكأنه يتلاعب بقطع الشطرنج.
يقدم لنا خندقجي حلًا عبقريًا لمأزق نور. ففي سوق الخردوات، يجد نور معطفًا قديمًا يحمل في جيبه مفاجأة غير متوقعة: بطاقة هوية زرقاء باسم “أور شابيرا”، وهو الاسم العبري لنور. هذه البطاقة، التي تربط بطلنا بهوية أخرى، تفتح له أبوابًا جديدة.
بفضل الشبه الكبير بين نور والإشكنازيين، يستطيع الآن التوغل في قلب المدينة، يحضر محاضرات جامعية ويتجاوز حواجز التفتيش. لكن هذا التوغل ليس مجرد لعبة للأطفال. فخندقجي يدفع ببطله إلى مواقف أكثر تعقيدًا، إذ يجد نفسه متورطًا في بعثة تنقيب أثري تقوده إلى مكان قريب جدًا من المكان الذي يبحث فيه عن أسرار المجدلية. بهذه الطريقة، يربط خندقجي بين الهوية المزدوجة لنور وبين البحث عن الحقيقة. فهل سيجد نور ما يبحث عنه؟ وهل ستكشف هذه البعثة عن أسرار الماضي؟ أسئلة تشدنا إلى أعماق الرواية وتدعونا لمواصلة القراءة.
تستغل رواية “قناع بلون السماء” تقنية التسجيل الصوتي لتقديم شهادة حية على معاناة الشعب الفلسطيني. من خلال رسائل نور إلى صديقه مراد، نتعرف على جوانب الحياة اليومية تحت الاحتلال، ونستمع إلى صرخة فرد واحد تمثل صرخة جيل بأكمله. يقدم الكاتب تحليلاً نقدياً عميقاً لظاهرة الاحتلال، حيث يكشف عن آثاره المدمرة على الهوية الفردية والجماعية. القناع، كرمز، يعكس التناقضات التي يعيشها الفلسطينيون، حيث يضطرون أحياناً إلى ارتداء أقنعة مختلفة للبقاء على قيد الحياة. إن اختيار الكاتب لألفاظ مختلفة للقناع يعكس التعددية اللغوية والثقافية في المنطقة، وكيف يمكن أن تستغل هذه التعددية لخدمة أهداف سياسية.
يتجلى إتقان خندقجي في نسج خيوط سردية معقدة، حيث يستعير من مناجم التاريخ والأديان، متنقلاً بسلاسة بين حقب زمنية متباعدة. فبينما تدور أحداث الرواية في إطار زمني قصير، تمتد جذورها إلى أعماق التاريخ، لتشمل حقبات ما قبل الميلاد وأيام السيد المسيح وتلاميذه. هذه الانتقالات الزمنية لا تشعر القارئ بالانفصال، بل تمنحه تجربة غنية ومتكاملة، حيث تتداخل الأحداث والشخصيات في نسق فني متقن. وتبرز براعة الكاتب في دمج المقاطع البحثية والدينية في نسيج الرواية، مما يضفي عليها عمقاً فكرياً وجمالية أدبية لا مثيل لها. يستلهم خندقجي من التراث الإزائي والغنوصي، ليقدم لنا عملاً روائياً يتجاوز حدود الزمان والمكان. فمن خلال استقصاء الأسئلة الوجودية الكبرى، يدعونا الكاتب إلى تأمل علاقة الإنسان بالكون والإله. وتبرز قدرة خندقجي على ربط هذه الأفكار الفلسفية العميقة بأحداث الرواية اليومية، مما يمنحها بعداً روحانياً متميزاً. وتعتبر الرواية بذلك رحلة معرفية شيقة، تجذب القارئ إلى عالم من الأساطير والتاريخ والفلسفة.
في ختام هذا التحليل، يمكن القول إن رواية “قناع بلون السماء” تمثل إضافة قيمة للأدب الفلسطيني المعاصر. فهي لا تقتصر على كونها رواية تاريخية أو سياسية، بل تتجاوز ذلك لتغوص في أعماق النفس البشرية وتطرح تساؤلات جوهرية حول الهوية والانتماء والوجود. وباستخدام لغة سلسة وأسلوب سردي شيق، نجح خندقجي في خلق عالم روائي غني ومتعدد الأبعاد، يدعو القارئ إلى التفكير والتأمل. كما أن هذا النص الروائي الماتع يجسد شاهداً على معاناة الشعب الفلسطيني وتطلعاته، فهو يعكس الصراع الدائم بين الهوية الوطنية والتحديات التي يواجهها الفلسطينيون في ظل الاحتلال. كما أنه يساهم في تصحيح الرواية التاريخية وتسليط الضوء على الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني. وبالتالي، فإن هذا المنجز السردي يمثل إسهامًا مهما في الأدب الفلسطيني ويساهم في تعزيز الوعي بالقضية الفلسطينية. وببراعة فنية عالية، استطاع خندقجي أن ينسج خيوط سردية متشابكة، حيث يتداخل التاريخ والواقع والحلم في عالم روائي متكامل. وقد استخدم الكاتب تقنيات سردية متنوعة، مثل الفلاش باك والحوار الداخلي، مما أضفى على الرواية عمقاً وجمالية. وبالتالي، فإن “قناع بلون السماء” هي أكثر من مجرد رواية، بل هي عمل فني متكامل يستحق القراءة والمتابعة النقدية والتحليل.
*باسم خندقجي”قناع بلون السماء” (دار الآداب، 2023) حاز الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لعام 2024