حين تفقد الطبيعة سحرها في لوحة التشكيلية فاطمة الزهراء السكاكي

قامت الفنانة بمجهود جبار لتشخيص المعنويات وتوظيف الخيال الفانتازي وتصوير مكان  مقبض ومهجور يعطي الإحساس بالعدمية، ويساوي بين  الضوء والظلمة في المخيلة، معتمدة على آليات التشكيل  واللعب على ثنائية الخيال والواقع مما يهب للوحة جمالية وبعدا فلسفيا يتعلق بالحياة والموت، فجاءت ببعد بيئي، وبلغة بصرية غير مبهمة  لتأخذ مكانة معتبرة ضمن حلقة من أعمال الفنانة التشكيلية فاطمة الزهراء ، المستوحاة من قصائد شعرية جادت بها قريحة رفيق حياتها، الشاعر سعيد ملوكي ، ولذلك لا يمكن المرور عليها مر الكرام.لقد صيغت  بتوليفة تم استعمال فيها الأكريليك وإسقاط  كل جزء على حدة، تباعا، وبعناية فائقة على القماش، وبطريقة  تبدو وكأنها تمت بتقنية الكولاج، وذلك تفاديا  للإفراط في الواقعية، وحتى لا تشبه في شيء تلك الصورة  المبهرة التي قد تخلق الدهشة عند المتلقي منذ الوهلة الأولى،  فتبقى في الأخير  مجرد صورة تشبه عملا فوتوغرافيا تلقائيا بدون عمق، يغيب فيها أي إيحاء.
يتبين من أول نظرة أن هذه اللوحة تتشكل من طائر وشجرة يؤثثان فضاء لا يوجد إلا في مخيلة الرسامة، جاء بطبقات لونية ليتحمل ثقل المحور الرئيس، المشكل من غراب و شجرة مهترية بدون روح، تم إلقاؤه في الوسط أمام خلفية مثيرة و قائمة بذاتها، حيث امتزج فيها أخضر فقد نضارته،  ورمادي سلبي يضفي على الأجواء سكونا رهيبا ويهب للصورة قتامة تبعث على الفزع، تجعل المتلقي يشعر بتلك البشاعة التي يختزلها اسمها المثير  «لما تحتضر الأرض»، ويستوعب من خلاله رسالة فنانة عصامية من مدينة أبركان، تحب الطبيعة وتهتم بالبيئة وتبدي قلقها بشأن تغيرالمناخ، ولذلك أبت إلا أن توقظ الضمير بواسطة صورة بلمسة الرسامة العالمية السويسرية الأصل فيفيان سوتر، صديقة البيئة.صورة  تختفي فيها الظلال ويحضر فيها الغراب الأسود الذي يعتبر نذير شؤم، في تمثل العامة طبعا، ولا يتواجد غالبا إلا في الأماكن المهجورة إلى جانب  طبيعة قاحلة، جرداء، لا يوجد فيها أي شيء يذكر بالحياة سوى بقايا شجرة هشة بدون عنفوان، فقدت  أغصانها وأوراقها، و كل شيء جميل ولاتسر الناظرين  بصورتها تلك الخالية من أية شاعرية. وقد جاءت بهذا الشكل للتذكير بالموت واستحضار هول مكان يمكن تصوره مسبقا بهذا المنظر المشمئز، سيما وأن المبدعة حرصت على ألا يكون هذا العمل تصويرا لشيء  جميل، وإنما تصويرا جميلا لشيئ، وذلك هو الفن الحقيقي بالنسبة للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724_1804).
