«خدعة النور في آخر الممر» للشاعرة فدوى الزياني .. الشعر مرآة الخسارة

قوة شعر فدوى الزياني ليست في الصورة المكثفة التي لا يمكن أن ننكر حضورها الباذخ، بل بالأساس في «استعارة المقام» التي تولد تحديدا، وعلى نحو حصري، من الاختيار السردي: سرد التجارب اليومية والانفعالات التي تنفجر تباعا من الذاكرة. حقا إنها علاقة حدية تلك التي تبنيها الشاعرة مع الذاكرة، حيث تقتادنا، في انسيابية غير متقطعة، إلى انفعالات خافتة في ظاهرها، لكنها هادرة في العمق ما دام ما يشغلها هو الاحتجاج.

 

هل الشعر جرح جيد لنضع عليه الملح والعشب والشمس الغائمة، أم أنه دورة عكسية تلقي بأحجارها على وجودنا الغامض، هذا الذي نسميه عن عمد شعرا؟
فإذا كان الشعر، عموما، هو ذلك الـ(بيغ بانغ) المقيد إلى ظله البعيد، فإن «الغبار الكوني» هو ما تتيحه لنا قصائد الشاعرة فدوى الزياني التي تصرخ على نحو احتجاجي يستغرق كل ذخيرتها الحية: «لم يكن من المفروض أن أولد أنثى».
إن فدوى الزياني، في ديوانها الجديد (خدعة النور في آخر الممر) لا تمشي على قشرة الأرض كما يفعل المشاة المندهشون بـ»الأشياء والعلامات»، بل تسبح في صهارة «الماغما» الموجودة في باطن وجودها الشعري، كأنها لا ترى سوى الألم يمتزج، على محو كيميائي مدهش ومتسارع، بالكلمات التي تمسك برأس حدتها.
إن الشاعرة لا تستعيد الكلمات، على عكس ما تتيحه الوظائف المتآكلة للغة من امتلاء خادع، بل تعيشها كأكوان مسخرة من قوة جارفة موجودة بشكل مسبق، للدفع بهواجس الشعر إلى الأمام، إلى الواجهة، إلى الصفوف الأولى للقصيدة، إلى ما وراء الأحاسيس والمفاهيم والأساليب والإيقاعات.
فـ «القصائد عشب هذه الرأس المتعبة/ والكلمات دود ينخر الجسد/ بعد موتي بليلة كاملة/ بينما كنتَ مشغولا يا الله/ بهذا الوفد الهائل من الأرواح»، تقول الشاعرة.
لا يتعلق الأمر هنا بمجرد صورة شعرية مبالغ فيها أو مجاز يشتغل كجواز مرور إلى لا وعي الشاعرة- وهذا اعتدناه في قصائدها السابقة- بل أجازف بالقول إنها «استعارة الديوان» التي تنعكس على مرآتها كل الأشياء. تتقابل وتتصادم وتتصافح، أحيانا، في جمل موجزة ولامعة، وغالبا في جمل سردية مدرة للمعنى. هذه هي الخلطة السرية: الانشغال بالفكرة، والتحيز للحسية التي يتيها السرد.
ولهذا أزعم أن قوة شعر فدوى الزياني ليست في الصورة المكثفة التي لا يمكن أن ننكر حضورها الباذخ، بل بالأساس في «استعارة المقام» التي تولد تحديدا، وعلى نحو حصري، من الاختيار السردي: سرد التجارب اليومية والانفعالات التي تنفجر تباعا من الذاكرة. حقا إنها علاقة حدية تلك التي تبنيها الشاعرة مع الذاكرة، حيث تقتادنا، في انسيابية غير متقطعة، إلى انفعالات خافتة في ظاهرها، لكنها هادرة في العمق ما دام ما يشغلها هو الاحتجاج.
إن لعبة الإبداع الشعري، كما تقترحه علينا فدوى في هذا الديوان، توحي للمتلقّي أنه أمام «الصورة النيغاتيف» لما رأته الشاعرة وعاشته وخزَّنته وحملته، تلك الصورة التي تجبر الضوء على خلق وظائف جديدة للأعضاء والوجوه والأشياء والأشكال والأمكنة التي تقبع في مكان ما من الذاكرة… ولم تكن مرئية إطلاقا على النحو الذي تراه القصيدة. كما تجعل هذا المتلقي يشعر أنه وجها لوجه أمام «عاطفة مطلقة»، وأمام حقيقة أن «جميع الأماكن مكان واحد تولد منه جميع الأشياء التي تصب بدورها في مجرى واحد». هذه هي فلسفة الديوان المثقلة بالميتافيزيقا والتخييل الذاتي وسبر الجذور. إنها لا تخفي عنا الجروح القديمة، حتى تلك التي تمتد إلى ما قبل الولادة.
