المغرب طرح رؤية تتجاوز الأمني إلى التنموي
كيف نبني تعاونا جنوب – جنوب بشكل يفتح أمام قارتنا آفاقاً جديدة في مجالات الطاقة والبيئة والحوكمة البحرية وربط الموانئ؟
سؤال محوري تركزت حوله إجابات كل المتدخلين في ندوة» إفريقيا الأطلسية: نحو رؤية إفريقية متكاملة للفضاء الأطلسي» التي عقدت على هامش فعاليات منتدى أصيلة يوم الثلاثاء 30 شتنبر 2025، وسيرت أطوار النقاش فيها الوزيرة السابقة والسفيرة ذ. نزهة الشقروني، وشارك فيها كل من محمد لوليشكي الديبلوماسي وممثل المغرب الدائم في الأمم المتحدة سابقا، والمستشار الديبلوماسي بوزارة الخارجية طارق إزيرارن، وجمال مشروح الباحث ب»مركز السياسات من أجل الجنوب»، ثم إدريس العلوي البلغيتي الباحث في العلاقات الدولية ب»مركز السياسات من أجل الجنوب»، وهو المركز الذي نظمت الندوة بشراكة معه.
الندوة، كما أكدت نزهة الشقروني، رامت طرح مقومات التفكير في السياق المتسارع لإعادة تشكيل التوازنات الاستراتيجية العالمية، حيث يبرز الفضاء الأطلسي كمركز تجمع لمصالح عدة تشمل القضايا الأمنية وديناميات الطاقة والتنافس الجيو سياسي والطموحات الجيو اقتصادية، مركز يفتقر الى رؤية جماعية تعكس الإمكانيات الكبيرة لمواقعها البحرية، ومن هنا تأتي أهمية طرح المبادرة الملكية لمواجهة هذا التفكك عبر إقامة منصة إفريقية للتشاور والتعاون داخل هذا الفضاء.
لفت حاتم البطيوي، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة في افتتاح هذه الندوة الى أن العالم يشهد تغييرات كبيرة في توازناته السياسية والاقتصادية، مشيرا الى أن «الفضاء الأطلسي أصبح من أهم المجالات التي تتقاطع فيها مصالح كبرى تتعلق بالأمن والطاقة والتنمية. وفي الوقت الذي تتحرك فيه قوى دولية خارج إفريقيا بخطط واضحة، ما زالت دولنا الإفريقية الأطلسية بحاجة إلى رؤية مشتركة تُعبر عن إمكانياتها الكبيرة.»وشدد البطيوي على أهمية المبادرة الأطلسية للدول الإفريقية التي أطلقها جلالة الملك محمد السادس ، معتبرا أنها تتجاوز الإعلان، إلى كونها «تصورا عمليا لبناء منصة للتشاور والتعاون بين دولنا، حتى يكون لنا صوت إفريقي جماعي في قضايا الأطلسي. وهي جزء من رؤية أكبر تشمل مشاريع كبرى مثل خط أنابيب الغاز المغرب–نيجيريا، والمبادرة الملكية لمنح دول الساحل منفذاً استراتيجياً إلى المحيط الأطلسي».
من جهته، شدد محمد لوليشكي، ممثل المغرب الدائم سابقا بالأمم المتحدة،وهو يعرض لأهمية المبادرة الأطلسية الإفريقية، على كون المحيط الأطلسي يشهد تحولا جذريا في موقعه داخل الخريطة الجيواستراتيجية العالميةـ حيث أصبح ساحة للتنافس واللقاء والتعاون، ومن هنا، يشير لوليشكي، «برزت إفريقيا الأطلسية كمفهوم استراتيجي جديد يدعو الى رؤية إفريقية متكاملة تمنح القارة موقعا مؤثرا في المعادلة الدولية». ولفت لوليشكي الى أن المبادرة الأطلسية التي أطلقها المغرب من شأنها أن تحول هذا الفضاء الأطلسي الى فاعل قادر على بناء منصات إقليمية ودولية تصوغ التوازنات وتحدد اتجاهات المستقبل، لأنها «جاءت في خضم تحولات تتسم باهتزاز التحالفات، وهيمنة المصالح الضيقة وعقد الصفقات المشروطة والظرفية التي تتأثر بتغير المصالح»، مشيرا الى أن المغرب رسخ مكانته كمحور استراتيجي في الفضاء الأطلسي، سواء على المستوى الأمني أو الاقتصادي أو الإنساني، حيث «لم يعد ينظر إليه كجسر رابط بين بلدان الأطلسي، بل كمنصة نشطة لإطلاق المبادرات وصياغة الحلول المشتركة في قضايا الهجرة والإرهاب والطاقة» في تجربة تحمل الكثير من الدروس لبناء رؤية إفريقية متكاملة للفضاء الأطلسي تتجاوز اعتبار الفضاء الأطلسي امتدادا جغرافيا أو ساحة لفرض ريادية أحادية في المشروع، لأنه مشروع قارة في عالم متغير.
