خالد أخازي: كلّ روايةٍ تجد فتنتها بمدى قُربها أو بُعدها عن الواقع 2/2

ليس لدى خالد أخازي خطٌّ أحمر، فالروائي خالد أخازي لا يُشبه سوى خالد أخازي، المُجرّب الذي يقلب الطّاولة على رأس القياس فيصبح نصّهُ القياس والقاعدة… يكبو لغايةٍ ويصهل لغاية، لا وُجودٌ مجّانيّ لجملهِ في نصّه، لا يتآمر مع الرتابة ليُنتج كلماتٍ تحشو السّطور، بل ثقافةُ الحذفِ واضحةٌ في نصّه.
قيل عنهُ يكتبُ بلدغةِ العقرب، وقيل عنهُ لا يُهادنُ في الكتابةِ، وقيلَ عنهُ إنه يسلكُ أكثر الطّرقِ وُعورةً في النّص، وصدقَ مَنْ قال ذلك…
سألتُ عنهُ أحد الرّوائيين فقال لي: خالد أخازي مُتفرّدٌ حتّى بجنونهِ، لا يُراعي ولا يُهادنُ ولا يُصالح، يُحاربُ بشرفٍ ويتقدّم ويسقط، ولكنْ حتّى سقوطه في النّصّ سقوطُ مُقاتل…
وقال لي أحد أصدقائه السّوريين: لو أنّ خالد أخازي لم يَكُن روائيّاً لكانَ يصلح ليُدرّب لعبةَ السّاموراي، فالرّجلُ رشيقٌ في النّص ومُقاتلٌ وشرسٌ وانتحاريّ، رواياتهُ وشخوصه محسومة، قضاياهُ كبيرة، تكتيكه الرّوائيّ مُخاتِل…يُعرّج بك من الرّباط إلى فرنسا بكلمة، ويعود بك إلى الشّام بحرفِ جرّ….
هنا الجزء الثاني من الحوار الذي نشرنا جزأه الأول أمس الجمعة في الملحق الثقافي.

 أنتَ تُنادي بضرورة أنْ يكونَ لدى الرّوائي وعيٌ جماليّ للنّصّ، أنْ يكون هناكَ انسجامٌ بينَ كلِّ مُكوّنات النّصّ الأدبي من حيث الأسلوب والبنية واللغة والصّوت وكلّ ما يمكنه أنْ يُخرج النّص بأبهى صورة، إلى أيّ مدى يجب أنْ يكون الانسجام بينَ متن الحكاية ومبنى الحكاية؟ بينَ المادة التي تُريد تناولها في الرّواية وبينَ المبنى الحكائي، إلى أيّ حدّ يجب أنْ يكون هناك دقّة في طرح الحكاية ضمن بناء فنّي عالٍ ليستقطب العمل شريحة واسعة؟ ولأيّ مدى يجب على الرّوائي تفعيل استخدام عنصر الزّمن وإخراجه مِن موضوعيّته سواء باستخدام تقنيّة تكسير الزّمن، تقنية التّذكر والاسترجاع، والحذف والتّنبؤ، للوصول إلى الانسجام بينَ متن الحكاية ومبناها؟

سبقَ وقُلت أنّ الرّواية تتكوّن من حكاية وخطاب سرديّ، الرّواية لا تكون مهما تعددت تجارب الحكي بلا حكاية، مِن دون حكاية نوويّةٌ تتناسل في بؤرتها عبر حبكة ناظمةً حكايات ثانويّة، والخِطاب هو كيفيّة الحكي، فيه خرقٌ للزّمن وتعدد للأصوات والأسلوب والسّجلات اللغويّة، كلّ روايةٍ تجريبيّة تمرّدت على الحكاية تفقد أصالتها، شخصيّاً.. أعدّ الحكاية مُعطى جوهريّ، ولكن قيمة السّرد في التّخطيب «أيّ كيف نسرد الحكاية» وهذا هو الذي يؤسس لأدبيّة الرّواية، الخطاب السّردي /الشّكل وليس الحكاية وإن كانت أساسيّة/ والخطاب السّردي /الشّكل- المبنى/ يبرز جمالية النّص، ويسمح ببناء حكاية وفق زمن الخطاب لا زمن الحكاية… والرؤية هي رهان كل رواية تصنع وعيا دون أن تلعب دور الواعظ أو المصلح. إن الرؤية هي صوت ما في الرواية قد يكون غير مركزي… هامشي… لكنه يشاغب عقليا لفتح شهية السؤال لا الاستهلاك..
المبنى/ الخطاب السّردي…في تعامله مع الزّمن، لا يجب أن يشتغل على تكسير الزّمن كترفٍ إبداعيّ، بل لا بدّ أنْ يكون ضمن رؤية جماليّةٍ لا تصنع اللبس ولا الاضطراب… الخطاب السردي حين يعيد بناء زمن السرد فهذا ينخرط في رؤية جمالية، وتتطلب قدرة على العبور في الزمن في حالة صحو مستمر.
الحكاية كما قُلتُ ذريعة، وقد نشتغل على الحكاية نفسها، لكن بخطابٍ سرديّ مُختلف، وهذا ما يميّز روايةً عن أُخرى، الخطاب السّردي هو جوهر الإبداع، لكن لا بدّ لكلّ عملٍ سرديّ من رؤية، لا بدّ أن يُشاغب، أنْ يفجر أسئلة حول واقعٍ دون أن يقدم بديلا وفق وعي ما، الرّواية تمتع لكنها في الوقت نفسه مُطالبةٌ بصناعةِ وعي… دون أن تكون منبرا ولا بيانا إيديولوجيا.