«لم يكن من المفروض أن أولد أنثى/ الأقحوانة التي سحقها أبي عنوة في حقله/ تسلل دمها إلى شقوق قدميه الحافيتين/ وكانت تنتقم» (ص: 6).
«في أذني الصغيرة لم يؤذن والدي/ أمي غطت وجهها بوشاح من الخجل/ حين عمدني خالي سرا بقصيدة لنزار» (ص: 10).
«امرأة عادية، عادية جدا../ أشبه قماش الستائر الرمادية بغرفتك/ والمنفضة الخزفية التي تشرب حزنك» (ص: 13).
«ماذا تفعل الوحدة بامرأة تتكئ الآن واهية/ على شجرة تعبها!/ ماذا تفعل بحب مخبإ كطفل لقيط/ نسيه الموت في صرة خلف ضلعها الأيسر؟» (ص: 17).
«حين فتحت يوما نافذة للبحر/ كنت كئيبة ويائسة/ قررت بدل الغرق أن أشربه جرعة واحدة» (ص: 54).
إن الشاعرة هنا تصر على توضيح أنها غير معنية بـ «خدعة النور في آخر الممر»، غير معنية بالولادات المتكررة، والعود الأبدي، والجنة والنار، والثواب والعقاب والجدار والفكرة العادلة عن الاتجاه المعاكس والله والشيطان والملائكة.. غير معنية بكل ذلك، قدر عنايتها برائحة جسديْن لم يكُن لديْهما الوقتُ الكافي للاستلقاء على أطراف القصيدة. وبمعنى من المعاني، إننا أمام شاعرة حسية تعتني ببيت الأم، وأواني النحاس، والكلمات الجارحة، والكتب التي تهرهر، والقاتل الذي يشرب الدم اللزج ويبتسم، والدم الذي يفيض عن الحاجة وزجاجة الفودكا التي يشربها الجسد البارد في حياة أخرى… إلخ. ولا بد أن نذكر بأنها تضع القارئ أمام غبطة عالية تجعله ينتشي أمام سحر «الحسية المسرودة». إننا لسنا بصدد أي نزعة «سانتمانتالية» أو عاطفية مشبوبة. إننا أمام كون شعري شامل يتميز بخصوصيته التي يكاد يُسمع منها صرير الشبق المختنق بغيوم الموتى الذين رحلوا، والموتى الذين يشرعون الباب للعودة من حيث أتوا، وذلك في طابع سردي مكثف يجعلها تنتمي، عن حق، إلى قصيدة النثر.
الذهاب إلى «منطقة الحنين»، أو بشكل أوضح إلى «منطقة الجرح»، إلى ما يؤلم، إلى ذلك المضمر الذي يستدل عليه بإدمان ذلك الشيء غير الآمن الذي نسميه شعرا، هذا هو «المرض الأصلي» الذي يفشيه هذا الديوان الذي يقدم لنا الجرح كحالة مؤبدة، كمتوالية لا نهائية من الولادات التي تنبع من الذاكرة، ولهذا، فإن الشكل اللائق، الذي اختارته الشاعرة لترجمة هذه المتوالية المتكررة هي السرد، أي ذلك الانسراح الحكائي لمنازلة الغامض (الزمن)، وتوحيد تلك العاطفة الشعرية التي يتعاقب عليها الحب والموت (الإيروس والتانانوس/ الثنائية الأصلية للكون). وهذا التعاقب بين الموضوعتني هو ما يصنع، بشكل من الأشكال، الإيقاع الباطني الممسوك به في الديوان. هو «المكان الآخر» الذي تقيم القصيدة على حوافه.