بدوره أكد طارق إزرارن، الكاتب العام لمسار الدول الإفريقية الأطلسية، على أهمية المبادرة الأطلسية لكونها قيمة مضافة ستعزز مكانة إفريقيا في قضايا الحوكمة البحرية والتنمية والأمن. وشدد إزرارن على كون الريادة والرؤية الملكية تحظى بقبول واسع على المستوي الجهوي، بالنظر الى كونها رؤية ترمي الى تعزيز الاندماج الإقليمي.
ويرى إزراران أن هذه الريادية تأتت من عمل المغرب على تسهيل الاندماج عبر عدة مبادرات سابقة، بالإضافة الى حجم الاستثمارات المغربية بإفريقيا، فهو أول مستثمر في إفريقيا الغربية والثاني إفريقيا، ثم لكون المغرب يشكل منصة لربط القارة مع قارات أخرى. هذه الريادية، كما يرى المتدخل، لا تعني الإقصائية بل تطمح الى إشراك كل الدول المعنية بالمبادرة في اتخاذ القرار، محيلا في هذا الصدد على الاجتماعات التي عقدت بين وزراء خارجية البلدان المعنية بكل من نيويورك، والرأس الأخضر أو المبرمجة لاحقا بكل من الكاميرون وموريتانيا.
ورغم أهمية هذا الاجتماعات ودورها في تقدم المشروع، إلا أن تفعيل قراراتها يبقى رهينا بتفعيل البعد المؤسساتي لإكساب هذه الأخيرة مدلولا واقعيا وعمليا، حسب المتدخل، تفعيل يقوم على الحوار السياسي الذي يستحضر التهديدات المحدقة بالقارة وأولها الإرهاب والجريمة العابرة للحدود، ثم حسن إدارة الملف الطاقي واستثماره، وأخيرا الربط البحري الذي سيحقق الاستقلالية المادية والاقتصادية لدول هذا الفضاء، ويموقعها بشكل أفضل يمكنها من تحقيق شراكة متساوية في الفضاء الدولي.
جمال مشروح، الأستاذ بجامعة محمد السادس المتعددة التخصصات التقنية وعضو المركز، أوضح بأن الأمر لا يتعلق بمبادرة واحدة بل بمشروع ملكي بمبادرتين يشمل 27 دولة، 23 منها تمتد من المغرب من راس سبارطيل الى جنوب إفريقيا وتروم تعزيز التكامل الاقتصادي، فيما تشمل المبادرة الثانية أربع دول هي: التشاد، النيجر، بوركينافاصو، مالي وهدفها تيسير ولوجها الى المنفذ الأطلسي، برؤية تتجاوز الربط البحري التقني الى ربطها بالتنمية والاستقرار عبر إرساء بنى تحتية تساهم في فك العزلة عنها.
تستند هذه المبادرة الأطلسية، حسب مشروح، الى ثلاث قناعات، أولاها تتمثل في أهمية البحر كمصدر خالق للثروة، وثانيها يتعلق بوعي المغرب العميق بأهمية التكامل والتعاون الاقتصادي بين الدول الافريقية الأطلسية الذي إن تحقق، فسيعزز مكانة القارة في الاقتصاد العالمي.أما ثالث هذه القناعات فربطها المتدخل بضرورة الربط بين الأمن والتنمية، إذ أن أي تفكير في مستقبل هذا الفضاء لابد أن يراهن على التنمية والأمن في الآن ذاته وفق سياسة ناعمة غير متشددة تأخذ بعين الاعتبار أن الدول غير الساحلية تخسر 20 بالمائة من ناتجها الداخلي الخام، بالإضافة الى أن 50 بالمائة من عمليات الإرهاب تتم في دول الساحل، وهو ما يتطلب من جميع الدول الافريقية المعنية بالمبادرة الانخراط غبر تملكها وإقناع جميع الشركاء بأن المبادرة مصلحة حيوية للمغرب ولكل الدول الافريقية الأطلسية.