تناولت في روايتك (هاتف السيّدة نجوى) قضايا منطقة الظّل، فزاوجت بين الواقعيّة والرّمزيّة، درست سيكولوجيا الشّخصيّات وكلّ شخصيّة أبرزتها بثقافتها الاجتماعيّة وسياقها في العمل، هل أردتَ هنا نمذجة المجتمع عن طريق بناء نماذج فنيّة؟ أم كانت هذه النّماذج واقعيّة؟ هل كانت الشّخصيات في روايتك صورة واقعيّة أمْ رؤيتك أنتَ لصفات هذه الشخصيّة ومُميّزاتها؟

كلّ روايةٍ هي واقعيّة مهما ادّعت غير ذلك، فالرّمزيّة هي انحيازٌ شعريّ عن الواقعيّة، والسريالية هي طبقة من اللاوعي لواقع تمت أسطرته. الرواية حين تعلو على الواقع أو تشفره أو تختفي في حدائق وخلوات الماضي، تظل مشروعا جماليّا، أو استراتيجية لتجنب المواجهة مع مُختلف السُّلط، ما يُسمّونه بالتّاريخيّةِ هو واقعيّةٌ في واقعٍ آخر، متعالية… متوازية… بديلة… مشفرة…مؤسطرة… مهاجرة زمنيا…هي تجربةٌ إنسانيّةٌ نابعةٌ من واقعٍ نفسيٍّ واجتماعيّ خفي أو مكنى عنه بخيال مواز او متعال أو مسافر، قدرُ الرّوايةِ أنْ تتنفّس الواقع أينما حطّت وسافرت. فالواقع لا يعني الراهن، بل ما يحفز الكتابة السردية…
ربّما الواقعيّةُ بمفهومها الماركسيّ هو الذي أساء للواقعيّةِ بتعدُّد مظاهرها الرّمزيّةِ والسّرياليّةِ وحتّى روايات الفانتازيا والعجائبيّ، الرّواية إنْ لم تنهل من الواقع، مَسختهُ أو علت عليه أو هربت منه نحو واقعيّةٍ مُجاورة أو مُتعالية، كلّ روايةٍ تجد فتنتها بمدى قُربها أو بُعدها عن الواقع، فما لا يُمكن أن يقع في روايات الرّعب والفانتازيا والعجائبيّ هو فاتنٌ لأنّ مَحكّهُ هو الواقع، قدر الروايةِ الواقعيّة ُمهما دارت أحداثُها في كوكبٍ آخر..
أنا أكتب الرواية انطلاقاً من حكايةٍ، ولأنّ جماليّة السّرد هي تفكيك بنية الشّخصيّة النّفسيّة والاجتماعيّة، فقد اشتغلت في رواية (هاتف السيّدة نجوى) على شخصيّةٍ تتبّعتُ خيط خوفها ورُهابها، وحاولت أن أفسّر علاقتها بالأشياء التي تحولت إلى علامات تنتج المعنى والقيم، فالهاتف هو شيء… وحين نحفر بعيداً في طفولتها نجد رمزيّته كصانع للمعنى، لم يعد مجرد هاتف، بل غدا جسر وجوديا… مِن أين أتى هاجسها للتّنظيم الدّقيق لعالمها مثلا..؟ سؤال تركت الأحداث تفسره، كنتُ أُفسّر ما يراه القارئُ عاديّاً، كنتُ أنطلق من رؤيةٍ للوجود، أساسها، لا شيء فينا يأتي من عبث، كلُّ سُلوكاتنا يحكمها وجودٌ سابق يؤثّر فيها، لسنا كما نريد أن نكون، نعم نحن أحرار بإرادةٍ وهميّة، لكننا نتاج وجودي للعلامات التي حولنا.. كل وجود يمارس علينا سلطة المعنى، وفي الأخير نصبح نحن أيضا علامات في وجود الآخر…
ما يبدو رمزياً في رواية (هاتف السيدة نجوى) هو أسطورتها الشّخصيّة، ما حرّرها هو وعيها بها.
الوعي يحرر من الخوف، لكنه لا يستأصل الأسطورة لأنها نظام جماعي… الوعي يخفف الجراح، لكنه لا يرمم كسور الروح.