إن القصيدة التي تقترحها علينا فدوى الزياني ليست قصيدة عاطلة، بل قصيدة يختلط فيها اللحم بالدم، وتمتزج فيها الهزائم الأصلية بالخيبات القدمة، والوأد الصريح المتواتر بالرغبة العالية. إنها «عمل جسدي» يشتغل ليصفي حسابه مع المحرم والممنوع، واختراق تلك «الشباك الأخلاقية» التي تؤطر علاقة الذات الأنثوية بالأصوات العنيفة النابعة من جسدها. تقول الشاعرة:
«هكذا كامرأة عَاديّة/ عاديّة جداً ، كلّ صباحٍ/ أكفّن عنادِل جسَدينا علَى فراش الصّمت/ وتخرج أنت للنّاس نبيّاً تخبِرهُم/ لقد قتلتُ حبيبتِي/ قتلتها هذِه اللّيلَة أيضًا» (ص: 16).
وتقول في قصيدة (وجه العذراء):
«مُرعب جدا أن أحبك في عالَمٍ يؤمنُ بالصمت/ أعلمُ أنني سأمُوت في غُرفة بنوَافذَ زرقَاء/ تطل على وجهِ الأطلسِي/ وهذا الجسد الصغير سيعَانقُ سرِيرا بعوامِيدَ نحَاسيّة/ في رغبة شبقيّة أخيرة/ سيكون حولِي أربعُون حفِيدا/ يسرقُون الحلَوى بينَ أسنانِي الوديعَة/ وسأمُوت../ سأموت كوجه العذراء/ قلبي حزين وروحي تبتسم» (ص: 29).
ونقرأ في قصيدة (وشم على كتف الفراشة): «تخيلتُك صيادًا لا يرفعُ عينيهِ عن ماء جسدِي/ يرمِي خيطَ القُبل طويلاً يقتفِي هُنا و هناكَ/ وشمَ الفراشَة حينَ يطفُو/ يحفَظ سرَّ المَوتِ في عينِي/ يستعجِل الغرقَ/ ليصعَد الى رُتبَة الملائكَة» (ص: 11).

إن مقاربة الشاعرة للجسد، يتأسس على المنطلقات والمرجعيات الحداثية لفعل التشهي، بأفق ينزع نحو تحطيم القواعد، وتسهيل تموضع الجسد كحقل دلالي داخل البناء الشعري للقصيدة، مما يتيح استغلاله داخل شبكة علاقات بين الدوال والمدلولات، حيث يتعالق الحسي بالإيروتيكي أو الشبقي. فالبناء أو القالب المادي الذي تتركب عليه الصورة الشعرية، في علاقتها بالجسد الباني لمكانه الخاص  والمؤسس لبعض يقينه، هو ما يعزز المشهدية السردية التي تحدثنا عنها سابقا.
بالطبع، إن نصوص «خدعة النور في آخر الممر» ليست تجربة شعرية غير مسبوقة على مستوى «الاختيار السردي». فثمّة تجاربُ أسبق تمسك بالمشاعل لتضيء القصيدة عبر سرديات يومية، تطول أو تقصر بأنفاس ومزاجات متفاوتة. غير أن ما يميز هذا الديوان «يتّصل بالضرورة بفكرة أنّ السرد كنمط كتابيّ يعتبر، في وجه من وجوهه، قالبًا ملائمًا يتحمّل هذا الكم من المشاعر السلبية والاهتراء الداخليّ الخافت، والوجود الذاتي الذي يعكس مأزقًا أنطولوجيًا في نفس الكائن، مأزق لم يعد أيّ نوع من قوالب الخطابة الشعرية، أو الصخب العاطفيّ الشعريّ، أو النثري المعروفة توازي مزاجاته».
إنه شعر تلقائيّ وجائع. تدور الأرض كلها حوله، فيكتب أحيانا على شكل قبضة، وأحيانا أخرى على شكل «غيمة تهشها عصى الريح»، لكنه أساسا يبحث عن إقامة علاقات أخرى ممكنة مع الأشياء بالطريقة السهلة التي تكون ممتنعة وعصية على التقليد، إذ هي تعكس حميميّة الشاعرة نفسها وتجربتها البالغة الخصوصيّة: تجربة «الحب والموت»، كما تقول الشاعرة، وكما يكشف لنا عنها «جورج بطاي» في كتابه «إيروس». فالموت غير قابل للمعرفة. ومن ثمة فليس لنا سوى الإقامة في خط التماس الذي يسميه هو»الضياع الجزئي»، ذلك أن هناك دائما «وسيلة للموت بالبقاء على قيد الحياة».