إدريس العلوي البلغيثي، الباحث في العلاقات الدولية بمركز السياسات من أجل الجنوب، أكد أن مقاربة موضوع الفضاء الأطلسي الإفريقي تتطلب الانطلاق من معطى أساسي يتمثل في هيمنة ثلاث قوى رئيسية على هذا الفضاء، وهي المغرب ونيجيريا وجنوب إفريقيا.
وأوضح الباحث أن جهود التكامل الاقتصادي في هذا الفضاء تصطدم بعدة عوائق موضوعية، أبرزها التشتت الجغرافي والتباين الكبير بين الكيانات الجهوية القائمة، ما يعيق ظهور تكتل اقتصادي منسجم وقادر على الدفع بالتعاون الإقليمي نحو مستويات أعلى.
في ظل هذه الصعوبات، تظل المقاربات الإفريقية لمعالجة قضايا الفضاء الأطلسي محصورة في إطار التعاون الثنائي أو الجهوي المحدود، دون التوصل إلى رؤية جماعية موحدة.
وضرب البلغيثي مثالا بمجال الأمن البحري، حيث تعتمد كل دولة من الدول المحورية الثلاث مقاربة خاصة بها. ففي نيجيريا، تم اعتماد استراتيجية وطنية لتأمين خليج غينيا ومحاربة القرصنة البحرية، وهي استراتيجية بدأت تعطي نتائج ملموسة. أما المغرب، فينهج مقاربة تقوم على تعزيز التعاون الأمني والعسكري مع شركاء دوليين مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، من خلال تنظيم مناورات وتمارين بحرية دورية على الواجهة الأطلسية.
أما جنوب إفريقيا، فتضطلع بدور محوري في حماية الواجهة الجنوبية للمحيط الأطلسي، ضمن إطار «مبادرة IBSA»، وهي شراكة ثلاثية تضم كلاً من جنوب إفريقيا والهند والبرازيل، وتهدف إلى تعزيز التعاون الأمني والاقتصادي بين الدول الثلاث.
وأشار الباحث إلى أن هذه الأمثلة تعكس وجود «ثلاث مقاربات مختلفة ومجزأة» في التعاطي مع قضية الأمن البحري، في غياب استراتيجية إفريقية موحدة وشاملة.
وفي مجال «الموانئ والنقل البحري واللوجستيك»، تتكرر نفس الظاهرة، حيث تنتهج كل دولة استراتيجية خاصة بها. فالمغرب يمتلك ميناء طنجة المتوسط، الذي يعد منصة لوجيستية رائدة تربط بين الضفة الجنوبية للمتوسط والواجهة الأطلسية. في المقابل، يضطلع ميناء دوربان في جنوب إفريقيا بدور محوري في ربط جنوب القارة بالمحيط الهندي، مع إمكانية الربط لاحقاً بالمحيط الأطلسي. أما في نيجيريا، فميناء «ليكي» القريب من لاغوس يُعد من أكبر المشاريع البحرية في غرب إفريقيا ويطمح إلى أن يتحول إلى مركز لوجستي إقليمي. وقد لفت المتدخل الى بروز قوة طاقية افريقية اليوم تفرض نفسها بقوة، وهي القوة التي يجب تأمينها سياسيا عبر توفر الإرادة السياسية لكافة الشركاء للقطع مع كل أسباب التوتر.
ورغم ما تتيحه هذه البنى التحتية من إمكانيات تكامل بين المحاور الثلاثة، إلا أن غياب التنسيق وافتقار القارة إلى استراتيجية جماعية في هذا المجال، يحول دون تحقيق تكامل فعلي يخدم مصالح الفضاء الأطلسي الإفريقي.