حين يحقق الشعر نمذجة امرأة ميسمها الفرادة

قراءة في قصيدة الشاعرة مالكة حبرشيد:«مقدمة حائرة بين النص والبداية»

* مقدمة :

هو كسر للتلقي حين تبدأ الشاعرة نصها بتجديد نهايتها تغييرا لديدن سابق يخالف ولا يشاكل معهودها ، مصرة أيضاً على نهاية غير التي تصلح لبدايات القصيد .
هو هذا ما جعلها تشطب رهان الزمن في سبقه ليحدد “الولادة – الوهج ” ، فيستحق للشعر أن يتولد، التولد نفسه يولد ضربا في أعراف تسيدت في مجتمع شرقي يؤمن بكهانات بخور وتمائم، ففي المخالفة يكمن التميز والتجديد لا في المشاكلة، لذا جعلت الشاعرة العرافات يقفلن راجعات يجففن رملهن الكاذب، بل وتمحو غجرية كلمات تاريخ سطرت ذات ليل كاذب تؤرخ لعبور مزعوم دعيا لا صدق فيه .
هو رهان خاسر لزمن، وإن تجبر، فقريض الشاعرة لن يشتهي بداية ولا نهاية ، تتماهى مع وصف ظاهر خائب لا يبحث في الأعماق عن كنه امرأة تسعى إلى تمزيق ماض مرفوض وتشذيب حاضر باقتلاعه من جذوره، فتعيد تشكيله على سجية سجع، على هوى مرصع بتأن، بعد فلترة طويلة في ماء الترياق الذي صفته سوابق ماء السنين، وعجنته بصمغ كلمات اثمرت معجزة أنثى أحسنت تدبير الضياع دربة ومراسا لترشيد الاحتراق.

ترشيد احتراق يثمر الفرادة :

قد يكون الاحتراق مرادفا للتخريب والتدمير. سلب الحياة، تآكل الذات وانمحاؤها ، نهاية الأخضر واليابس، هو نار مستعرة لا تتوقف، ولا تبقي ولا تذر، غير ان رماد الحطب قد يعيد تشكيل الذات التي تضحي بنفسها مطلبا للرقي والصعود تحلية وتخلية، وهنا تشكلت الفينيقية رمزا وأسطورة في المقروء والمتداول. فتكون الجذوة احتراقا، فتغدو استنباتا لواقع جديد، يتشكل على المقاس كما تهواه القريحة ويحبه القريض.
وما الاحتراق إلا ضياء وإن أكل والتهم، فمن كل ذلك يستنبت الريح ريحانا ووهجا، فلا فرادة للشاعر عموما ولا لشعره أيضا بدون أنين الوجع وشواء نار الحرقة تجليا وارتقاء إلى معارج الشعر ، التي لا تتاح لكل عابر هنيئاً متنعما في دعة وسلام. وهذا لن يستقيم إلا بلملمة صبر يصير معه العشق قصيدة قادرة على تحقيق إبهار الانتصار، على تفاهات ممجوجة مكرورة وسمت تاريخا بالاجترار.
وهنا في هذا الديدن والمسلك تتولد امرأة جديدة ممثلة وجها آخر من وجوه السرد، تتشرنق لتنادي دون مجيب. كانت صدى يتردد لترد الوجوه العالقة ، «حاضرة -غائبة «، تعاني من غياب التلقي ومحاصرة النقصان .
وكيف تستوي «المرأة – الأنموذج «مكتملة والبداية منعدمة، والولادة متعسرة ؟
هي ظل ممتد فحسب، كان يتربص به ليبتر ويغدو مأتما لضراعة حالكة، لوحة بدون شمس، لا يحفها ضياء الفجر، وكأن تشكلها محكوم بالعدم، لا ينبلج منه وجود ذو معنى إلا الهذيان والنهب وحيرات ممتدة قدر امتداد سجادات الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة . وكلما طالت الصلاة إلا واستمرت تراتيل الوجع وتسابيح سواد الحلكة تخيم على لوحة سديم هلامية الظلال.

امرأة بميسم «الاختلاف « تحقيق النمذجة رغم الارتهان :