إن الجسد يتحول، وفق هذا المعنى، إلى مكان عابر للرغبات التي تعترض على نحو لصيق الذاكرة الممزقة بالمنع الجامح والمتعدد، وهذا ما يجعل باب المتعة مشرعا، ليس كاحتياج مرير، بل كاختلاج يملأ الذات بما تهفو إليه، أي بتلك المتعة التي تحقق قيمتها الأساسية من خلال الظفر بما يملؤها سلبا وإيجابا على المستوى الشعري. وهذا يستلزم أسلوبا في صياغة اللحظة وتطويعها من أجل أن تغدو مشبعة للحواس ومنصفة للرغبة. فالشاعرة تكاد تكون مسحورة بالخروج من نفسها للقاء جسدها والاستمرار معه على خط الكتابة إلى نهايته، حتى لو تطلب ذلك الذهاب بشكل معكوس إلى أقصى مكان (الموت). وهذا السفر الداخلي الصاخب نحو الموت، هو الذي يجعل الذات محاصرة بالثنائيات.
إن اكتشاف الموت يؤدي بالضرورة إلى محاولة التخلص منه عبر الوسيلة الوحيدة الممكنة، أي الشعر البالغ الحسية، الضارب في عمق الذاكرة، الموغل في إلغاء الحدود بين الجسد ورغبته. فالجسد، بهذا المعنى، هو العالم الحقيقي للحمى الشعرية التي تدفع الذات إلى اختراق كل الحواجز.

تقول الشاعرة:
«أنا جثة من نوع آخر/ عائدة من الحرب/ كل شيء مغروز كالشظايا على رماد جسدي/ لا شيء تخشينه بداخلي/ فتشي في خلاياي/ افتحي القلب الذي يطل على فراغ/ العصافير التي خذلتها شجرة أضلاعي/أطلقي سراحها/ الحنة مجاز كبير/ والملائكة هنا/ جثث أخرى لم يخطئها قناص والغيم/ وأنا جثة من نوع آخر/ أغنية ماطرة تسيل عكسا/ بلون الدم/ نحو السماء» (ص: 36)
وتقول أيضا: « لا أثر لدمعة واحدة/ على جسدي/ ولست ألوم اليد التي/ تسببت في هذا العدد الهائل من الثقوب/ أنا الآن قطعة إسفنج/ أتشرب الحب والحزن معا وبغزارة» (ص: 73)
في الديوان شعور كبير بالضيق الذي يتقطر حارا وحِمَمِيّا بين الكلمات. أليس الشعور بالضيق في كثير من الأحيان هو سر الملذات الكبرى، كما يقول بطاي؟ أليس الأوغادُ هم الذين يموتون على أسرتهم دون خدوش ولا أعطاب ولا شياطين؟

تقول الشاعرة:
«فكرة عادلة/ أن تموت منتحرا وأنت تحترق/ منصف جدا بعد الموت/ ألا يجد في جسدك/ كل الذين خذلوك/ ما ينفع للعناق» (ص: 75).
«أبحث ككل شيء عن تمامي في الأسماء /عن تمام الأحياء في رثاء الأموات / عن نقصان الأموات من ذاكرة الأحياء/ عن يتم المعنَى/ عن يتم الكفوف فوق التراب» (ص: 85).
إن السرد في شعر الزياني سطح تعبيريّ مستثمَر إلى حد بعيد بمزاجات لغوية وحساسيات شعرية عالية تبطّئ لتُشْتَمَّ، وتسرع لتضيء وتذوخ وتنشر الانتشاء في أرجاء الدنا والآخرة. وها هنا يتمفصل النصّ الشعري عن أي قصّ عادي أو مطلق سردٍ حكائي. إن هذا الديوان هو «وجه الحياة القلق، حيث ترتعد الولادة» (سركون بولص).  كما أن فعل الكتابة، في الديوان، يتحول الى منتجع للتخفّي أو واحة لاستجماع ما قد يرتحل ويضيع بهدف إعلان مبدأ «التفرد». تقول الشاعرة: «ودونَ أن أقصد / وجدتنِي أجدف بيد واحدة وبأخرى / أكتبُ قصائد مالحة / لا تُقرأ.. « (ص: 55).
