خاطف ظله..

نظمت جمعية الشعلة للتربية والثقافة (فرع الحي المحمدي) يوم الجمعة 7 مارس 2025 حفلا تأبينيا للشاعر الراحل محمد عنيبة الحمري، بدار الشباب الحي المحمدي بحضور أجيال مختلفة من أصدقائه وزملائه وبعض ممن عايشوه في بعض من مساراته الإبداعية، نشرنا أبرز ما جاء في شهادات كل من الأساتذة: أحمد قابيل، عبد الحميد جماهري، أنيس الرافعي، سعيد منتسب، عادل حدجامي، حسن نرايس، أحمد الرضاوني، وننشر اليوم شهادة الكاتب والفنان أحمد جاريد بعد أن تعذر علينا التوصل بها في حينه:

 

 

بماذا يمكن أن أرثي فقيدنا عنيبة الحمري ؟
لا أخفيكم أنه كثيرًا ما تلعبُ لي ذاكرتي أدوارًا خذولة. وهي الآن تخجلني إذ لستُ أذكر متى تعرّفتُ على ذلك الشاعر الجاهلي المعاصر كما أسميه، كما لو أنه حفر ثقبا في ذاكرتي وتسرب منه. ذاتُ الانطباع كان يحصل لي حين أراه. فلا أعرف متى ظهر ولا كيف اختفى؟ مثل فرناندو بیسوا يختلسه الرصيف وتبتلعه العتمات. مثلما يختفي بين أشجار أشعاره الغابوية النَّديّة. يطارده وقت له متَّسع من الوقت، أو تطارده مواعيد لا ميقات لها، أو يستعجله مقطع شعري كتبه في منامه قبل أن يكتبه في ذهنه، أو يستسرع لميعاد في حانة “بوتي بوسي” كي يقذف ببهجته المدويَّة في الوجوه التي من حوله بعد أن كان أضرم نار أحزانه الدفينة في شعره. ابتسامة الفتى وضحكته العريضة تُسَوّي مِن أسارير طول وجهه. هازئ لا شيء يُثنيه عن المرح. في نظرته شيء من الوداعة واللطف مع كثير من الطوية الصادقة.
هل هذا كلّ شيء؟ بل لا تحكموا على الحصان مِن سرجه، فما ضحكات عنيبة الحمري وبهجته وخِفَّة روحه المورقة سوى الشَّجرة التي تُخفي الغابة، غابة يسكنها شخص آخر يقارع الكَدَرَ في خُلوَته ، يَتزَوْبَعُ كما هو حال كل مبدع.
یا حضرة الفتى يا صاحبي، يا هذا الشَّخص الآخر المكابد الحزين الذي لا علاقة له بك، العالق بك كالمسمار، يا خاطف ظلّه، تقول له:
أعصر من ألمي خَمْرَ كل السنين
وأهرب مني إليك
يطاردني الوقت
وقلت أيضًا لهذا العالق بك
حين تسبح في جسدي حُرَقي
أتفيأ ظل الكآبة حبرًا يفيض على ورقي، وأسيحُ كأيّ مسيح تكلله ومضة قد تكون نهايتها في عشاء ترتدي حرقة الذوبان على شَفَقِ
أيُّهذا الشخص الآخر الكَدرُ الذي لا علاقة لك به، العالقُ به كالمسمار، تَوَضّح يا خاطف ظله، فالغريق لا يخشى البلل. أي نص أنتَ؟ أيُّ قلقٍ أنتَ؟ َأيُّ لا طمأنينة أنتَ؟ لِمَنْ تُشبه أنتَ؟ لِمَ لمْ يتَرَفَّقَ بكَ شيطانُكَ الشِّعري؟ فإنْ كان مِمّا يُفنيه، فهو عليك، وإن كان مِمّا يُبقيه، فهو لك.
يعتني الفتى بشعره كما يعتني بهندامه، ويعتني بهندامه مثلما يعتني بالصداقة. إذ لا تلاحظه يتخندق في جماعة ضد جماعة أخرى. يحمل قلبه في فمه ويوزّع ابتسامته على الجميع. فما مِن مُبتسم إلا مُحبًّا أو محبوبًا إذ ليس بوسع قلب قاحل إلا أن يكون مُتجهّمًا لأنّ الكراهية قُفل من أقفال البهجة، وما من ابتسامة إلا وهي لغة كونية للطيبة. فالقلوب المحبوبة قلوب بشوشة، وذاك دليل على امتلاء الروح . كما أنّ السُّوء دليل على فراغها. ولعل الأقلُّ إنصافا للتوزيع اللامتكافئ في الخصال بين الناس، والذي لا نستطيع أمامه شيئًا، هو الطيبوبة. ما للمُسْتَحَب على الناس من سلطان غير التعلُّق، فالطيبوبة في المعشر تولّد الإحساس بالأمان، والطيبوبة في القول تعطي الإحساس بالعمق، وفي العطاء تقود إلى المحبة، أما في الكتابة فهي من جنس الصدق وتقود صاحبها إلى مقام الصفاء، وهي كلها مظاهر اجتمعت في الفقيد وتفرّقت في غيره.
أخي عنيبة، إنَّ مقدار كل امرئ حديثُ قلبه. ولك في قلوبنا الكثير، ولك ما يكفي من الماضي لتبقى حاضرًا بيننا، ولنا ما لا يكفي من الصبر على فقدانك. لا أشياء تملكها لتملككَ. أنت لستَ لكَ. أنتَ لنا، ونحن على قلب رجل واحد. أنت الضالع في تواضعك، الهارب من الأضواء، الاستثنائي في لغتك، المُبَكِّر في كتابتك. إنسانٌ يعض على الحياة بالنواجذ، شاعرًا حقًا وصديقًا هشًا، ودودا، بهيجا، بهيًّا.
وأنت الآن في شُرفتِك العُلوية، قد أبدو مُسْرِفًا في رثائي لكَ إنْ أنا قلتُ: هناك شاعران بالسَّليقة، واحد مات والآخر لم يولد بعد، فالموتُ نفس الموتِ لكنَّ الفقد مختلف. ألستَ الفريق الأول للمُشاة في كتيبة الشعر المغربي منذ ديوانك “الحب مهزلة القرون” ، ولحسن حظنا أنّ أشعارك لازالت مؤونتنا نرددها فترشدنا إلى الخُلْجان، هذا هو عزاؤنا يا صاحبي، فالشّعر الذي كان قوسا بين يديك، بعدك ليس ذات الشّعر، لا الرّماية استقامت ولا السِّهام أصابت. سُحقًا لهذا الوحش غير المرئي الذي يختار من بيننا الرائعين ليأكلهم. وأخيراً، لن أقول وداعًا بل كل عام وأنتَ بيننا مُلهما.

 


الكاتب : أحمد جاريد

  

بتاريخ : 13/03/2025