 هناك موجة قويّة من القرّاء في عمر 25 وما دون، كيف يمكن للرّواية أنْ تستقطب هذه الشّريحة في ظلّ التّكنولوجيا المرئيّة؟ ما هي الموضوعات التي يمكن أنْ تطرحها الرّواية؟ ما هي الأدوات التي يجب امتلاكها لجذب هذه الفئة التي دخلت باب القراءة حديثاً.

سؤال محدوديّة المقروئيّة سؤالٌ مؤرق، هل فعلاً نحن لا نفهم هذا الجيل الذي ألف واعتاد الصّورة والخبر السّريع، مع زحف الرّقمنة؟
إنّ مُحاولة الإجابة عن هذا السّؤال تُخفي الأبعاد التّاريخيّة لفعل القراءة، فالمقروئيّة ظلّت محدودة في العالم العربي، حتّى زمن نجيب محفوظ، والطّيب صالح، وحنّا مينة، وغيره..
فالذي كان يصنع فعل القراءة هو الجامعة، الجامعة كانت منارةً لصناعة النُّخب، والذي كان يلعبُ الوساطة هو النّاقد، في زمننا هذا تراجع دور الجامعة والمؤسسات الثّقافيّة، ويكاد النّقد أن ينقرض وقد غلبت التّفاهة وصناعة الأدب المُزيّف، لقد حلّ وُسطاءٌ آخرون تملّكوا بوصلةَ توجيه القراءة وصناعة الذّائقة، وهناك آلية التّفاهة الخفيّة التي تصنعُ الكَتَبة وتُروّج لهم، هذا الجيل ضحيّةُ مسلسل التّتفيه، وإرباك المشهد الثقافيّ والإبداعيّ، لا يمكنني أن أُنتج أدباً وفق خصوصيّات عمريّة ولا تطلّعات توهمنا الوسائط المختلفة أننا الفاشلون لتكسر فينا الكبرياء، وتحوّلنا مجرّد “خدَمة” بالحبر…
لا يمكنني إلا كتابة الرواية كما هي جنسٌ أدبيّ مُتعارفٌ عليه، وذلك المعيار أمارسُ ذاتي وتجربتي وخصوصيّتي، ليس هناك مُبدع يُكيّف قلمه وفق درجةِ فهمٍ عامّ، أو وفق نزعةٍ استهلاكيّةٍ، القراءة ماكرة، قد توهمك اليوم أنّك في القمّة، لكن مجال الكتابة كأيّ مجالٍ إبداعيّ، مع الزمن لا يصمد غير الجيّد، كالأغاني، والموسيقا..
الكتابة السّرديّة هي مشروعٌ جماليّ، وليست مجرّد فتنةٍ حِكائيّةٍ… لنستحضر معا زمن قصص عبير، وجيل قصص عبير…تذكّري متى عرفنا حنا مينة والطيب صالح، وجبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، تذكّري، كم مرّ مِن الزّمن؟ من تلاشى ومن صمد…؟ من خرج من ظلال النسيان والتهميش وغطى على المهيمن المركزي…؟
الزمنُ فاضحُ التّفاهةِ… ليس الرائج من يصنع الأدب… الأدب له مناعة تاريخية تلفظ الخلايا السرطانية في جسده، وله مناعة حضارية تعبد تنظيم التلقي وتهدم الزيف… الرائج قد يصنع الهجومية وفق آليات دعائية بل حتى سياسية، ووفق لوبيات بيروثقافية تتحكم في التصريف والتضليل، لكن مناعة الأدب في كبريائه الذي يخرجه من الهامش بفعل مختلف السلط ضمن براديغم مضاد للتفاهة وتحكم البيروثقافية في صناعة الرموز الثقافية..

الزّمن فاضحُ التّفاهة، عند هذه الجملة سأختم حواري معكَ أستاذ خالد، كانَ حواراً غنيّاً مع أديبٍ تذخر كتاباته بالحياة.


الكاتب : أجرت الحوار: الناقدة السورية تيماء نصر سعيد

  

بتاريخ : 06/07/2024