وتضيف: «سأكتبُ قصائد أزرعهُـا بضِفاف الكون/ ولأطفَال الحي المُجاور سأهيئ ساحات شاسِعة / ومصانِع لرشاشَات جيفارا / ونهـَارات طويلَة طويلة / لا تنتهي.. « (ص: 80).
وتقول أيضا: «وبينَ خطوَة وخطوَة/ أكتبُ قصيدة للموت» (ص: 82).
إن فعل الكتابة، كما يقدمه ديوان «خدعة النور في آخر الممر»، يتأسس على شرب المالح بانشاء، ومجاورة الموت بسعادة، لأنه، في العمق لا ينضج ويكتمل إلا بالموت، لأن فيه خلاص الجسد الفاني من عالم جوهره التشويش والنقصان. ويبقى فعل الكتابة مكانا مطلقا تكتمل به الذات بموتها. يقول موريس بلانشو: «إذا اختار موته، إذا حقق حريته في الموت، وحرية موته، فإنه أدرك المطلق، وأصبح هو المطلق، بل أصبح بالتأكيد إنسانا، بحيث لن يبقى هناك مطلق خارجه». فالكتابة، بهذا المعنى، تشكل انبجاسا وانبثاقا لحياة حقيقية تتعالى على الواقع المادي. تقول الشاعرة: «المَوتَى عصافِير تَدُلّنا على طرِيقِ العَودَة/ الأشياءُ مسميَاتُنا حين تفقِدُ اللغَة بوصلتَها/ وأنا لستُ اسمًا لشَيء/ أنا آخرُ/ القصَائد التي كتبتهَا امرأة أمِيَّة وخبّأتهَا/ثم أشاعَتهَا حُزنًا قَبلَ أن تُغادِر..» (ص: 12).
إن الحزن هو ما يعترض الذات الشاعرة، وهو ما يدفعها إلى التعبير بكثافة عن التجربة اليومية لهذا الألم العابر للزمن، وللجسد أيضا؛ ذلك أن التجربة اليومية هي المزود الحقيقي والوحيد للشعر، وهي قوته التعبيرية الأولى. تقول الشاعرة: «كيف تصف لها كل هذا الألم/ وهي تمسك قلبها وتعصره كليمونة على بُقع الحزن القاتمة؟» (ص: 21). وتقول: «طيوف هاربة تتناسل من جثاميني العارية/ طيوف بالكاد تضيئ حلما في التماع الذاكرة/ هي نفسها الطيوف/ التي غادرتني وهي تسلك ذات الدرب/ ذات التعب،/ ذات الألم..» (ص: 87). فالألم يحضر ليضفي على «منطقة الجرح» هالة شعرية غامضة تميزها عن النقل الفوتوغرافي، وعن الرصد البارد المحايد للتجربة اليومية·
إن القصيدة التي تقترحها علينا فدوى الزياني قصيدة ذاتية جدا في استحضارها للألم ومكابدتها إياه، وهي قصيدة تتحدَّر من الحداد على الأم. تقول الشاعرة: «عيني الأخرى/ دفنتُها في أصيص ريحان عند رأسأمّي» (ص: 9). وتقول: « ساخبرُ قبرَ أمّي كُلّ الأسرار الصغيرة و المريرَة/ سأخبرُها أني كنت أمًا قبل أن تلدني/ وأني كنت ُ أقيم علاقة شرعيّة مع حبلنَا السري» (ص: 26). إن الأم الراحلة هي عش الكلمات. وبهذا المعنى، فإن القصيدة لا تقع خارج الألم، ولا تقاتل من أجل التخلص من ذاكرته، بل تستدعيه وتوقظه وتستخدمه وتنضج داخله وتمتحنه باستمرار. فالألم هو الذي ينظف رؤيتها للأشياء، ولذلك فهو تجربة ممتعة، وبذرة جمالية تزهر لتجعلنا تقف أمام تلك الصور الجميلة والشفافة التي تنتظرنا في كل منعطفات القصيدة.
إن الألم هو نقطة الانطلاق، ذلك الألم العاري الذي يتيح للشاعر أن تدخلنا إلى تفاصيل تجربتها مع الأب والأم والحب والموت والكتابة واللغة والنسيان والذاكرة، أي مع تلك الثنائيات التي تنصهر في ما بينها لتجعلنا ننخدع بالنور في آخر الممر.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 08/09/2017