كل ما في هذه اللوحة يوحي بالموت، لكن فيها وجها آخر للحياة ، إنها استرجاع لحظة هاربة وقلق وجودي انتاب المبدعة، وجعلها تتخيل  مصيرا فيه كثيرا من الترهيب، قد يحدث إذا لم يتم الاهتمام بمحيطنا البيئي. على الرغم من قلة عناصرها، و بساطتها المقصودة، فإنها تختزن تفاصيل كثيرة، حيث تمت مراعاة عدم الفصل بين المفردات  لأنها متلازمة ولا وجود لأي خلل في عناصر اللوحة  متعلق بالتوازن، والتناظر، فقد وظفت  الرسامة طاقتها الفنية المختزنة في معالجة الفراغ بما يوازيه بكتل لونية مجتمعة تملأ حتى الحواشي، لذلك لم يفقد المنظور خاصيته وجماليته بفعل مراعاة القياسات والابعاد، وإسقاط كل عنصر ليأخذ المساحة المناسبة في اللوحة، مما يدفع إلى تصنيفها كعمل تجسيدي تعبيري فيه شيئ من الواقعية، إذ أن حركات سحب الصباغة على السطح أو على مجمله تقريبًا تبني جوًا عامًا يستحوذ عليه  آثار  دمار، يتجسد من خلال اختيار ألوان معينة وتوزيعها عن طريق التكثيف والتخفيف  أو التنقيط أحيانا، مما يجعل  بقعا بيضاء تنفذ داخل أخضر غير طبيعي، يكتسحه الرمادي الذي ينبثق من أصفر لا يشبه التراب في شيء حتى وإن كان يمثل الأرض.كل ذلك يوحي باختلال توازن الطبيعة.هذا الاختلال تم تجسيده بواسطة  ألوان جاءت غير منسجمة عمدا في هذه القماشة بالذات  لتطبعها بصبغة درامية كذلك، خاصة من خلال بقع حمراء تهطل من السماء لتصيب الشجرة، وتسقط على أرض قاحلة يغيب فيها النبات، يكسوها ذلك الاصفرار الذي يعتلي وجوه المرضى  يدل على الفناء، حيث إنّ هذه الدلالة ترتبط بشكلٍ أساسي  بالصحراء، و هي أشد ما في الطبيعة من قبح ولكن تم تناولها بطريقة أضفت عليها صبغة جمالية.فالجمال لا يمكن تذوقه إلا بالنظر إلى عمق المعاناة كما يقال.
ففي هذا الرسم حاولت السكاكي القبض على ذلك الغموض في فضاء غير طبيعي، بشكل ينأى عن التصوير الواقعي المحض للمشاهد، حيث قامت  بالتركيز  على التصورات  أكثر من الصور في هذه البقعة الخيالية، مما جعلها توظف أشكالا معلنة وأحادية اللون التي تتكون من أسود ملتصق بالطائر، ومن درجات الأخضر والأصفر والرمادي بافتراضات كونها مشاهد لأرض وسماء، غير كاملة التجمد، لكنها تتمثل هنا جزءا من الواقع في كونه خاليا وغير محدود بنهاية ما وبدون أفق لإبراز سطوة الفراغ، وهي إشارة إلى ما قد يترتب عن تصرفات وسلوكات الإنسان السلبية في تعامله مع بيئته، ومخاطبة الضمائر بوضوح  عن طريق لغة فنية مباشرة، تخرج عن نطاق الأسلوب التجريدي الذي يعتمد على نزيف الألوان والتوهيم  والتضليل، ومن هنا يتضح بأن الرسم عند هذه السيدة ليس فقط مجرد إلهام، بل ردة فعل ولذلك تجد رسوماتها متنوعة وتخلو من التكرار، ولا يمكن حصرها في نموذج واحد، أو تيمة وحيدة، فهي تقدم  علاقة الإنسان بما حوله، وتارة أخرى علاقة الإنسان بالإنسان، بطريقة غير مرتجلة، وانطلاقا من تقنيات محددة في الرسم، وأسلوب فني  لايأتي من فراغ، وإنما له تلك المرجعية الفنية التي تطبعه  بلمسات فنانين كبار عالميين.


الكاتب : عبد السلام صديقي

  

بتاريخ : 01/11/2022