لقد أريد للمرأة أن تكون شخصية مفصلة على مقاس محدد، منمطة على تشكل سابق، مفصولة عن الزمان ومعرفة المكان، غير أن الشاعرة هنا رغم ارتهان الفكر لما هو سائد ورائج بتخطيط مسبق يزرع أنموذجا واحدا، يناسل منه النساء تباعا، ترفض هذا الديدن وتثور عليه حين تقول ” أنا دائما أنا! ” مع اتباعها بعلامة التعجب، هذا دليل على»سلوك التفرد « والإصرار عليه، وإن كانت هذه الفرادة ينقصها التشكل الكامل في ثوب الأنموذج الواضح، لأن صاحبة النص تؤمن بقدرة الخبرة والفكر على إعادة عجنها من جديد لتستقيم في تشكيل صورتها المرجوة، فهي تحتاج إلى مراجعة الذات حين تقف أمام نفسها لترقبها ، تعود إلى افكارها لتجدد وتحارب السوس والهزيمة.
هي حكمة بالغة ترفدها مالكة حبرشيد بتراث مغربي ضارب في القدم رصعته نساء قبلها حكمن وتسيدن، استحقاقا فكرا ورجاحة وبلاغة في خطابة. وفي كل هذا تمتين وتوطيد لهذه النمذجة المطلوبة التي لا يمكن أن تبنى هكذا دون أن توضع تحت محك التفكيك والتشذيب لتصان من عاديات السقوط والتهدم.
هذه المراجعة الجذرية للشخصية دفعتها إلى محاكمة ماض بسنين عجاف حملها حزنا ويأسا فجعها في ضحكات كانت ساذجة بسيطة. مما جعل الربيع يباسا واجتفافا فاستجلبت مع صويحباتها لتعيد الربيع والخصوبة لهذا الماضي، ماض فقد النضارة والخصب والغيث، فلا الرواء حل ولا الغيث هل، وهذا المسلك -التحول ما أدى بالمرأة المثقلة بأحزان السواد وتخاريف الطفولة لأن تعيد تشكيل حساباتها من جديد لتشكل العبور إلى الذات من جديد.
فكان الوضوح في الرؤية والرؤيا معا، في العبارات والمسالك : ركوب المهالك ، القهر هواية، التسلح بالحدس لا بالنص، اعتبار القراءة غاية في حد ذاتها ، ما يجعلها تغييرا لزواية الرؤى في تماه مع زئبقية الدلالة ورمي المعاني على قارعة طريق، رفض الفاعلية والمفعولية سببا ومسببا والارتكاز على المبتدأ .
وهذا المبتدأ لن يبدأ إلا بعيدا عنها كما قالت مليكة، والغاية من هذا البعد مع حضور لام التعليل هو إصلاح ذات البين بين سماء وأرض ، سماء تنشر القيم التي لا يعتورها نقص ولا تجني، تعلي وتبني وتوجه نحو العدل والسلام وتقدير الآخر، وتعطيه حقه في الوجود والاختلاف، وأرض يعمرها إنسان انفصل عن سبب وجوده ورسالته ، فطفق يفعل ما يشاء، ويشرعن اعماله ، مضفيا عليها أسماء اصطنعها بنفسه ، وصدق نسبتها إلى ناموس مقدس.

نهاية النص بين امتداد الحذف ومعرفية السؤال :

مادامت الشاعرة قد نصت على أن بدايتها لن تكون مثل النهاية، فقد فتحت بابا مشرعا في وجه التأويل. فكأن النهاية معروفة والبداية مجهولة. والحال أن الشاعرة قصدت عكس ذلك. وهنا بالضبط تكمن خطورة التأويل ووجاهة السؤال. ونحن نعلم يقينا أن السؤال، كما قيل، هو أقصر الطرق مسلكا نحو بلوغ المعرفة. وإذ جمعت الشاعرة بين السؤال والحذف في ثنائية مقصودة، إنما تنفتح بلا نهايات معروفة، ودون حدود مرسومة على تناسل الدلالات التي تخيم على القصيدة، وما التناقض الحاصل بين «الأرض « و «السماء « معنى وإحالة، إلا بون شاسع بين قيم عليا سامية راقية لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها، وبين أفعال بشرية دنية تركبها كل النقائص والهنات.
ومع هذه النهاية الموشومة بالحذف مقترنا بالسؤال، يبقى النص قابلا للانفتاح على التأويل تناسلا للتناقض بين فضاءين : علوي موسوم بالاكتمال، وسفلي موصوف بالنقصان، واحد ترابي خالص والآخر تبري صرف ، غير أن الشعر، كونه حلما بالكمال، يدعو إلى تجسير الهوة بين العالمين ليتحقق ما يرغب ويرتجى.

 

***************

«مقدمة حائرة بين النص والبداية»

مالكة حبرشيد

لن أبتدئ من حيث انتهيت،
وأنتهي حيث بدأت،
سأخسر الزمان رهانه حول تاريخ ولادتي ،
أجعل العرافات يدركن، أن رملهن كاذب،
وأن الغجر مروا من هنا؛
يوم اشتد مخاض أمي،
أخذوني معهم سبية،
ولم يقطعوا الحبل السري .
لماذا لا أحمل ملامح الغجر ؟
مع أني أقرأ خطوط الكف،
أفك هدير البحر،
وأجتر الطريق والخيام،
إلى حيث ألاقي حتفي؟
لا تعجبني هذه البداية،
ولا أظنني أجد لها نهاية مشتهاة .
سأمزق الماضي ،
أقتلع الحاضر من جذوره،
في يم السنين ألقيه ،
أعيد رسم الكلمات بصمغ المعجزات ؛
أراني فيه أنثى تجيد تدبير الضياع،
ترشيد الاحتراق؛
كيما تحمل الريح رمادها ،
فتفقد الحكاية بصمات البداية .
سأكتبني قصيدة عشق ؛ بعثرتها المنافي ،
حين لملمتها يد الصبر،
رفضتها مدونة الأحوال الشخصية،
صارت تفاهة مكررة؛
والتاريخ يرفض الاجترار .

الفصل الثاني للرواية …
أختبيء خلف المرآة ،
أنادي كل الوجوه العالقة؛ ولا أحد يراني.
استمتعت كثيرا أيامها،
وأنا غياب يثقله الحضور.
الجدران جمهور يحسن الاستماع ،
لا يجيد التصفيق.تبا ..لا شيء يكتمل؛
كيف يكتمل وهو لم يبتدئ ؟
كيف يبتدئ، وأنا لم أولد بعد ،إلا في امتداد الظل ؟

 


الكاتب : عبدالله شبلي

  

بتاريخ : 13/05/2022